تذكر كتب التاريخ أن محمد علي رائد نهضة مصر في عصر الحديث، عندما توفي في عام 1848 ترك مصر وهي بلا أي ديون داخلية أو خارجية، تصدر أكثر مما تستورد، ولديها فائض كبير في ميزانيتها، ولكن ومع تولي سعيد باشا حكم مصر في عام 1854 تغير كل شيء. فعقب وفاة محمد علي وتولي الخيديو عباس الأول لفترة قصيرة، ثم حكم سعيد باشا أصبحت مصر مدينة لعدد من الدول والمؤسسات والبنوك الأجنبية بأكثر من 10 ملايين دولار، والسبب لم يكن حاجة مصر الملحة للمال آنذاك، وإنما بضغط من المقرضين أنفسهم.
ويحكي الاقتصادي الكبير جلال أمين أن المقرضين الأجانب كانوا يضغطون على سعيد باشا منذ بداية حكمه لجعله يتورط في ديون خارجية بفوائد كبيرة، في محاولة لاستثمار اموالهم في دين آمن، بعد أن تشبعت بلادهم بالاستثمارات. ويذكر التاريخ كذلك أن الديون الخارجية كانت إحدى أهم أسباب التدخل الأجنبي في شئون مصر في ذلك الوقت، بل وتعرض مصر للاحتلال الانجليزي بعد ذلك في محاولة لضمان وفاء مصر بالتزاماتها تجاه البنوك والمؤسسات الأجنبية.
ما علاقة هذه الاحداث التي مر عليها نحو مائة وخمسين عامًا بواقعنا الآن؟.. تساؤل منطقي قد يجب عليه عدة أمور شهدها هذا الاسبوع بشكل متتابع ومترابط.
الأحد الماضي.. خرج مسعود أحمد، مسئول صندوق النقد الدولي في شمال افريقيا والشرق الأوسط، ليصرح في مؤتمر صحفي أن "مصر تواجه تحديات اقتصادية ومالية ملحة، ولهذا نعتقد أن من المهم أن نتحرك للأمام الآن للانتهاء من مضمون البرنامج، والحصول على قرض الصندوق". وفي اليوم التالي مباشرة، حثت السفيرة الأمريكية بالقاهرة آن باترسون، مصر على "التحرك سريعا لإبرام اتفاق القرض مع صندوق النقد الدولي وإصلاح قطاع الطاقة وحماية المستثمرين من "الأعمال التعسفية" لتفادي مزيد من التراجع الاقتصادي".
الثلاثاء.. أعلنت وكالة موديز للتصنيف الائتماني، تخفيض تصنيف مصر درجة واحدة ليصل إلىB3، بسبب ما أسمته "الشكوك بشأن قدرة البلاد على الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، وللتداعيات الاقتصادية لجولة جديدة من الاضطرابات السياسية".
التتابع الغريب والترابط المثير للدهشة والتوقيت المتناغم للأفعال الثلاث الماضية، والدفع المستمر لمصر تجاه قرض صندوق النقد الدولي والايحاء بأن في القرض حلول سريعة وحاسمة للأزمة الاقتصادية المالية، يثير الريبة والاستغراب وربما الخوف كذلك من الحماس الدولي تجاه دفع مصر للحصول على القرض. فكما أوضحنا في تقرير سابق، فإن قرض الصندوق لن يكون على دفعة واحدة وإنما يتحصل عليه مصر على عدة دفعات متباعدة، كما أن قيمته الاجمالية لن تمثل سوى أقل من ربع عجز الموازنة العامة للدولة، بالإضافة إلى تكلفة العالية على المستوى الاجتماعي سواء على جانب تخفيض قيمة دعم المنتجات البترولية والغذائية، أو زيادة الضرائب، أو تخفيض قيمة الجنيه وغيرها من الشروط المعلنة أو المسربة أو التي اعتاد الصندوق على فرضها على الدول المقترضة.
قصة أخيرة قد توضح كل شئ.. منذ سنوات.. أصدر جون بيركنز الأمريكي، كتابًا أحدث هزة في العالم اجمع، جعلته يعتلى عرض أكثر الكتب مبيعًا – وفقًا لوصف صحفية نيويورك تايمز-، يناقش فيه القرصنة الاقتصادية الامريكية على الدول الفقيرة، وكيف تجعل الفقراء يرزخون في فقرهم إلى الأبد.
وكشف بيركيز أنه يعمل فيما كقرصان اقتصاد لدي احدي شركات الاستثمار الامريكية، والتي تعمل على تدمير واستغلال الدول الفقيرة للحصول على مليارات تنضم لغيرها لدي الشركات الوف شور أو الشركات الدولية.
ورغم كثرة ما كشف عنه النقاب في كتابه الذى ترجم لعدة لغات، الا أن أكثر ما أثار اهتمام الجميع، هو اجابته على سؤال، كيف تجعل الدول المديونية ترزخ في ديونها للأبد؟.
فوفقًا للكاتب فإن منظمات التمويل الدولية متمثلة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، يعملان بتوجهات أمريكية وأوروبية واضحة، مع الأخذ في الاعتبار ان كلا المنظمتين يعود جزء كبير من ميزانيتهما الضخمة إلى الولاياتالمتحدة وأوروبا.
ويشير بيركيز في كتابه، إلى أن اللعبة تدار كالآتي: دولة تعانى من ازمات اقتصادية ما وعجز في ميزانيتها، فتلجأ للبنك الدولي أو الصندوق بحثًا عن حلول عاجلة، أو تعرض عليها الولاياتالمتحدة أن تقوم بإقراضها لتنفيذ مشروعات وأعمال تساعدها في الخروج من عثرتها. وكشرط واضح.. يقوم المقرض بالمطالبة بضرورة أن تقوم الشركات الامريكية بتنفيذ المشروعات التي ستمولها دولتها، أي أن الاموال التي ستقرضها للدولة الفقيرة هي في الواقع ستوجه لشركاتها، ولن تغادر حدود الدولة أبدًا، مع اضافة أن الدولة المقترضة سيكون عليها أن تلتزم بدفع فوائد وخدمة الدين كذلك. ويشرح بيركيز في كتابه، أنه وزملاء له دفعوا الاكوادور إلى الافلاس، في ثلاث عقود، حيث ارتفع حد الفقر من 50% إلى 70% من السكان، وازدادت نسبة البطالة من 15% إلى 70%، وارتفع الدين العام من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار