مرَّ على تاريخ السينما حوالي 130 عامًا منذ أن أطلق الأخوان لوميير شريطهما الأول، عام 1895، في أحد مقاهي باريس. منذ ذلك الحين انتشر عبير الفن السابع في أرجاء الكون وتطوَّر سريعًا بشكل مذهل؛ حتى أضحى فن السينما واحدًا من أبدع الفنون وأرقاها وأكثرها تأثيرًا. والسينما -مثلما هي بالمقام الأول صناعة ترفيهية للمتعة- فهي كذلك رسالة، أو فلنقل إن كل فيلم يحمل بين طياته الكثير من الأفكار والرؤى، التي لا تفرض علينا بالضرورة التوحد معها، ولكنها مدعاةٌ في كل الأحوال لمناقشتها. في كتابه »الحبكة المقدسة: الدين في السينما الغربية« (منشورات إبييدي، 2025)، يقدِّم لنا الباحث أسعد سليم، عبر 270 صفحة من القطع المتوسط قضايا جادة تتعلّق بالدين في السينما، أو كيفية تناول صناعة السينما للموضوعات والرؤى الدينية في قالبٍ فني وفكري. لقد ناقشت السينما -منذ بدايتها الأولى- الكثير من الموضوعات المختلفة مثل الدراما، والكوميديا، والأكشن، الجريمة والرعب والغموض، والفانتازيا والخيال العلمي، والإثارة والرومانسية والمغامرة، والكثير من الأشكال الأخرى، التي يصعب حصرها، لكن واحدًا من القضايا المهمة، كان بمنزلة القلب منها، وهو موضوع الدين، فمنذ تدشينها أولت جُلَّ اهتمامها بهذا الموضوع الشائك. قبل الدخول في صُلب الدراسة التي بين أيدينا عن الدين في السينما الغربية؛ يثير الباحث هذا السؤال المهم: ما الدين؟ وما السينما؟ يمكن اعتبار أن الأديان شكلٌ مُنظّم من المعتقدات والممارسات والرموز، التي ترتبط بفكرة الخالق الأعلى، أو الحقائق الروحية، أو الهدف النهائي (الله). وتُعنى الأديان بتفسير الطبيعة والكون والروح الإنسانية، وتُقدِّمُ إطارًا أخلاقيًا، تحاول أن تضمن به سلوكيات الأفراد للوصول إلى شكلٍ من أشكال المجتمعات الراقية المتقدمة. حذت السينما حذو الأديان؛ فاخترعت لنفسها ديدنها الخاص، فالسينما ليست مجرد عرض فيلم على الشاشة، بل محاولة لسبر أغوار الحياة بكل أسرارها، ورسم كونٍ موازٍ تشكِّله على هواها، ولها أيضًا مبادئ أساسية، منها: الممارسات، والنصوص الحاكمة، والقيم الأخلاقية، والمجتمع السينمائي. الشاهد أن السينما أصبحت عالمًا متكاملًا في حد ذاتها، تمتلك منظومتها الفاعلة الخاصة، ورؤاها المتفردة التي تخرج عما ألفناه واعتدناه. ولعل ذلك أيضًا ما أثار ثورة الكنيسة والمتدينين والمحافظين تجاه السينما، فمنذ بواكيرها الأولى تصدَّت السيما الغربية لموضوعات الدين المختلفة، والتي كان على رأسها تقديم رؤيتها الخاصة جدًا حول المسائل الدينية المعقّد والشائكة؛ فالله، والملائكة، والأنبياء، والشيطان، والنعيم والجحيم، ويوم الحساب، والطقوس والأسرار، والضمير الديني، والإلحاد، والهرطقة، ونهاية العالم، كلُّها أصبحت مادةً دسمة في أيدي صُنّاع السينما، يلهون بها كيفما يشاؤون، ويقدِّمونها على الشاشة بالشكل الذي يريدون، ولعلنا نذكر هنا المقولة الشهيرة للناقد الفرنسي المؤثر