يسيرون حولك في الشوارع، بوجوههم البيضاء وملامحهم الرقيقة، حجاب السيدات الأبيض الذي يغطي جزء من جبهاتهم، ومعاطفهن الداكنة التي ترتديه كل منهن صيفا وشتاء، فيسهل عليك معرفة أنهم سوريون جاءوا لقاهرة المعز لكي يحتموا بها، تاركين الدمار والحطام في موطنهم وراء ظهورهم، أملين في تأسيس حياة جديدة. تشعرك ملامحهم بالرضا تارة، والشفقة والعجز تارة أخرى، وأحيانا تخلق بداخلك شعور بالغضب من المجتمع ومن أشخاص لم ترّف لهم جفن عندما قرروا تدمير مجتمعات ألفها المواطنون، وبنى فيها أطفال صغار أحلامهم، وقرر شباب بدء حياة جديدة مستقلة بداخلها. - الضرب في المدارس وحوادث سرقة: أثناء السير في شوارع الأزهر ومدينة نصر والهرم وفيصل وفي كثير من الأحياء والمناطق يوجد سوريين، كان من بينهم ''م.م'' أحد مواطني حمص ''عاصمة الثورة السورية''، الذي وصل مصر منذ أقل من عامين هاربا هو وعائلته من الحرب. ''حملت ولادي وتركت سوريا، لأن المنطقة إللي عشت فيها صار فيها كتير مشاكل وضرب وخراب ودمار''، هكذا برر ''م.م'' سبب خروجه من سوريا، إلا أنه لم يأتِ فورا إلى مصر، فسافر إلى لبنان برفقة أهل زوجته، حتى جاءته مكالمه تليفونية من أحد أصدقائه يخبره فيها عن وجود فرص عمل جيدة في القاهرة. حاول ''م.م'' أن يعمل حلواني كما كان في حمص، ففتح محلا ولكنه لم يكسب منه سوى الخسارة، حتى عرض عليه صديق جمعت بينهم علاقة طفولة ومراهقة إلى القاهرة، يعيش في مصر منذ حوالي خمسة وعشرين عاما، فرصة للعمل في محل كبير لتجهيز العرائس في حي الأزهر. لم يتخيل ''م.م'' الوضع في مصر كما هو عليه الآن ''كنت راسم لها صورة أفضل بكتير''، مؤكدا أنه تفاجئ بالواقع، الذي تعرض فيه للسرقة أثناء سيره في أحد الشوارع برفقة زوجته، ولم يعرض عليهم أحد المارة أو شهود العيان الذين رأوا الحادث المساعدة، ''عندنا في سوريا لما يحصل حاجة زي دي كل من في الشارع يقوموا بالمساعدة''، وهذا الحادث لم يكن الوحيد الذي يتعرض له ''م.م''، فقام سائق تاكسي بسرقته. حوادث السرقة لم تكن الشيء الوحيد الذي يزعج ''م.م'' في مصر، فالوضع التعليمي ومستوى المدارس والطلاب أزعجه كثيرا، فبعد التقديم لابنائه الثلاثة في معاهد أزهرية، قرر نقلهم لمدرسة سورية معظم العاملين فيها، وطلابها من سوريا، إلا أنها تعلمهم منهج مصري. أسوأ شيء في المدارس المصرية من وجهة نظره هو ''الضرب''، ''ابني كان يقولي يا بابا ضربوني بالخرطوم''، وهذا شيء غير مقبول تماما بالنسبة له، لأن المدارس السورية لا تسير على هذا النهج أبدا، ولم يواجه أحد طلابها هذه المشكلة. أفضل ما حدث ل''م.م'' منذ وصوله لمصر كان تعرفه على صاحب العمارة التي يقطن بها في مدينة نصر، ووصفه قائلا ''انسان راقي جدا ومثقف''، بالإضافة لكون تلك المنطقة أمنة جدا ونظيفة. لا يزال فكره وقلبه معلقين بسوريا، فقال ''أنا هنا لكن عايش هناك''، وحتى الآن هناك أهله وأصدقائه، ويسعى جاهدا للتواصل معهم. إذا سمحت فرصة أخرى ل''م.م'' سيغادر مصر، إلا أنه يفضّل إن رحلته المقبلة تكون من القاهرة إلى سوريا،''الله يرجع بلادنا بخير وبنرجع بلادنا، دي أحسن حاجة''. -الاقامات والقانون: وفي المحل المجاور للذي يعمل فيه ''م.م''، كان هناك نبيل، شاب ترك دمشق برفقة زوجته وابنته ووصل للقاهرة منذ عام، ''سنة بعد سنة يتحول الوضع من سيء إلى أسوأ، ما قدرنا نحصل على طعام، وانقطعت الكهرباء، حملت عيلتي وإجيت على مصر''، هكذا برر تركه لبلاده. لم يستطع نبيل الذي يعمل في محل لتجهيز العرائس أن يأتي للقاهرة برفقة عائلته كلها، لارتفاع التكاليف، وتشديد اجراءات دخول السوريون لمصر، ''قفلوها في وشنا هنا'' قالها الشاب العشريني يائسا من وضع اللاجئين في القاهرة، ومن يرغب منهم في دخولها الآن. جاء نبيل للقاهرة لأنه شعر بوجود ألفة ومحبة بين المصريين وأهل سوريا، بالإضافة إلى رغبته لتتربى ابنته في بلد تشبه موطنها إلى حد ما، ''أنا كمسلم أحب اعيش في بلد بها مسلمين مثلي''، ولهذا السبب أيضا لم يذهب إلى بيروت، أو تركيا، كما فعل عدد كبير من اللاجئين السوريين. الغلاء وارتفاع الأسعار في تركياولبنان كانا سببين إضافيين لإبعاد نبيل وعائلته عنهما، فقال ''ممكن أصرف بالنهار