انطلاق جولة الإعادة للانتخابات البرلمانية للمصريين في اليونان    نظر الطعون على نتيجة المرحلة الثانية لانتخابات النواب    حضر التلاميذ وغاب المدرسون، استياء بين أولياء الأمور بسبب غلق أبواب مدرسة بمطروح    23 ديسمبر، انطلاق المؤتمر الدولي الأول لتجارة عين شمس "الابتكار والتكنولوجيا المالية"    انقطاع التيار الكهربائي عن 14 قرية وتوابعهم ومنطقة ب7 مراكز بكفر الشيخ    تراجع سعر اليورو اليوم الأحد 7 ديسمبر 2025 أمام الجنيه بالبنوك المصرية    إصدار وتجديد تراخيص شركات إنتاج وتوزيع وبيع الطاقة الكهربائية    الاحتلال يواصل خروقاته بقطاع غزة ويكثف من عمليات نسف مبانٍ في خان يونس    وزير الخارجية يلتقى رئيس جمهورية الصومال الفيدرالية على هامش منتدى الدوحة    الحوثيون يبدأون محاكمة 13 مختطفا بينهم موظفون في السفارة الأمريكية    أزمة صلاح وسلوت تتصاعد.. اجتماع طارئ في ليفربول لحسم مستقبل الفرعون المصري    وزير الرياضة يهنئ محمد السيد بعد تتويجه بذهبية كأس العالم للسلاح    منافس بيراميدز المحتمل - رغم عدم الخسارة.. كروز أزول يودع من نصف نهائي الدوري المكسيكي    محمد صلاح .. عندما تقسو الكرة على الأساطير    انخفاض في درجات الحرارة وتوقعات بهطول أمطار بكفر الشيخ الأحد 7 ديسمبر 2025    النشرة المرورية.. زحام على الطرق الرئيسية فى القاهرة والجيزة    المتهم بقتل زوجته فى المنوفية: ما كنش قصدى أقتلها والسبب مشاده كلامية    الخشت: تجديد الخطاب الديني ضرورة لحماية المجتمعات من التطرف والإلحاد    نعوم تشومسكي، المفكر الذي واجه إمبراطوريات السياسة ورفض النازية والليبرالية المتوحشة    رئيس جامعة سوهاج: مبادرة تمكين نقلة نوعية لدعم ذوى الهمم وإعفاء من المصروفات    أكرم القصاص: ظهور الرئيس السيسى فى فيلم فيفا رسالة تؤكد دور مصر فى السلام    متى يُعرض فيلم Peaky Blinders في السينما؟    وزير الصحة: وضع تصور شامل للمبادرات الرئاسية والبرامج الاستثمار فى البشر    طريقة عمل طاجن الفراخ بالبرتقال، وصفة سهلة التحضير ومغذية    حصيلة أهداف كأس العرب 2025 بعد الجولة الثانية    سعر السمك اليوم الأحد 7 ديسمبر 2025 فى محافظة المنيا    المبعوث الأمريكي يعلن رسميًا: لا تدخل بري في أوكرانيا.. وروسيا تُدمّر 77 مُسيّرة    مصرع 25 شخصا في حريق اندلع بملهى ليلي بولاية جوا الهندية    نظر محاكمة 9 متهمين بقضية خلية داعش عين شمس اليوم    محمد صلاح يقود جبهة الإطاحة بسلوت في ليفربول    الجيشان الصينى والروسى يجريان ثالث تدريب مشترك لاعتراض الصواريخ    مقتل 9 وإصابة 7 في حوادث على طريق سريع في شينجيانج الصينية    اسعار الذهب اليوم الأحد 7 ديسمبر 2025    أسعار الدولار اليوم في البنوك اليوم الثلاثاء 7ديسمبر 2025    محمد عشوب: نتمنى تنفيذ توجيهات الرئيس نحو دراما تُعبّر عن المواطن المصري    كان معاه 20900 جنيه.. "اهل مصر" تنشر اعترافات أحد سماسرة الأصوات بقنا    رئيس جامعة حلوان: منتدى اتحاد رؤساء الجامعات الروسية والعربية منصة لتبادل الخبرات    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الأحد 7 ديسمبر    آداب عين شمس تنظم دورات تدريبية للشباب الجامعي المقبل على الزواج    حبس المتهمين بسرقة مشغولات فضية من مخزن في القاهرة    دعاء الفجر| اللهم ارزقنا