في الخامس عشر من مارس 2014، تكون الأزمة السورية المستعرة قد أكملت عامها الثالث، وخلال عام 2013 الذي يلملم أوراقه معلنا الرحيل، شهدت الأزمة السورية ذروة الاشتعال، إذ ما انفك النظام السوري يمارس سياسة القهر والبطش ضد معارضيه، في الوقت الذي تخاذل فيه المجتمع الدولي وعجزت الإرادة العربية عن اتخاذ الفعل والموقف المناسب، وبات صراع المصالح الدولية والإقليمية هو سيد الموقف، إذ جرت على استحياء المحاولات لدفع طرفي النزاع الرسمي للجلوس على مائدة الحوار بدلا من المواجهات المسلحة غير المتكافئة بين النظام بقوته وجبروته والمعارضة بضعفها وتشرذمها وتفتتها. ووسط تحركات دبلوماسية مكثفة هدفت إلى وضع الأزمة السورية على سكة الحل السياسي، عبر إقناع المعارضة بالسير في ركاب اتفاق جنيف والإعراب عن دعمها للحوار، عقد في روما يوم 28 فبراير 2013 مؤتمر ''أصدقاء سوريا'' لإيجاد مخرج للأزمة السورية، وشارك في المؤتمر ممثلون عن 34 دولة بحضور أمين عام حلف شمال الأطلسي أندرس فوج راسموسن ووزيري خارجية الولاياتالمتحدة جون كيري والاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون. وكان ثمة تحول دولي يلوح في الأفق تجاه تطورات الأزمة السورية مفاده أنه لابد من تسريع العملية الانتقالية ودعم المعارضة ولم يتم الاتفاق على تزويدها عسكريا خشية سقوط السلاح في أيدي المتطرفين وخاصة من قبل بعض العناصر المنتمية لتنظيم القاعدة. وفي إطار مواصلة الجهود الدولية ذات المصلحة بالأساس، جاء اجتماع ''مجموعة أصدقاء سوريا'' بإسطنبول في العشرين من أبريل 2013 بحضور وزير الخارجية الامريكي جون كيري، لمناقشة مستقبل الأزمة السورية وإمكانية تزويد المعارضة بالسلاح، في ظل الانتهاكات المستمرة للنظام السوري ضد المعارضة. وقد اكتسب الاجتماع هذه المرة أهمية كبيرة في ضوء عدة اعتبارات، منها: انتقاد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ''مجموعة أصدقاء سوريا'' والجامعة العربية واصفا دوريهما في الأزمة بالسلبي، مؤكدا أن دور مجموعة أصدقاء سوريا الداعمة للمعارضة السورية في الوقت الحاضر أنها تسهم بطريقة سلبية في اتفاقات جنيف، في إشارة إلى الاتفاق الذي توصلت إليه القوى الدولية الكبرى والجامعة العربية والأممالمتحدة وتركيا في يونيو عام 2012 لتسوية الأزمة في سوريا بالسبل السياسية. كما أن إعلان جبهة النصرة ولاءها لتنظيم القاعدة، جعل عملية بناء توافق دولي وإقليمي حول كيفية تسوية الصراع عملية معقدة، حيث لا تريد القوى الدولية أن تكرر خطأ أفغانستان، من خلال تمويل ودعم جماعات جهادية في سوريا بهدف إسقاط الأسد، وفي نفس الوقت ترفض منح الشرعية لخطاب النظام السوري. فضلا عن الدور الجديد ل ''مجموعة 5+5''، التي تضم دول المغرب العربي وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا ومالطا، حيث حملت هذه المجموعة نظام الرئيس السوري بشار الأسد المسئولية عما يجري في سوريا من تقتيل وتشريد وجرائم إنسانية. الاختلاف على تسليح المعارضة ولعل تباين المواقف الدولية من تسليح المعارضة السورية هو الذي أطال أمد الأزمة بسبب صراع المصالح والإرادات الإقليمية والدولية، فالموقف الأمريكي اتسم بعدم الوضوح بشأن قضية التسليح وركز فقط على ضرورة الحل السلمي للأزمة، وبدا الانقسام