لماذا يذهبون إلى الفن؟ هذا هو السؤال الذي استقر مُلحَّاً برأسي وأنا أشاهد الحضور الذين جاءوا لمشاهدة اللوحات التشكيلية الماتعة والرائعة التي زينت قاعة الفنون التشكيلية بقصر ثقافة المنيا ضمن معرض ملتقى شرق وشرق الذي عقد يوم الاثنين الماضي . والإجابة تبدو منطقية في أن رواد مثل هذه المعارض التشكيلية إما من المتخصصين في مجال الفنون ، أو من ذوي الاهتمام المحموم بالفن وأهله. لكن حينما تكون الأعمال الفنية المشرقة بمعرض ملتقى شرق وشرق صادقة وأكثر تنوعاً لتكافئ رغبات المتلقي الذي لا تهدأ دوافعه واتجاهاته وميوله فإن الحضور حينئذ معادل موضوعي لهذا التميز في التنوع ، والصدق في المنتج الإبداعي ، ليس هذا فحسب ، فحينما تلتقي أعمال سبعة وعشرين مبدعاً داخل قاعة واحدة فإن هذه الأعمال كفيلة بأن تستحيل بوصلة لاتجاهات الفن وصنوفه أيضاً. فضلاً عن أن رواد مثل هذه المعارض التشكيلية لا يذهبون إليها بحثاً فقط عن الجمال الصامت أو المسكوت عنه أو الإمتاع البصري ، بل لتحقيق المعنى الإنساني الأشمل، وهذا لن يتحقق للمرء إلا من خلال بعض الوسائط الأكثر إنسانية مثل التصوف والشعر والفن والموسيقى . ومخطئ من يظن أن الفن التشكيلي يعد رفاهية في أيامنا الراهنة ، بل أصبح بصورة حصرية في دول الربيع العربي مادة رئيسة تقام فعالياتها في ميادين الثورة ، وصار الفن أداة قوية وفاعلة في حشد القوى الثورية. وتصادف عيناك في معرض شرق وشرق بعض الأسماء الواعدة في مجال الفن التشكيلي بجانب القامات التشكيلية التي رصد كتاب التاريخ الفني إسهاماتها وإبداعاتها طيلة أعوام بعيدة مضت . فترى أسماء واعدة بحق وذات تجربة إبداعية متمايزة عن التشابه والمحاكاة النصية مثل محمد مصطفى وهبة فؤاد وكوثر علي وليالي عبادة وإيمان فرغلي ، وهؤلاء فنانون يصرون على مساءلة الكون وترويضه بأعمالهم بل وتفسير بعض أسراره ، ولقد أكدوا من خلال ما قدموه من أعمال الحكمة القائلة بإن الفن العظيم يبدأ من حيث تنتهي الطبيعة. بجانب الحضور المتميز للفنان الحقيقي إبراهيم عيسى الذي يصر في أعماله على إيصال رسائل قصيرة تداعب العين تارة ، وتدغدغ العقل بالتفسير والتأويل تارة أخرى ، ومن الصعب في تجربة الفنان إبراهيم عيسى أن نفصل بين الإنسان وفنه فجاءت لوحاته معبرة عن هذه الحالة الفريدة وصادقة لدرجة التوحد بين العمل الإبداعي وذاتية الفنان. إن هذه الأسماء وما قدمته من أعمال تشكيلية متعددة في الرسم والتصوير والطباعة والنحت والخزف والنسيج والتصميم في الفراغ تعد تجربة تتعانق فيها الموهبة بالدراسة الأكاديمية ، ولعل أجمل ما ميز أعمالهم أنها جاءت بغير عناوين أو مسميات لها ، فكان ذلك دافعاً قوياً للحضور المكثف في أن يصبح شريكاً للعمل الإبداعي . لقد تسابق الفنانون بملتقى شرق وشرق في التعبير عن رؤاهم الوطنية ، والخروج بأعمالهم المتنوعة إلى شتى رغبات المتلقي الباحث عن جديد يسبر غور عطشه نحو الفن والإنسانية التي يبحث عنها . وحقاً إن اللجوء إلى مفردات الطبيعة والبيئة المحلية هي المدرسة الحقيقية لإشاعة الفن والذوق الجمالي للملايين من الشعب وهذا ما يتلمسه الرائي لمعرض شرق وشرق حيث جاءت الأعمال التشكيلية من رحم البيئة الصعيدية المصرية ، غنية في الفكر راقية في الذوق . وأصدق ما يقال عن معرض ملتقى شرق وشرق أنه انهيار عصبي للحداثة التي توغل في التجريب غير المفهوم والغموض المبالغ في اقتناصه ، لذلك جاءت أعمال الفنانين واضحة المعالم والدلالات تميل إلى المكاشفة الفنية أكثر من الولوج إلى عوالم مبهمة قد تزيد من تشويش التلقي ، إن ملتقى شرق وشرق الذي شاهدته عن قرب هو حالة فنية فريدة تشبه القصة والسيناريو بل والحوار أيضاً عن طريق مشاركة الحضور في نقاشات مستدامة مع أصحاب الأعمال الفنية . وكم هو جميل أن يطل علينا مبدعون بأعمالهم المليئة بالمشاعر والعواطف والأفكار في ظل ظروف عصية تمر بها مصر حالياً وكأن لسان حالهم يقول ويؤكد أن مصر ستظل بخير إن شاء الله. د. بليغ حمدي إسماعيل