لا أعرف لمن وجه المتحدث باسم وزارة الخارجية كلامه حين أعلن أمس الأول أن مصر أعربت عن «قلقها البالغ»، إزاء قرار إسرائيل ترحيل 70 ألف فلسطينى من الضفة الغربية، ولا أعرف ما هو الصدى الذى توقعه المتحدث حين أطلق تصريحه، هل خطر بباله مثلا أن تسارع الحكومة الإسرائيلية إلى عقد اجتماع لبحث ما ينطوى عليه ذلك «القلق البالغ»، من تهديد ومناقشة الإجراءات الواجب اتخاذها للتعامل مع تجليات ذلك القلق وخياراته المختلفة؟ وهل تصور أن ينزعج اللوبى الإسرائيلى فى أمريكا، ويسارع إلى التوجه بالرجاء إلى مصر لكى تهدئ من قلقها «البالغ»، أو أن تتحرك الخارجية الأمريكية بسرعة لاحتواء الموقف، حفاظا على إدامة السلام فى الشرق الأوسط؟ وهل تصور أن الرباعية الدولية سوف تدعو لاجتماع توفد على أثره مبعوثا إلى مصر لكى يناشدها ألا تذهب بعيدا فى التعبير عن ذلك القلق؟ وهل خشى أى سياسى فى الكرة الأرضية من أن «تتهور» مصر وتدعو إلى قمة عربية لاتخاذ موقف حازم من الجريمة الجديدة، التى أضافت بها إسرائيل فصلا جديدا فى سجل جرائمها التى لم تتوقف بحق الشعب الفلسطينى؟ هذه الأسئلة ليست من قبيل الاستفهام، وأحسب أن كل قارئ يدرك ذلك جيدا كما أننى لا أشك فى أن أى طفل فى العالم العربى على الأقل أصبح قادرا على أن يجيب عليها جميعا بالنفى، بعدما أصبح الوهن والعجز (هل أقول التخاذل؟) من السمات الأساسية لردود أفعالنا إزاء الجرائم الإسرائىلية. حتى أصبح غاية ما نملكه إما أن نعبر عن الأسف والقلق. وإما أن نناشد المجتمع الدولى بأن يتدخل ويتحمل مسئوليته القانونية والإنسانية إزاء ما تفعله إسرائيل. بكلام آخر فإن جهدنا أصبح مقصورا على مصمصة الشفاه والتعبير عن الأسف والتلويح بالإدانة، ثم مطالبة الآخرين بأن يقوموا بالواجب الذى تخلينا عن استحقاقاته. إن ما قاله السفير حسام زكى المتحدث باسم الخارجية المصرية يتوقع من بلد مثل كوستاريكا أو بوركينا فاسو أو جزر القمر. لكنه يصبح صادما ومفجعا حين يصدر عن مصر. التى لم يبق لها من أوراق إلا الورقة الفلسطينية. حتى إن وزير خارجيتها لم يعد بمقدوره أن يستأسد على أحد فى الكرة الأرضية بمثل استئساده على الفلسطينيين، الذين هدد بكسر رجل أى واحد منهم يعبر الحدود المصرية. ولم يستطع أن يتفوه بهذه العبارة بالنسبة للإسرائيليين. سيقول واحد من المرتعشين، هل تريد من مصر أن تعلن الحرب على إسرائيل؟ وإجابتى عن السؤال أن ما أدعو إليه لا يتضمن أى إشارة أو إيحاء يستدعى خيار الحرب (الذى لم تتخل عنه إسرائيل وتستخدمه كل حين) وإنما الذى أتحدث عنه أمر أكثر تواضعا، ولا يتجاوز حدود التعبير عن موقف شريف يتسم بالنزاهة والمسئولية، يوجه تحذيرا جادا إلى إسرائيل ولا يبعث إليها بما يثبت العجز والوهن، ويشجعها على المضى فيما عزمت عليه. إن مصر بكل وزنها حين تكتفى بالتعبير عن «القلق البالغ» إزاء طرد 70 ألف فلسطينى من الضفة، وهى جريمة بشعة بكل المقاييس، فكأنها تقول للإسرائىليين توكلوا على الله. وخلصونا من المشكلة بسرعة، حتى لا تحرجونا مع العرب الغاضبين والفلسطينيين الثائرين. ورغم أن ما قاله المتحدث باسم الخارجية المصرية كان معبرا فى حقيقة الأمر عن موقف أغلب الحكومات العربية. التى لم تعد القضية الفلسطينية ضمن أولوياتها، إلا أننا نخص مصر بالحديث باعتبارها الدولة العربية الأكبر. التى مازال مسئولوها يتحدثون عن قيادة الأمة وريادتها. علما بأن الوهن لم يسر فى جسد الأمة إلا بعدما انكسرت مصر والتحقت بالمعسكر الآخر (الذى وصف بالاعتدال رفعا للحرج) منذ وقعت اتفاقيتها المشئومة مع إسرائىل عام 1979. تستطيع مصر إذا أرادت أن تحذر إسرائيل حقا وترد على قرارها أن تكسر الحصار على غزة بفتح معبر رفح. وأن تعلق بعض الاتفاقيات المعقودة معها، وأن تستدعى سفيرها فى تل أبيب، وأن تدعو إلى قمة عربية جامعة أو تطالب من خلال مجلس الجامعة العربية بوقف إجراءات الطرد والتهويد والاستيطان خلال فترة زمنية محددة، وإلا تم تفعيل المقاطعة وأوقف التطبيع أو سحبت المبادرة العربية. ولابد أن تكون هناك خيارات أخرى أمام الخبراء، يمكنهم طرحها على الطاولة فى الرد على العربدة الإسرائيلية التى تجاوزت كل الحدود. أما أن نسكت عن اتخاذ أى موقف حازم ونكتفى بالإعراب عن القلق البالغ. فذلك يغدو هزلا فى موقف الجد ونكتة سخيفة لا تليق بقائلها.