أندريه بازان (1918-1958)، »كانت السينما مهتمة دائمًا بالله«؛ للتدليل على مدى اهتمام السينما بالدين بشكلٍ خاص (ص 7). بدأت المعركة في الاشتعال بحلول عام 1909، زمن السينما الصامتة، حين قررت الكنيسة الكاثوليكية تشكيل لجنة لمراجعة الأفلام، وبدأ -حينذاك- ما يُعرف بإنشاء النموذج الأولي لتصنيف الأفلام، تلا ذلك -في ثلاثينيات القرن العشرين- تكوين ما عُرف ب»جماعة فيلق الحشمة«، وهي مجموعة كاثوليكية أميركية، كان هدفها كما هو معلن »مكافحة الفجور في السينما«. وقال دان غيلبرت رئيس لجنة رجال الصحف المسيحية للتحقيق في صناعة الأفلام ذات مرة »إن هوليوود هي أقرب شيءللجحيم على الأرض، وهي ما تمكَّن الشيطان من إقامته حتى الآن في هذا العالم ونفوذ هوليوود يقوّض الثقافة والحضارة المسيحية التي بناها آباؤنا على هذه الكوكب«. في عام 1930، كانت الطامة الكبرى، واللطمة الأكبر، التي وُجهِّت للسينما؛ في أميركا تم تنفيذ قانون إنتاج الأفلام، وهو ما عُرِفَ ب»قانون هايز«، والذي استمر تطبيقه حتى عام 1968. فقد تبنّى ويل هاريسون هايز، رئيس الرقابة في هوليوود -وقتذاك- قانون إنتاج الأفلام، بالاشتراكِ مع هيئة منتجي وموزعي الأفلام في أميركا. كان القانون عبارة عن مجموعة من التعليمات الصارمة للرقابة الأخلاقية، التي حَكَمت إنتاج الأفلام الأميركية. وكانت صيغة البند الأول من هذا القانون: »يُمنع منعًا باتًا« ذِكرُ كلماتٍ مثل: »الله، المسيح، يسوع«، ما لم تُستعمَل بشكلٍ موقر بالارتباط مع المراسيم الدينية المصاحِبة« (ص 8). في بدايات صناعة السينما، وجدت كنزًا ثمينًا متمثلًا في النصوص المقدسة، يمكن أن يُمدها بثراء فكري متنوع، فكانت البداية عام 1898، بالفيلم الفرنسي »حياة وآلام يسوع المسيح«، للمخرجَين جورج هاتو ولويس لوميير، وكانت مدته حوالي 11 دقيقة. في الولاياتالمتحدة، أخرج ستيوارت بلاكبتون فيلم »حياة موسى«، عام 1909، وقد تناول فيه حياة النبي موسى منذ طفولته. بدأت التحديات مبكرًا مع فيلم »من المهد إلى الصليب«، عام 1912، حيث أثار هذا الفيلم الأميركي -الذي تم تصويره في فلسطين- الجدل بسبب تجسيده المباشر لشخصية المسيح، وهو ما اعتبره البعض حينها تجديفًا. بعدها، بدأت السينما في تلمُّس طُرق مختلفة لعرض الموضوعات الدينية، ابتعدت فيها عن التقليدية إلى حدٍ ما، كما حدث في فيلم Intolerance »التعصب« (1916) للمخرج ديفيد وارك جريفيث، والذي يعد تحفة ذلك العصر سينمائيًا، وتضمَّن العمل أربع قصص، إحداها عن المسيح. ترك الكساد الكبير (1929-1939) الملايين حول العالم في حالة من اليأس والإحباط، وهو ما جعل القصص الدينية التي تدعو للأمل والخلاص، فكرةً جذابة وملهمة، ينتظرها الناس بشغف. قامت السينما -ابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين- بإنتاج ملاحم دينية ضخمة، بمؤثراتٍ بصرية مقبولة. برز اسم المخرج سيسيل بي. ديميل كواحدٍ من أهم صناع السينما في تلك الفترة، من