نجاحًا في كل أمر    ضائقة مالية تجبر مخرج "العراب والقيامة الآن" على بيع ثاني ساعاته النادرة ب 10 ملايين دولار    "ولنا في الخيال حب" يفاجئ شباك التذاكر... ويُحوِّل الرومانسية الهادئة إلى ظاهرة جماهيرية ب23 مليون جنيه    رانيا علواني: ما حدث في واقعة الطفل يوسف تقصير.. والسيفتي أولى من أي شيء    تحذيرهام: «علاج الأنيميا قبل الحمل ضرورة لحماية طفلك»    «الصحة» توضح: لماذا يزداد جفاف العين بالشتاء؟.. ونصائح بسيطة لحماية عينيك    شاب ينهي حياته بأقراص مهدئة لمروره بأزمة نفسية في أكتوبر    محمد صلاح يفتح النار على الجميع: أشعر بخيبة أمل وقدمت الكثير لليفربول.. أمى لم تكن تعلم أننى لن ألعب.. يريدون إلقائي تحت الحافلة ولا علاقة لي بالمدرب.. ويبدو أن النادي تخلى عنى.. ويعلق على انتقادات كاراجر    مصدر أمني ينفي إضراب نزلاء مركز إصلاح وتأهيل عن الطعام لتعرضهم للانتهاكاتً    المشدد 3 سنوات لشاب لإتجاره في الحشيش وحيازة سلاح أبيض بالخصوص    وزير الاتصالات: رواتب العمل الحر في التكنولوجيا قد تصل ل100 ألف دولار.. والمستقبل لمن يطوّر مهاراته    نشرة الرياضة ½ الليل| رد صلاح.. رسالة شيكابالا.. مصير مصر.. مستحقات بنتايج.. وتعطل بيراميدز    نقيب المسعفين: السيارة وصلت السباح يوسف خلال 4 دقائق للمستشفى    خالد الجندي: الفتوحات الإسلامية كانت دفاعا عن الحرية الإنسانية    الحق قدم| مرتبات تبدأ من 13 ألف جنيه.. التخصصات المطلوبة ل 1000 وظيفة بالضبعة النووية    الأزهري يتفقد فعاليات اللجنة الثانية في اليوم الأول من المسابقة العالمية للقرآن الكريم    مفتي الجمهورية: التفاف الأُسر حول «دولة التلاوة» يؤكد عدم انعزال القرآن عن حياة المصريين    مواقيت الصلاه اليوم السبت 6ديسمبر 2025 فى المنيا..... اعرف صلاتك بدقه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بالصور- "عواض".. جزيرة نوبية يسكنها "الحزن" و10 عائلات
نشر في مصراوي يوم 20 - 05 - 2018


تصوير-جلال المسري:
أمام منزله المُطل على نهر النيل، جلس سيد عبدالمتعال-55 عاما- على أريكة خشبية. فَرد قدميه، انصت لوقع خطوات تقترب، وهو أمر نادر على جزيرة "عواض" النوبية. ليجد إحدى بنات شقيقه، علت الابتسامة وجهه بينما يستقبلها ويُكمل لها حكاية الجزيرة "زمان كان في البلد تعالب كتيرة، بتأكل الحمام والفروج، أهالينا عملوا خيأل المأتة عشان يخوفوهم. دلوقتي بعد ما الناس مشيت، بقى خيال المأتة أكتر من البني آدمين" تقاطعه الطفلة "راحوا فين الناس؟" يصمت ولا يرد.
كانت الجزيرة النوبية الواقعة غرب أسوان، في المنطقة ما بين السد العالي وخزان أسوان، ذات شأن كبير في الماضي، بيوت على مساحة أكثر من 35 فدان، المنازل متجاورة، جيران في كُل مكان، صخب الصُحبة حاضرًا "كانوا مسمينها جزيرة السُكر، المراكب كانت بتيجي من السودان محملة السُكر والخير قبل بنا السد، تقف عندنا عشان الونسة والحبايب" قبل أن يختفي كل هذا على مراحل منذ الستينيات بعد أن هجرها السكان إلا من 10 عائلات، مصراوي قضى يومين داخل الجزيرة رفقتهم.
ممر أسمنتي يقود الوافدين من نهر النيل إلى أعلى الجزيرة، حيث يقطن الأهالي، الشوارع خالية، في الأنحاء بيوت واسعة نصفها مكشوف على السماء، فقد عدد منها معالم الحياة، بعضها تحول إلى أنقاض، لا يحرسها سوى "خيال المأتة".