واضحا في الإدارة الأمريكية ما بين داع إلى تسليح المعارضة وداع إلى فرض منطقة حظر جوي في سوريا. وكان الموقف البريطاني الأكثر جرأة، إذ أعلنت لندن عن تقديم معدات حماية لمقاتلي المعارضة في سوريا بقيمة 656 ألف جنيه إسترليني (نحو 984 ألف دولار) بشكل عاجل، وذلك بهدف مساعدتهم على النجاة من هجمات تستخدم الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية. أما الموقف الفرنسي فقد أكد على أن تسليح الثوار يتطلب أولا أن تكون المعارضة السورية قادرة على تنظيم نفسها للوصول إلى انتقال سياسي، وأن تنفصل عن ''الجماعات المتطرفة'' التي تسعى من خلال نشر الفوضى إلى إعاقة هذا المشروع، بينما جاء الموقف الصيني متناغما مع الموقفين الأمريكي والإيراني، إذ يرى ضرورة الحل السلمي للأزمة، وبالتالي يرفض تسليح المعارضة السورية لأن ذلك يفتح باب التدخلات العسكرية. في حين جاء الموقفان الروسي والإيراني الرافض لتسليح المعارضة ليزيد من تعقيد الموقف الدولي، إذ انتقدت وزارة الخارجية الروسية قرار مجموعة أصدقاء الشعب السوري الذي أعلن في الدوحة بشأن تسليح الثوار السوريين، كما جدد الرئيس الإيراني حسن روحاني موقف طهران الرافض للتدخل العسكري الأجنبي في سوريا. وفي خضم هذه المواقف، شهدت الأزمة السورية حراكا قويا في اتجاه البحث عن حل سياسي أو عسكري يتوافق مع متطلبات القوى الدولية ولو على حساب تفكك الدولة السورية، وخاصة بعد موافقة لجنتى الاستخبارات في مجلسي النواب والشيوخ الأمريكي على قرار يسمح لأوباما بتسليح المعارضة السورية وإعطاء أوباما الغطاء التشريعي لتزويد المعارضة بأسلحة مضادة للدبابات وذخائر، إذ ترى واشنطن في هذه الاستراتيجية طريقا لتغيير حسابات الأسد ولتسريع الحل السياسي، في نفس الوقت الذي تضغط فيه روسيا لمنح المزيد من الفرص أمام نظام بشار الأسد. ورغم الفارق الواضح في الآلة العسكرية والبارجات الحربية لصالح نظام بشار الأسد وعدم اتفاق المعارضة وتفتتها بين الداخل والخارج، بات واضحا أن ثمة معوقا أمام أي حل سياسي للأزمة، سواء كانت في جنيف أو خارجها، فالنظام السوري يعتقد أنه قادر بقوته العسكرية والدعم الثابت من حلفائه الإقليميين والدوليين على هزيمة خصومه وفرض عناصر التسوية وشروطها بأقل الخسائر السياسية الممكنة، كأن يعطي المعارضة والمعارضة التي يختارها هو حيزا ودورا سياسيا محدودا في حكومة التوافق التي يفترض أن تنشأ بعد وقف القتال، والمعارضة تعتقد أن تحقيق تقدم على الأرض أو استعادة التوازن سيحشر النظام ويهدده بالسقوط، وهو ما يدفعه إلى التفاوض لتسليم السلطة قبل انتهاء ولايته، وسيتيح الحفاظ على بعض هياكل النظام ويحافظ على الحد الأدنى من التعايش بين مكونات البلاد العرقية والطائفية والمذهبية. التخلص من الكيماوي وبقاء الأسد ومع استمرار هذه المواقف الدولية وزيادة عمليات القتل التي يمارسها نظام الأسد ضد المعارضة في الداخل، بل ضد المدنيين العزل، ارتكب النظام السوري عملية إبادة جماعية فور استخدامه غاز السارين في هجوم بالأسلحة الكيميائية على سكان الغوطة الشرقية في 21 أغسطس 2013، الأمر الذي أدى إلى تصاعد الموقف الأمريكي لدرجة الغليان وأعلن أوباما أنه سيشن ضربة عسكرية على نظام الأسد متحديا في ذلك الموقف الروسي، ولكن الأخير لم يفقد الأمل في الحل السياسي للأزمة. وبعدما عاش العالم بأسره على مشهد قاب قوسين أو أدنى، وبعد حالة التأهب العسكري القصوى والتي تمثلت في استعداد عدة سفن حربية حاملة لصواريخ كروز شرق المتوسط، وبعد حملة إعلامية وسياسية أمريكية شرسة مهدت الأجواء عربيا ودوليا لشن حملة عسكرية ضد دمشق وضرب أهداف سورية ''محددة ودقيقة'' ردا على استخدام نظام الرئيس السوري بشار الأسد أسلحة كيميائية شرق العاصمة دمشق، تراجع الرئيس الأمريكي باراك أوباما خطوات للخلف وفطن إلى ضرورة أخذ رأي الكونجرس بالموافقة والتفويض للحرب على سوريا. وجاء قرار الرئيس أوباما بتأجيل الضربة العسكرية لسوريا، في محاولة منه لحفظ ماء الوجه، حتى إن كثيرا من المحلليين سموه ب''المحارب المتردد'' بعد أن فطن إلى تراجع التأييد الدولي لهذه الضربة وعدم نجاح مجلس الأمن في إصدار قرار دولي يمنح واشنطن والقوى المؤيدة لها من تنفيذ هدفها، ناهيك عن رفض الرأي العام الأمريكي لمثل هذه الضربة. وأدى التراجع الأمريكي إلى زيادة صلابة وتمسك القوى الدولية بموقفها، روسيا والصين وألمانيا، الرافضين للضربة العسكرية والمؤيدين للحلول السياسية من خلال مفاوضات ''جنيف2''، وبدا المشهد السياسي للأزمة السورية معقدا ومتباينا في تفاعلات أطرافه العربية والإقليمية والدولية، وباتت السياسة الروسية هي الأكثر تأثيرا في المشهد الدولي، ساعدها على ذلك زيادة التوجه العام العربي والإقليمي والعالمي نحو الحل السياسي للأزمة. وبعد مباحثات ماراثونية بين وزيري خارجية أمريكاوروسيا، توصل الطرفان (الولاياتالمتحدةوروسيا) على اتفاق ينص على أن ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية يجب أن تدمر ويتم التخلص منها بحلول منتصف 2014، وتضمن الاتفاق البنود الستة التالية: 1- يجب الاتفاق على نوعية وكمية الأسلحة الكيماوية وأن توضع ''بسرعة'' تحت الرقابة الدولية، 2 يجب أن تسلم سوريا خلال اسبوع قائمة تفصيلية شاملة بمخزوناتها، 3 ستسمح إجراءات سريعة تتم تحت اتفاقية الاسلحة الكيماوية ''بتدمير سريع'' لمخزونات الأسلحة، 4 يجب أن تسمح سوريا ''بدخول فوري وغير مقيد'' إلى كل المواقع، 5 يجب تدمير كل الأسلحة الكيماوية، وبما يشمل إمكانية إزالة هذه من الأراضي السورية، 6 ستقدم الأممالمتحدة الدعم اللوجستي، وفرض الامتثال لهذا الاتفاق سيكون تحت الفصل السابع. وصدر بالإجماع القرار رقم 2118 في مجلس الأمن، ويدين استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا ويطالبها بنزعها وتدميرها، لكنه لا يهدد بعمل عقابي تلقائي ضد حكومة الرئيس بشار الأسد إذا لم تمتثل للقرار، بل يشير إلى أنه في حال الإخفاق في الالتزام ببنود التخلص من الأسلحة الكيميائية فإن المجلس سيتوجه لاتخاذ إجراءات بموجب البند السابع. رغم الاتفاق الأمريكي الروسي بشأن الكيماوي السوري، استمرت مذابح النظام السوري وكأنه تم اختزال الأزمة في الأسلحة الكيميائية السورية، واشتعل الجدل السياسي حول الحل السياسي للأزمة بعيدا عن الحلول العسكرية من خلال مؤتمر ''جنيف2''. ورغم المساعي الدبلوماسية التي قام بها المبعوث الأممي والعربي الأخضر الإبراهيمي في عدة دول بدأها بالقاهرة ثم العراق والكويت وسلطنة عمان والأردن، وإيران وقطر وتركيا وسوريا، واجتماع الإبراهيمي مع مسئولين أمريكيين