خلال فيلمه الصامت The Ten Commandments »الوصايا العشر«، الذي كان الشرارة الأولى نحو إنتاج أعمال ملحمية مبهرة. تقدَّمت هوليوود خطوة للأمام، بمحاولة تقديمها أفلامًا دينية ذات طابع إنساني، مثل The Green Pastures »المراعي الخضراء« (1936)، الذي عرض تصويرًا فريدًا للملائكة، من منظور الثقافة الأفرو-أميركية. أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، كان لزامًا على السينما أن تكون أداةً لرفع الروح المعنوية، وبالفعل حاولت ذلك في فيلم The Song of Bernadette »أغنية برناديت« (1943) والذي يحكي عن فتاة تُدعى برناديت، ترى رؤى متعددة للسيدة العذراء مريم، وهو ما مثّلَ رسالة أمل، في وقت كانت فيه أوروبا تعاني من الدمار. في الوقت نفسه، ظهرت أفلام أخرى تستكشف التعقيدات الإيمانية، ومنها فيلم The Keys of the Kingdom »مفاتيح المملكة« (1944). في الخمسينيات، وصلت الملاحم الدينية إلى ذروتها مع فيلم Ben-Hur »بن هور« (1959)، الذي حصد 11 جائزة أوسكار، وتناولَ اضطهاد المسيحيين في روما القديمة، مستخدمًا مشاهد مذهلة لسباق العربات؛ لجذب الجماهير. تحت ضغط التغييرات الجذرية، التي أحدثها كلٌّ من الثورات الثقافية، والاجتماعية، والعلمانية، وحركات التحرر في الستينيات، تحررت السينما هي الأخرى من القوالب الدينية الجامدة والتقليدية، وتناولت موضوعات مثل مساءلة الأديان والتشكيك في المقدسات، مثل أفلام السويدي إنغمار برغمان The Seventh Seal »الختم السابع« (1957)، وكذلك The Silence »الصمت« (1963)، وأيضًا Winter Light »ضوء الشتاء« (1963). في الولاياتالمتحدة، بدأ استكشاف السينمائيين للدين بوصفه مصدرًا للرعب، مثلما قدَّم المخرج رومان بولانسكي في فيلمه » Rosemary's Babyطفل روزماري« (1968)، وهو أيضًا ما فعله المخرج وليام فريدكين في فيلمه The Exorcist »طارد الأرواح« (1973). ثم كان التطور الكبير ، حيث أثيرت موضوعات مثل الإلحاد والهرطقة، مثلما فعل المخرج كين راسل في فيلمه The Devils »الشياطين« (1971). يقول الباحث أسعد سليم إنه مع بدء تسعينيات القرن العشرين، أصبح العالم يموج على سطح هائل من التكنولوجيا والمعرفة، وظهرت أفلام Matrix »ماتريكس«، عام 1999، لتجمع بين المسيحية والبوذية والغنوصية في حبكة من الخيال العلمي. وأخذت الأفلام الدرامية منحنىً جديدًا، حيث قدَّم المخرج ميل غيبسون فيلم The Passion of the Christ »آلام المسيح« (2004)، في حين أشار المخرج آنغ لي في فيلمه Life of Pie »حياة باي« (2012) إلى تعددية الإيمان في مشاهد بصرية مذهلة، في حين تحدَّى فيلم The Da Vinci Code »شفرة دافنشي« (2006) الروايات الدينية التقليدية في السردية المسيحية (ص 12). يزخر »الحبكة المقدسة: الدين في السينما الغربية« بالكثير من التفاصيل عن السينما الدينية أو السينما التي تعالج موضوعات الدين، بما يعنيه ذلك من تطلعات الإنسان وقناعاته، بل وتطوراته، عبر العصور.