الإنسان السوري هو أشياء كثيرة ليس من بينها الكسل، والتجربة السورية في مصر تكشف عن شطارة المهجّرين في البحث عن مصادر الرزق، والذهاب إليه أينما كان. يبكي السوري الأطلال وهو يواصل العمل، يتحدث بمرارة وهو يمسك بحلوي يبيعها إلي الناس، بملابس نظيفة يلملم القمامة، يجلس إذا أنهكه التعب وكأنه يحصي ما تبقي لديه من أمل كلما طال به الوقت في غربة لايدري متي ستنتهي. تفرق السوريون في مصر؛ منهم من يمتلك المال ويرتاد الفنادق والشقق الفاخرة بوسط البلد، أو مدينة الرحاب، وآخرون فضلوا الإقامة في مدينة السادات بينما الغالبية منهم تجمعوا في مدينة 6 أكتوبر واختار الفقراء التوغل في جنوب مصر لاستدرار عطف الصعايدة فجابوا الشوارع يتسولون وهم يغطون وجوههم ويظهرون هوياتهم. وإذا كانت ملامحهم تكشف عن هويتهم، فإن حكاياتهم المسكونة بالأسي تكشف أناسا غادروا الموت رغبة في الحياة والخلاص من نيران الأسد التي تلاحقهم في كل مكان وترسل من خلفهم العيون لتقتفي آثارهم وتهدد أهلهم ممن بقوا هناك ينتظرون الموت الذي يأتي من كل جهة. وفي مدينة السادس من أكتوبر ذهبت "آخر ساعة" تحاور شبابا لم يتجاوزوا أحزانهم واستسلموا لقدرهم وهم يفترشون الطرقات ببضائع رخيصة، يقبل عليها الناس، أو يعملون داخل محال تقدم الأكلات والخدمات السورية إلي الوافدين إليها. أول هذه المحلات التي دخلنا إليها كان خاصا بحلاقة الرجال، وفيه وجدنا صنايعية وروادا سوريين، كان من الواضح أننا قطعنا حديثهم، وبمجرد علمهم أننا "صحافة" لاذوا بالصمت. كان منظر التسجيل يخيفهم، أما التقاط الصور لهم فكان يقابل بالرفض التام، يتكرر المشهد في كل مكان نذهب إليه إلي أن علمنا بالسر من أحدهم وهو يخبرنا بأن المخابرات السورية تلاحق أقاربهم في الوطن إذا هاجموا النظام في وسائل إعلام الدول التي يذهبون إليها، قال أيضا إن بشار الأسد يرسل المخبرين إلي مصر وله عيون في كل مكان تفشي له أسرار اللاجئين وتنقل له كل معلومة عنهم، وأنهم تمكنوا قريبا من القبض علي اثنين منهم (ولم يخبرنا كيف تصرفوا معهم!). أمام ساحة مسجد الحصري يكتظ المكان بباعة سوريين جائلين، ينشطون في عملهم، ويتعاملون مع زبائنهم بود وحيوية لافتين، اقتربنا من رجل يبيع الحلوي وبعد أن طلب عدم ذكر اسمه راح يحكي عن ذكرياته القريبة ويصف الثراء الذي كان عليه قبل الثورة، والشركات التي يديرها والملايين التي كانت بحوزته، تلمع دمعة في عينيه الواسعتين وهو يسترجع ماضيه وما صار إليه حاله الآن من كونه بائعا متجولا يجاهد للحصول علي قوت يومه. يرفض الرجل مصطلح التجربة السورية ويستبدلها بكلمة النكبة، ويستظهر أرقام الشهداء والمصابين الذين يزدادون يوما بعد آخر، والخراب الذي عمّ بأرض كانت قبلة للوافدين إليها من كل مكان. يصف كيف كان كل أول شهر يقدم لمئات العاملين في شركاته مرتباتهم، ويخص شهر رمضان بمأدبة كبيرة يقيمها طيلة الشهر لضيوف الرحمن ويصمت فجأة قبل أن تفضحه دموعه. يتركنا ليبيع لزبون يقف أمامه قطعة "مشبّك سوري" وحين يطلب منه الزبون قطعة إضافية (بدون ثمن) لا يتردد أن يعطيها له ويتجنب الصدام! لا يخجل صاحب الشركات من عمله البسيط، يقول: "أفضل من مد الإيد" وعن تعامل الحكومة المصرية معه يقول: لا تفرق بيننا وبين المصريين، ألحقت أبنائي في المدارس بسهولة وتمكنت من استئجار شقة وأعيش دون مضايقات، ويسرد قصة صديق له كان يعمل مهندسا في سوريا وحين جاء إلي مصر صار "زبالا" يجمع القمامة! وداخل محل ألبان التقينا ب (م ب) الذي قال إنه استأجر المحل ليتكسب رزقه، رغم عدم صلة هذا العمل