وروس في سويسرا في الخامس من نوفمبر الماضي، تبعه في اليوم نفسه اجتماع يضم إلى الإبراهيمي ممثلين عن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، لتمهيد الطريق لعقد مؤتمر ''جنيف2''، إلا أن الأطراف المعنية بالأزمة مباشرة وهي النظام والمعارضة في سوريا والقوى الكبرى علقت مشاركتها في المؤتمر الذي كان مقررا في النصف الثاني من نوفمبر الماضي. ''جنيف2'' يكتنفه الغموض وبعد جولات ومفاوضات، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أن ممثلي الحكومة السورية والمعارضة سيجتمعون في جنيف في 22 يناير القادم، ويعد ذلك الموعد في حد ذاته إنجازا في ضوء التحديات والعقبات التالية: من بين أبرز العراقيل تشكيل وفد موحد للمعارضة السورية نظرا إلى تشتتها ووفد موحد عن النظام السوري، وقد أمهل المبعوث الدولي والعربي المشترك إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي طرفي الصراع حتى يوم 27 ديسمبر الجاري لتحديد وفديهما إلى مفاوضات السلام بمؤتمر ''جنيف2''. فضلا عن رفض كل الجهات الدولية أن تتمثل المنظمات الجهادية التكفيرية به وأن ليس هناك من طرف دولي يقبل التفاوض معها، ثم هناك العراقيل المتصلة بالتفاهم على تحديد الدول التي ستشارك في المؤتمر لا سيما مشاركة إيران تحديدا، ذلك أن الولاياتالمتحدة لا تزال عند معارضتها لمشاركة إيران فيه، على الرغم من الاتفاق الأولي بين الدول الست وإيران حول البرنامج النووي، والذي سبقته مفاوضات أمريكية إيرانية سرية. ثم تأتي تصريحات وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس عن شكوكه في نجاح مؤتمر ''جنيف2''، بعد أيام من تعليق لندن وواشنطن مساعداتهما العسكرية غير المميتة للمعارضة السورية بعد استيلاء إسلاميين على معبر حدودي مهم مع تركيا ومقار الجيش الحر ومخازن أسلحته لتثير الكثير من علامات الاستفهام حول عقد المؤتمر من عدمه. ومن المقرر أن ينعقد اجتماع تحضيري ل''جنيف2'' في العشرين من ديسمبر الحالي، لدراسة كل التفاصيل التي لا يزال هناك عدم توافق حولها، وهو الاجتماع الأخير قبل المؤتمر وهدفه بحث كل الأمور العالقة، لذلك ينطوي الاجتماع على أهمية كبيرة، وينقسم إلى قسمين؛ الأول اجتماع بين الولاياتالمتحدةوروسياوالأممالمتحدة، والثاني يضم الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والدول الأربع المحيطة بسوريا، وهي لبنان والأردن وتركيا والعراق. ويبقى التأكيد على أن ''جنيف 2'' سيكون محطة مفصلية ستحدد مصير المعارضة السورية والنظام السياسي السوري وشكله وأركانه ومستقبل العلاقات بين كل من أمريكاوروسيا وعلاقاتهما بالدول الإقليمية الكبرى، فإسرائيل يمكنها أن تطمئن إلى حليفيها الأمريكي والروسي اللذين أزالا خطر الكيماوي السوري، وسيعملان بلا شك على تحييد التهديد النووي الإيراني. وتأسيسا على ما سبق، فقد يكون انتصار الرئيس الأسد هو الأفضل بين ثلاثة سيناريوهات مرعبة جدا في سوريا، لا يتضمن أي منها انتصار المعارضة، والسيناريو الثاني هو تفتيت البلاد بين فصائل متقاتلة وما يحمله ذلك من تبعات خطيرة على المنطقة برمتها، أما السيناريو الآخر المحتمل فهو استمرار المعارك إلى ما لا نهاية، مقرونا باستمرار صراع المصالح الدولية لرسم خريطة جديدة لمستقبل منطقة الشرق الأوسط برمتها.