من بين الأصوات الصحفية الأمريكية التي حاولت أن تبصر ما وراء الضجيج السياسي والعسكري في الشرق الأوسط، يبرز اسم ريتشارد بن كرامر بجرأته الاستثنائية ونظرته المتوغلة في عمق المأساة. في كتابه "How Israel Lost: The four Questions"، لا يكتفي كرامر بسرد وقائع الصراع، بل يسعى إلى تفكيك الحكاية الإسرائيلية من الداخل، وإلى الإصغاء لتلك الأصوات التي خُنقت طويلًا خلف جدران الدين والسياسة والخوف. وقد تُرجم هذا الكتاب إلى العربية عام 2011م عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، بترجمة الأستاذ ناصر عفيفي، في ما يقارب 252 صفحة، ليضع بين أيدي القارئ العربي عملًا فريدًا في جرأته وصدقه، يُعيد قراءة الصراع العربي – الإسرائيلي من زاوية إنسانية وأخلاقية لا تخلو من الدهشة. جاءت الترجمة بلغةٍ أنيقة تنبض بروح النص الأصلي، محافظةً على نبرته الساخرة أحيانًا، والمتأملة حدّ الألم أحيانًا أخرى، لتفتح أمام القارئ العربي نافذةً على رؤيةٍ غربية نادرة تتجاوز السياسة إلى الإنسان. ومن هذا الأفق الواسع، ينطلق كرامر في رحلةٍ فكريةٍ مليئة بالدهشة والجرأة، صاغها في أربعة أسئلة تشبه المرايا التي تُجبر إسرائيل والعالم على مواجهة أنفسهم: لماذا نهتم بشأن إسرائيل؟ ولماذا لا يملك الفلسطينيون دولة؟ وما المقصود بدولة يهودية؟ ولماذا لا يتحقق السلام؟ أسئلة تبدو بسيطة، لكنها تمسّ أعماق الوعي الغربي والإسرائيلي والفلسطيني معًا، فتتحول صفحات الكتاب إلى رحلة داخل الذاكرة والسياسة والضمير الإنساني. ومن هنا يبدأ كرامر رحلته الأولى بسؤال صادم في بساطته: أولًا: لماذا نهتم بشأن إسرائيل؟ يبدأ كرامر بتحليل العلاقة العاطفية والسياسية المعقّدة بين الغرب وإسرائيل. فبالنسبة له، لم تعد المسألة مسألة تضامن أو دين مشترك، بل هوس سياسي وأخلاقي تشكّل عبر عقود من الشعور بالذنب والالتباس التاريخي. الغرب، كما يرى، لم يكتفِ بدعم إسرائيل، بل تبنّاها كمرآة لذاته، مشروعًا يُعيد له إحساسه بالبراءة بعد قرون من الاضطهاد والعنف. وفي المقابل، نجحت إسرائيل في تغذية هذا الارتباط حتى صار عقيدة ثقافية لا تقبل النقاش. إنها الدولة التي تُعامل كاستثناء دائم، لا يُسأل عن أفعاله ولا يُحاسَب على جرائمه. يذكّر كرامر القارئ بأنّ هذا «الاهتمام» ليس حبًا في إسرائيل بقدر ما هو محاولة غربية مستمرة لمداواة جرح قديم في الوعي الأوروبي. لكن النتيجة أنّ إسرائيل تحوّلت من قضية إلى أسطورة، ومن وطن إلى رمز أخلاقي زائف، حتى فقد العالم قدرته على رؤيتها بعيون موضوعية. وهكذا يفتح الباب إلى السؤال الثاني الذي يتسلل من قلب الواقع الفلسطيني: ثانيًا: لماذا لا يملك الفلسطينيون دولة؟ بعد أن يُعرّي كرامر طبيعة العلاقة الغربية بإسرائيل، ينتقل إلى السؤال الذي يفضح جوهر المأساة: لماذا لا يملك الفلسطينيون دولتهم حتى الآن؟ يبدأ تحليله من اللحظة التي تحوّل فيها الفلسطيني إلى كائن غائب عن السردية الدولية. فكل حديث عن الدولة الفلسطينية كان يُختزل في لغة الأمن الإسرائيلية لا في حق الإنسان الفلسطيني في الحياة. يرى كرامر أن مأساة الفلسطينيين ليست فقط في الاحتلال، بل في الخطاب الذي سلبهم صوتهم، فصار وجودهم ذاته مشروطًا باعتراف الآخر. إنها سياسة نفي ممنهجة: نفي الأرض والتاريخ والهوية. فالاحتلال في نظره لم يعد مجرد احتلال جغرافي، بل احتلال للوعي. يستعرض كرامر أمثلة من الواقع، من أوسلو إلى الانتفاضة الثانية، من الحواجز إلى المخيمات، ليُظهر كيف فشلت كل الوعود في ترجمة الحق إلى واقع. السبب، كما يرى، أن إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية، والعالم لا يملك الشجاعة ليجبرها على ذلك. وهكذا يُمهّد الكاتب لسؤاله الثالث الذي يمس جوهر الفكرة الصهيونية ذاتها: ثالثًا: ما المقصود بدولة يهودية؟ بعد أن يطرح كرامر سؤال الدولة الفلسطينية، ينتقل إلى سؤال أكثر عمقًا وخطورة: ما الذي تعنيه «دولة يهودية» حقًا؟ هل هي دولة دينية أم قومية؟ وهل يمكن أن تكون ديمقراطية وهي تقوم على هوية واحدة مغلقة؟ يتتبع كرامر الجذور الفكرية لهذه الفكرة، ليكشف التناقض البنيوي داخلها: فالدولة التي تعرّف نفسها بأنها «يهودية» لا تستطيع أن تكون دولة لكل مواطنيها. ومع ذلك، تُصرّ على الادعاء بأنها نموذج للديمقراطية في الشرق الأوسط. يصف كرامر هذا التناقض بأنه قلب المأساة الإسرائيلية، لأن الدولة التي وُلدت من خوف وجودي ما تزال تعيش داخله. فهي تُبقي على التمييز باسم الهوية، وتُقصي الآخر باسم الخلاص. في نظره، إن الإصرار على «يهودية الدولة» ليس حفاظًا على الذات، بل سجن اختياري تحكم إسرائيل على نفسها به، لأنها تخاف أن تكون دولة عادية مثل سائر الدول. ومن هنا ينطلق كرامر إلى السؤال الأخير، الذي يختزل المأساة الإنسانية كلها في جملة واحدة: رابعًا: لماذا لا يتحقق السلام؟ في هذا السؤال يبلغ الكاتب ذروة تأمّله الإنساني. فالسلام، في رأيه، لا يتعطل بسبب السياسة وحدها، بل لأن الخوف أصبح لغة الحياة اليومية. لا إسرائيل قادرة على التخلّي عن خوفها، ولا الفلسطينيون قادرون على نسيان جرحهم. يرى كرامر أنّ السلام لم يُمنع بالسلاح، بل بالأفكار وبالذاكرة التي لم تُشفَ. فكل طرف يرى في التسوية خيانة لتاريخه، وفي الاعتراف بالآخر تنازلًا عن ذاته. لقد صار السلام مستحيلًا لأن كل طرف يعيش أسير روايته الخاصة، ولا أحد يريد أن يسمع الرواية الأخرى. يقول كرامر في نبرة يائسة شديدة الصدق: «لن يكون هناك سلام ما دمنا نبحث عنه في الخرائط، لا في القلوب.» وهكذا ينتهي إلى أن المشكلة ليست في غياب الحلول، بل في غياب النية الصادقة لرؤية الإنسان في الطرف الآخر. فحين يفقد الناس إيمانهم بالعدالة، لا يبقى في السياسة سوى الخداع، ولا في السلام سوى الوهم. وفي المحطة الأخيرة من هذا التأمل، يخرج القارئ من هذا الكتاب كما يخرج من مرآة تُريه ما لا يريد أن يرى. فكرامر لا يقدّم إجابات نهائية، بل يترك الأسئلة مفتوحة كجروح على ضمير العالم. لقد خسرت إسرائيل، كما يقول، لا لأنها هُزمت في حرب، بل لأنها فقدت قدرتها على التعلّم، وعلى الحب، وعلى الرؤية. وخسر الفلسطينيون لأن العالم خذلهم، وخسر الغرب لأنه صدّق الأكاذيب التي صنعها بيده. وفي النهاية، لا يسأل كرامر القارئ أن يختار طرفًا، بل أن يستعيد إنسانيته. فمن يهتم حقًا بإسرائيل، عليه أولًا أن يفهم كيف خسرت نفسها وهي تحاول أن تربح كل شيء.