بما كان عليه في السابق حيث كان في دمشق يعمل ببيع الملابس ويمتلك محلا كبيرا هناك مازال مفتوحا، ولكنه لا يستطيع فعل الشيء نفسه هنا في مصر، يقول إنه قصد مصر لقربها من قلبه، فجاء إلي هنا بعد أن طلب إقامة سياحية له ودراسية لأولاده الذين ألحقهم بمدارس خاصة. ستتكرر عبارة المدارس الخاصة كثيرا مع كل من نتقابل معهم لأنهم يرفضون الذهاب إلي السفارة السورية لاستكمال أوراق أبنائهم "نحن لا نعترف بنظام الأسد". ويضيف: جئت بعد اندلاع الثورة، في البداية لم أكن معارضا لبشار، لكنه بعد أن استخدم السلاح ضد معارضيه وضحت أمامي الصورة!.. مشكلتي كشخص وليس كسوري هي أنني أريد لهذه الحرب أن تقف وهذا الدمار أن ينتهي لأعود إلي وطني. وعن سبب تجمع السوريين في مدينة 6 أكتوبر يقول إن تخطيطها العمراني ونظافتها أقرب إلي الشوارع السورية. ويلتقط منه طرف الحديث رجل يجلس بجواره (ع ه) يعمل كهربائي سيارات وأتي منذ فترة قليلة من سورية ليقيم عند ابن عمته حتي يتمكن من توفير مأوي وعمل له. وداخل المحل التقينا بإنعام عبد الخالق التي أتت لتلحق بزوجها العامل بأحد المخابز وقالت إنها أتت إلي هنا لأن أولادها يستسيغون الأكلات السورية، أما زوجها فيشكو من عسر الحال ويقول إنه قصد أكتوبر لأنه كان يعمل هنا منذ 31 عاما. في محل للمخبوزات يخبرنا شاب سوري بأن نظام الأسد يزرع العملاء في مصر بحجة أنهم لاجئون، ويقومون بنقل المعلومات إليه وقد نشطوا في ذلك مما جعلهم يتعقبونهم ويقبضون علي اثنين منهم، ويقول: إنهم لا يخافون من الظهور في وسائل الإعلام فهم آمنون في مصر ولكنهم يخافون علي أهلهم المقيمين في سوريا لأن النظام يعاقبهم إذا تفوه أحدهم بشيء عن النظام. وقال إن عائلته مناهضة لبشار الأسد وأقاربه ضباط في الجيش السوري الحر، والغريب أنه لم يرفض التصوير في نهاية الأمر وهو يقول إن لحيته تعطي انطباعا بأنه ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين بالتالي لن يترصده أحد! وخلف فرشته المتواضعة وجدنا شابا آخر أمام مسجد الحصري رفض مثلهم أن يذكر اسمه في حين لم يمانع من تسجيل كلامه قال إنه كان في سورية تاجراً كبيراً يستورد بضائعه من الصين ويمتلك العديد من المحلات في مدن مختلفة وجاء إلي مصر فقدر له أن يعمل هكذا! يحمد الله ويواصل: كنت أود من الحكومة المصرية أن تطرد السفير السوري، وتغلق السفارة، بدلا من أن يطالبوني بالتعامل معها لتسجيل أولادي في المدارس، وهو ما جعلني ألحقهم بمدارس خاصة. ويكشف عن نظرة الناس لهم خاصة العاطلين الذين يرغبون أن يجلسوا بدلا منهم: من حق المواطن المصري ممن لا يجد وظيفة أن يجلس في مكاني ليحصل علي رزقه، وأتمني لو توفر لنا الحكومة مكانا ولو في الصحراء، وأكشاكا خاصة بنا بإيجار زهيد حتي لا نلوم أنفسنا بأننا اغتصبنا مكان أحد! ويحذر التاجر السوري من علاقة إيران بمصر ونزوح سائحين قائلا إنهم سيكونون من الحرس الثوري الإيراني، لأن الإيرانيين فقراء لا يملكون مالا يروحون به عن أنفسهم. سألناه: هل تخشي أن يلاحق الحرس الثوري الإيراني نشطاء سوريين في القاهرة؟ فأجاب كل شيء وارد! لاحظنا يافطة معلقة أمام مسجد الحصري تنفي صلة القائمين عليه بزواج السوريات وحين استفسرنا عن الموضوع قال التاجر السوري: هذا الأمر روج له الشبيحة وأزلام النظام ليقولوا للناس إن السوريات رخيصات، ويتم بيعهن في مصر، رغم أن هذا لا يحدث، ولكن هذا لا يمنع من زواج البعض منهن من مصريين وهو أمر طبيعي يتم في كل وقت وفي كل مكان، فالمصرية تتزوج سعوديا أو ألمانيا، والسورية تتزوج مصريا أو عراقيا.