يعيش "عبدالمتعال" في وحدة رغم وجود زوجته وأولادها وأمه وخالته معه في البيت، ومجاورته لمنزل شقيقه الأصغر، لكنه لا يصدق ما جرى للجزيرة، عايش مئات من الهجرات، مع كل منزل يخلو من أصحابه يحتل الحزن قطعة جديدة من روحه، لكنه يعلم أن قرارهم صائب "الجزيرة محرومة من كل حاجة، مفيش مدارس أو وحدة صحية أو بريد أو مواصلات.. حتى المايه بتجلنا يومين ولا تلاتة بس، مفيش أي شيء آدمي عندنا".
في مُقدمة الجزيرة، شيدت محافظة أسوان صهريج ضخم لضخ المياه النظيفة لأهالي عواض في 2010 ومنها وصلات إلى منازلهم، لكن الخطوة لم تُنقذهم من الأزمة التي غادر بسببها المئات "الصهريج بيتعبى مرة كل أسبوع بس مبيكفيش" بعد يومين أو ثلاثة يُصبح فارغاً فيضطر عبدالمتعال وغيره من الجيران إلى اللجوء لنهر النيل الممتلئ بالصرف الصحي "مايته بقيت كلها عيا".
ما يثير غضب عبدالمتعال أن مصيرهم متوقف بمجيء أحد العاملين أسبوعيًا لتشغيل الصهريج "يعني لو مجاش عشان مريض أو ظروف قهرية، ربنا يتولانا".
بخطوات متأنية تقطع "أماني"إحدى سيدات الجزيرة- طريقها إلى البيت، تحمل فوق رأسها "جردل" مياه، تلتقط أنفاسها بين الحين والآخر "بننزل البحر -النيل- كل شوية نجيب المايه عشان خلصت من الصهريج" لا أحد يساعدها، السيدات القلائل منشغلات ببيوتهن "بشوف ستات كبيرة بتنزل معانا تملى مايه" تذكرها بأسى.
"احنا عايزين مايه، بقيت بحلم بيها طول الوقت" تقولها غادة- ابنة عبدالمتعال- تضطر الفتاة العشرينية إلى النزول يوميًا برفقة أماني وسيدات الجزيرة إلى النهر "بننزل الفجر والعصر عشان نعبي المايه ونغسل اللِبس والمواعين في البحر" تؤكد أنها تستمع لنصائح أمها بالحفاظ على مياه الصهريج والاقتصاد قدر إمكانها في التعامل بها كأنها تتعامل مع كنز.
تعود أماني، الأم الثلاثينية، إلى بيتها محملة بالمياه، تنشغل بتجهيز الغداء قبل وصول أولادها، تُفكر في معاناتهما اليومية "معندناش مدارس في عواض، لازم كل يوم يصحوا الفَجر ويتحركوا في فلوكة عشان يوصلوا في المعاد، وبيرجعوا بنفس الطريقة" يخوض الطالبان في المرحلة الإعدادية وأصدقائهما من الجزيرة تجربة مُرهقة يوميًا من أجل تلقى العلم.
جنبًا إلى أولادها، يجلس عبدالرحمن عبداللطيف، أحد أطفال الجزيرة، داخل مركب صغير تنقلهم إلى مدرسة الرائد محمود يعقوب الإعدادية بغرب سهيل، يحاول الحفاظ على ملابسه من البلل "بقضي نُص وقتي في الفلوكة" نهارا في مشاوير المدرسة "لما بيكون عندي دروس خصوصية دا معناه إني هاركب الفلوكة 4 مرات في اليوم".
"كان نفسي أروح مدرسة ويبقى معايا شهادة" تلك أمنية غادة التي لم تتحقق، ذهبت لمدة عام إلى المدرسة، وجدت التجربة شاقة لا يمكن لفتاة مثلها تحمل تلك المشقة "موضوع المركب دا صعب أروح وأجي كل يوم" تركت التعليم لعدم وجود مدرسة في "عواض" حُرمت من حقها لأن الجزيرة بعيدة عن نَظر المسؤولين.
منذ 3 سنوات، حضر اللواء مصطفى يسري، محافظ أسوان الأسبق، إلى الجزيرة، استمع لشكاوى الأهالي من بينهم "نمير"-أحد رجال الجزيرة- وأمر بتلبية طلباتهم في أسرع وقت "إدونا وعود كتيرة منها إنهم هيعملوا فصول بس نوفرلهم مكان، عملنا كدا بس محدش سأل فينا".
