لا شكَّ أن رسالة الدين الإسلامي رسالةً عالمية تبتغى الوصول إلى جميع البشر على ظهر هذا الكوكب الأزرق، ولا شكَّ كذلك أن حق دخول الإسلام مكفول لجميع بني آدم دون تفريقٍ بينهم سواء على أساس النوع أو الجنس أو العرق أو غيرها من مسوغات الاختلاف الموجودة بين البشر، ولكن لكي تضمن هذه المجموعات البشرية المتنوعة حياة قوامها الأمن والسلام والرفاهية في ظل مجتمع إسلامي لابد لها من السير على قواعد ومبادئ عامة تكفل لها جميعاً حقوقها الإنسانية المباشرة المادية أو غير المباشرة الفكرية والثقافية بالقدر الذي يكون لكل فردٍ فى هذا الإطار المجتمعي حيزه الخاص الذي يأمن فيه على نفسه ويمارس فيه كافة النشاطات التى يراها مناسبة لنمط حياته وفكره دون اقتحام أحد عليه هذه المساحة الخاصة التى رسمها الإنسان بكامل حريته لنفسه. عندما يقول الحقُّ سبحانه وتعالى :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا .... " فإننا نجد أنفسنا إزاء قضيتين جوهريتين تتم مناقشتهما كثيرا فى الفضاء الثقافي والإجتماعى نظراً لأهميتهما الشديدة، القضية الأولى هى ثنائية الذكر والأنثى، والقضية الثانية هى قضية التنوع والاختلاف بين البشر، أو بصياغة سيكولوجية نقول: قضية العلاقة بين الأنا والآخر، وكلتا القضيتان يتم التعامل معهما فى التشريع الإسلامى فى ظل إطار جامع لهما ومظلة تشمل مكوناتهما بحيث يفضى الإختلاف الواقع فى خصائص كل عنصر من عناصرهما المكونة إلى الوحدة الحادثة فى ظل القاعدة العامة التى وضعها الله سبحانه وهى التعارف، ومفهوم التعارف ينطوى بالضرورة على مفهوم التكامل، وفى القضية الأولى نجد أن الله سبحانه قد بين أنه خلق الإنسان من جنسين هما (الذكر والأنثى)، وجعل العلاقة بينهما تقوم على التعارف بما يحمله المفهوم فى طياته من تكامل وترابط و تناسق، ولا يقتضى التعارف والتكامل حدوث حالة من التماهى تذوب فيها الحدود والفواصل القائمة بين طرفى الثنائية، لأن ذوبان هذه الحدود واختلاطها يطمس معالم التمايز والخصوصية والتفرُّد، فالأصل فى العلاقة هو التكامل والتعارف الذى يراعى المساوة بين الطرفين حسبما تقتضى معايير هذه المساواة وبالطريقة التى يتم فيها مراعاة أشكال الإختلاف الجنوسي والعاطفى والوظيفي بين الطرفين، لأن اتحاد طرفى الثنائية يؤدَِى إلى نشوء حالة من القطبية الأحادية التى تصل فيها حالة التماهى إلى أقصى درجاتها، وبالتالى فإن هذا يستدعى بالضرورة انعدام الثنائية والوصول إلى أحادية تُخِلُّ بالتوازن الذى لا يكون إلا بوجود طرفين يتمم كلٌّ منهما الآخر. ونرى أنه كما يحدثُ هذا التعارف/التكامل على مستوى الأفراد فإنه يحدثُ كذلك على مستوى الشعوبِ والمجموعات البشرية على اختلاف مسمياتها وتنوع أشكالها، والمجتمعات البشرية يجب ان تقوم العلاقات بينها فى إطار الوحدة الجامعة والشاملة لها، وهى بهذا تصبحُ مثل الأواني المستطرقة أو قوالب الطوب التى يكمل بعضها بعضاً بالشكل الذى لا يسمحُ بوجود مسافات ولافراغات بين هذه الكيانات لكي يتم تكوين المجتمع الإنساني العالمي بشكلٍ يحترمُ الإختلاف والتنوع ويحفظ لكل شعبٍ ومجتمعٍ مساحة من الحرية الشخصية التى يمارس فيها المجتمعُ ما يراه صالحاً له طالما أنه لا يضرُّ مصالح الآخرين، ومن هنا تتحقق كوكبية الثقافة الإنسانية فى ظلِّ فكرة عالمية الرسالة الإسلامية، ولذلك عمِلت الشريعةُ الإسلامية على مراعاة هذه الإختلافات الفردية والجماعية من خلال التنظير والتقعيد للمبادئ التى تحكم سلوك الأفراد داخل المجتمع الإسلامي، ففي ظل هذا المجتمع تقوم العلاقات المتبادلة بين عناصره على التجاوب والتفاعل فيما بينها حتى يحتفظ المجتمع بديناميكيته التى تتناغم مع حركة الناموس الكوني، وهذا التفاعل الحادث بين العناصر الداخلية يحول دون وقوع هذا المجتمع فى شَرَكِ الجمود والاستاتيكية، ولكن لا يعنى هذا إنغلاق المجتمع على نفسه بالشكل الذى يضرُّه ويتعارض مع فكرة العالمية والكوكبية، ومن هنا كان حرص الإسلام على تأهيل أفراده ليكونوا كوادر قادرةً على حملِ مشعلِ الإسلامِ مصحوباً بمشعلِ الحضارةِ لتوصيل الرسالة إلى بقاع الأرضِ كافة، والعمل على توصيل الرسالةِ ينطوي بلا شكٍ على صعوباتٍ جمِّةٍ وعقبات متعددةٍ تتمثّل فى الإصطدام الأولي بعقائد المجتمعات الاخرى وعاداتهم وتقاليدهم وانماطهم الفكرية ونماذجهم الإدراكية التى قد تختلفُ بطبيعةِ الحالِ عن الأفكار والقواعد التى يتأسس عليها الفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية، ولذلك كان من الضروري لحملة الدعوة الإسلامية (والتى لا تقفُ على الدعاةِ وحسب وإنما تشمل جميع أفراد المجتمعِ الإسلامي، رغم أنها فرضُ كفايةٍ إذا قام بها البعضُ سقطت عن الكُلِّ، ولكن على الأقلِّ إن لم يمارس أفرادُ المجتمعِ الإسلامي الدعوة بشكلٍ مباشرٍ وصريحٍ فيجب عليهم أن يضربوا للآخرين مثالاً ونمودجاً مثالياً للفرد المسلم) أن يطَّلعوا على ثقافاتِ الآخر، وهذا الإطلاعُ يعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على محاولة فهم الآخر والتفاعل والتعرف على الأفكار التى يتعامل فى إطارها حتى تتم مراعاة ظروفه الخاصة وأحواله الفريدة التى يجب أخذها فى الحسبان قبل ولوجه إلى عالم المجتمع الإسلامي، ولكي لا يشعر بدخوله إلى الرياض الإسلامية أن ثمة زهورٍ أخرى قد فقدها فى بستانه الأول .