الواحد بالقاهرة خمسين جنيه، لكن في بيروت أو تركيا، مائتين أو ثلاثمائة مو بيكفو''. أكد نبيل على ارتياحه بالحياة في مصر، مشيرا إلى ما يعكر صفو هذه الحياة شيئان، الأول هو الأوضاع التي تمر بها البلد، من تقلبات سياسية ومظاهرات وشد وجذب بين عناصر مختلفة، ''أنا حاسس حالي واحد من أهل هالبلد'' هكذا قال معبرا عن رغبته الشديدة في تحسن الأوضاع. أما الأمر الثاني الذي ينغّص علي نبيل حياته فهو الحصول على ''اقامات''، وعدم تسهيل الحكومة المصرية للأمر، وتأخر استخراجها، فقال ''بتروح عشان تطلع اقامة يقولولك ارجع بعد سنة أو سنتين، نحنا عايزين نعيش بها البلد بالقانون، مو بدنا نخالف القانون''. على الرغم من أن كل ما حدث في سوريا من خراب ودمار، إلا أن نبيل الذي وصف نفسه بأنه ''انسان يحب تجنب المشاكل من بيته لعمله ومن عمله لبيته'' لا يزال متمسكا بالثورة السورية، معتبرها إرادة شعبية حاول بها أهل بلده اسقاط نظام تساعده الكثير من الدول الكبرى. أما عن داعش التي سيطرت على مساحات كبيرة من الأراضي السورية، فيؤكد إنها ليس لها علاقة بالثورة، لأنها ظهرت مجددا، بأيدي النظام السوري الذي يحاول استخدامها كوسيلة لتبرير هجومه الضاري على شعبه. -ثلاث سنوات وكل شيء مختلف: وفي محل عطور تابع لشركة سورية كبرى، كان ''ماهر'' شاب سوري يعمل بين عدد كبير من السوريين الذين غادروا سوريا بعد التحام بيوتهم بالتراب، وتسويتها بالأرض. وصل ماهر القاهرة في الذكرى السنوية الثانية للثورة، بالخامس عشر من مارس عام 2012، بمفرده، وبعد عام ونصف من الاستقرار، أرسل لأهله في حمص لكي يحضرهم ويعيشوا معه. واجهت عائلة ماهر مشاكل أثناء الخروج من حمص باعتبارها عاصمة الثورة السورية، وأحد المدن التي واجهت حصارا شديدا من قبل النظام، فدفعت العائلة حوالي 50 ليرة لعبور الحواجز، وخرجوا في النهاية لا يحملون شيء سوى ''شوية ملابس'' على حد قوله. ''كل شيء مختلف بالنسبة لي، بداية من كوب الماء والزحمة إلى الموصلات والخبز''، قال ماهر معبرا عن اختلاف الوضع بين بلده وهنا، ولكنه مع ذلك اعتاد حياته في القاهرة. وكانت مشكلة ماهر الكبرى مثل التي يواجها نبيل، وهي ''الإقامة''، فقال ''أنا وأخي نضطر لتجديد الاقامة سنويا، وبنحصل على رخصة سياحية، مع أن الحكومة بتعرف أننا هون مو من أجل السياحة''، مؤكدا رغبته في تسهيل اجراءات الدخول والعيش والاقامة. - حلويات جنان: اختلفت حياة ''جنان'' كثيرا في مصر عما كانت عليه في سوريا، عاشت هناك ربّة منزل زوجة لمالك معرض سيارات، ولكن القصف في حماة دمّر المعرض، وخرّب السيارات. جاءت ''جنان'' لمصر برفقة زوجها وابنائها الأربعة، ''اجيت مع ولادي اتنين صغار واتنين كبار''، بعد انهيار العمارة التي كانت تسكنها، وتركت باقي أهلها هناك يعيش معظمهم في مدرسة. ''استأجرنا شقة بالمصاري إللي كانت معنا، وبعد ما خلصوا تركنا واستأجرنا أرخص''، لتعيش حاليا في طرة. ضيق ذات اليد منع ''جنان'' من ادخال ابنائها في مدارس مصرية، ''من وين بنجيب المصاريف؟''، ليضيع على ابنائها ثلاث سنوات دراسية. تكسب جنان وعائلتها قوت يومها من ''فرشة'' حلويات، تعدها في منزلها، مع بناتها، التي خُطبت أحدهما لجارها شاب مصري، بعد الحاح والدته واصرارها على زواجه منها. -ابداع وصل الصين: أما محمد أسامة وهو تاجر مفروشات فيختلف عن السابقين حيث أتي لمصر قبل ثورة يناير بتسع سنوات ليفتح فرعا لمحاله هنا في القاهرة. فقال أسامة وهو من حلب إنه جاء للقاهرة ليوسع أعماله وذلك أثناء فترة حكم مبارك، وأنه شهد الثورة المصرية، التي عانى منها مثله مثل بقية المصريين. أما عن رأيه في الثورة السورية، يوضح أسامة أنهم كتجار وأصحاب صنعة يرغبون في استقرار بلدهم، '' ثورة إيه والكلام ايه الله يسلمنا برحمته''. ويوضح أسامة أن من تبقى من أسرته في سوريا ليس كثيرا، حيث تفرقت عائلته بين مصر وتركياولبنان، مشيرا إلى أنه ساعد عددا كبيرا من أبناء بلده للحصول على فرص عمل وأماكن معيشة. إلا أن أسامة اختتم كلامه موجها رسالة للمسؤولين في مصر، كي يتيحوا فرص استثمارية أمام السوريين أصحاب رؤوس الأموال في مصر، وأن يذللوا أمامهم العقبات ''نحن مبدعين والله، وصلنا للصين''.