يتعذب الرجل حين يصل أطفاله من المدارس بعد يوم شاق "حاسس بيهم لأننا عشنا طفولتنا في نفس الموال" أو عند عودتهم صباحاً دون الذهاب إلى المدرسة "لأنهم أوقات بينزلوا مبيلاقوش فلوكة في المايه.. بيضطروا يرجعوا واليوم يضيع عليهم"
"المركب هو الروح بتاعنا"وفق تعبير عبدالمتعال، لا يمكن العيش على تلك الجزيرة دونه، لذا سارع منذ سنوات لامتلاك "فلوكة" تُسهل عليه التحرك وقضاء احتياجاته ونقل أولاده وجيرانه، تستخدمه النساء دائمًا للنزول إلى أسوان أو منطقة غرب سهيل لشراء "خزين" البيت لنحو شهر كامل.
في الأيام الأولى من كُل شهر تمر "صباح " التي تقطن في نُقطة عالية بالجزيرة، على أماني وغادة وغيرهن من النساء للاتفاق على يوم مُحدد لمغادرة الجزيرة والذهاب إلى أحد الأسواق الكبيرة، تستأجرن مركب "كل واحدة تدفع 30 جنيه في المشوار" لعدم وجود سوق بالجزيرة.
ساعات طويلة تمر وهن تتجولن داخل السوق، لا مساحة هنا لنسيان شيء، العودة مستحيلة إلا في الظروف القصوى أو باتفاق مع كامل نساء الجزيرة "بنشتري كل الخضار والتموين والحاجة اللي هنحتاجها للبيت لمدة طويلة" وتتبادلن الاحتياجات فيما بينهن حينما تتعرض إحداهن لأزمة.
لم تكن التفاصيل قاتمة هكذا في الماضي، "صفية كانو" سيدة سبعينية تزوجت في شبابها من أحد أبناء عواض، تقول إنها عاشت في زمن كان "الخير كُله في الجزيرة" دكاكين صغيرة لبيع الخضروات ومستلزمات المنزل، أراضي تمنحهم الفواكهة الطازجة، النهر يفيض بخيراته من السمك "دلوقتي مش زي الأول، ناس مشيت وناس ماتت، المكان بقى خرابة".
في الليل، يزور القلق البيوت المتبقية في الجزيرة "لأن الكهربا بتقطع عندنا كتير، تخيل عتمة في مكان مفهوش ناس" يلف الظلام شوارع المكان الهادئة فيصنع لوحة فنية عن الوحشة، فيما يلَم "نمير" أسرته حوله "العيال بيقعدوا يعيطوا، ببقى خايف عليهم".
يكسر خوفهم بحكايات الماضي، كان هنا ذات يوم حياة كاملة، حركة دائمة، سلامات لا تنقطع، أحاديث ونقاشات، ضحكات عالية، مناوشات الأصدقاء يشاركه عبدالمتعال الروايات ذاتها "لما نقعد على مصطبة البيت تلاقي ميه سلام من اللي معدي واللي رايح" الأفراح كثيرة، رقص وغناء وليالي لا تُنسى، أين ذهب كل ذلك؟ "الناس انقرضت زي ما كل حاجة حلوة راحت".
حركة قوية تدبّ في الجزيرة من حين لآخر، حين يُصاب أحدهم بتعب، تتبع النساء للوهلة الأولى لنصائح الجدات "بنستخدم الأعشاب، عشان معندناش وحدة صحية أو صيدلية" لا يتم اللجوء إلى المستشفيات إلا في حالات الضرورة القصوى نظراً لصعوبة الخطوة، سريعاً يبحثوا عن مركب، ثم يُنقل المريض على الأكتاف إلى النهر الجاري، ومنه إلى أقرب مستشفى بأسوان.
نمير شعر بالعجز منذ أسبوعين، حين امتلأت السماء بالغبار، ولم تتحمل طفلته الصغيرة الأمر "عندها حساسية على الصدر" سقطت الابنة من شدة الإعياء "كانت هتروح مني" فَشل في توفير مركب في هذا المناخ المضطرب، ظل بجوارها يدعو الله النجاة، يعزلها عن العاصفة الترابية، مكتفيًا بالحفاظ على راحتها "لو كان فيه وحدة صحية كان لحقوها" لكن الله ستر.
حين يضيق الخناق حول نمير، يحاول الرجل الترويح عن نفسه لكنه يصطدم بحاجز الوحدة على الجزيرة، يُفكر في الفرار المؤقت، يهرول تجاه النهر "بفضل أشاور لحد ما يشوفني مركب ياخدني معاه" يترك نفسه للقدر، إن ابتسم له يغادر المكان لساعات حتى يصفو قلبه "لو ملقتش فلوكة بضطر أطلع على البيت تاني" يواجه الواقع بمرارته.
يلتقط عبدالمتعال خيط الحديث "الوحدة حاجة صعبة، بسأل روحي فين الأصحاب والجيران والحبايب" الآن كل عائلة منعزلة عن الآخرى "ولما النفسية بتتعب وعشان أروح أتونس لازم أعدي لجزيرة تاني" لا يمكنه التجول في شوارع "عواض" كما اعتاد في الزمن المنصرم "مفيش قهاوي ولا ناس نقعد معاها"، يضحك عم شوقي، أكبر الأهالي سناً، أزمته غريبة "لما بأجي أصلي في المسجد، بلاقي نفسي لوحدي، عشان الجزيرة بقيت فاضية".
النساء معاناتهن أكبر، كون حياتهن لا تسير بسهولة في تلك الأجواء الخشنة، هن ملوك الجلسات والفضول والأحاديث، الحكايات سلاحهن لكَسر الملل، لكن الجزيرة تضعهم في عُزلة دائمة مثل غادة التي تبقى في بيتها طوال الوقت "هروح فين يعني؟ الستات قليلة، وكمان أغلبهم كبار، مفيش حد في سني أقعد معاه".
القطط صديقات صباح، تنشغل بهم أمام منزلها رفقة إحدى جاراتها دون الخوض في كلام لخلو حياتهن من التفاصيل " لما اتجوزت وجيت عواض كنت بشوف الستات الكبار يأكلوا ويقعدوا مع بعض، زمان بقى" فيما تهرب أماني من وحدتها عند مغادرة زوجها وأولادها المكان، تمر على كبار السن من أهالي الجزيرة للسؤال عنهم والاطمئنان على صحتهم "بشقّر عليهم لو عايزين حاجة، وبنحكي شوية".
تَلمس أماني في حديث الكبار غضبهم من الرحلة الشهرية الشاقة التي يقومون بها من أجل الذهاب إلى مكتب البريد في أسوان للحصول على المعاش"ليه ميتعملش مكتب بريد ولا يجلنا ساعي يقبض الناس في الجزيرة" أغلبهم يعانون من أمراض عِدة، الحركة خَطر، المسافات البعيدة مُرهقة، أجسادهم لم تَعد تتحمل، يتألمون حين يحملهم الصغار إلى المركب.
الأطفال، مُستقبل الجزيرة، حظهم أقل من ذويهم، لم يلحقوا بأيام العِز، خياراتهم محدودة حتى في اللعب، خاصة الأولاد الخمسة الذين يعيشون في "عواض" يشعر بذلك عبدالرحمن حين يذهب إلى مدرسته ويتعرف على الامتيازات التي يملكها زملائه "بيتجمعوا بأعداد كبيرة، بيلعبوا كورة مع فرقة مختلفة، عندهم أكتر من لعبة" وهو أمر مستحيل في عواض.
على ضفاف النيل، قطعة أرض خضراء مستوية، على هيئة ملعب كُرة، وبها مرميين، يذهب إليها عبدالرحمن كثيرًا وحده، يلعب منفردًا لكنه لا يشعر بالمتعة، يُمسك الكرة ويلَف على باقي أطفال الجزيرة في محاولة لإقناعهم بضرورة اللعب معاً "لما بيكون فيه حد ناقص أو زعلان من صاحبه مبنعرفش نلعب حاجة جماعية.. ولو اتجمعنا مبنلاقيش حد يقفلنا جون" لذا يبقى العوم في النيل ملاذه الأخير والوحيد.
هل نترك الجزيرة؟ سؤال يدور في عقل عبدالمتعال كل يوم. لكن قَلبه لا يطاوعه على التفكير في تلك الخطوة "أنا أتولدت في الجزيرة دي، اتربيت فيها واتعلمت عاداتنا النوبية فيها، عشت أجمل أيام حياتي. معقول أسيب بلدي وبيتي؟ مقدرش" تدمع عيناه، السؤال يخنقه فيطرده سريعاً "كفاية شوية المايه والهوا والقعدة الحلوة، الواحد يلاقيهم فين؟ مفيش".
يعلم الرجل أن الجيل الجديد لا يفكر بالطريقة نفسها "ميعرفوش قيمة الجزيرة أبدًا" لكنه يتفهم رغبتهم في المغادرة "عايزين حياة فيها مدارس ومواصلات وعيشة مريحة مش قلق وتعب طول الوقت" لذا يتمنى أن تصل أحلامهم العادية بالغة الأهمية إلى المسؤولين، إن تحققت عادت الجزيرة لعافيتها وأيامها الحلوة، وحتى يحدث ذلك ستبقى حكايات عبدالمتعال لأبناء الجزيرة محاولته الأخيرة لزرع حُب المكان داخل قلوبهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.