لم يترك صندوق النقد الدولى لبلدان الربيع العربى خصوصا مصر، فرصة لالتقاط الأنفاس بعد ثورة 25 يناير، وراح يجهز شباكه وفخاخه لإسقاط المصريين فى فخ ديون وقروض تحمل فى ظاهرها المساعدة والعون، لكن فى باطنها العذاب والأعباء المعيشية وحرمان شعوب الربيع العربى وليس المصريون فقط من جنى ثمار ثورتهم على الظلم والفساد. وما حدث فى مصر ينطبق على تونس ويجعل الربيع العربى فى مهب الريح. وهاهى الاضطرابات المعيشية تتوالى فى مصر والاحتجاجات الفئوية تتزايد مع دعوات شد الحزام بأوامر من صندوق النقد الدولى، فالبداية بخطوات لرفع الدعم عن أنواع من البنزين، ثم منظومة ضريبية أشبه بالسياط التى تلهب ظهور الفقراء قبل الأغنياء، وخطط تبدو وأنها تنتهى بتسريب الدعم ولا توصله لمستحقيه... إنه نفس السيناريو الذى دفع الناس فى السابق للثورة والخروج على نظام الحكم...يبدو أن رياح التغيير فى العالم العربى لم تعجب القوى الكبرى، فقررت تكبيلنا بالديون..وقد جاء اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولى على قرض بقيمة 4.8 مليار دولار، ليفتح الباب أمام تساؤلات لا تنتهى وحالة من القلق أصابت الشارع، لكن تبدو القضية الأخطر فى إضافة مزيد من الأعباء على الأجيال القادمة التى ستظل تعانى من الديون وخدمتها وفوائدها، الأمر الذى اعتبر خطا أحمر كان يجب على دول الربيع العربى خاصة مصر وتونس الانتباه له جيدا وعدم السقوط فى الفخ، على الأقل فى بداية مشوار الثورة. ويبدو أن حالة انعدام الوزن وفقدان السيطرة على الأمور، فى أعقاب الثورة، فى كل من مصر وتونس هى سيد الموقف. حيث تواجه مصر على سبيل المثال مخاطر اقتصادية رهيبة تنذر بكارثة. وبينما كان يفترض أن يتحرك بلد كمصر فى اتجاه الصعود واحتلال موقع متقدم فى عالم النمور الاقتصادية العالمية، بما لها من إمكانات حقيقية، وبما وفرته الثورة من تدمير لخلايا الفساد والإعداد لحزمة تشريعات متطورة، إذ بالأمور تسير فى الاتجاه المعاكس ويبدو السقوط فى شبكة الديون بمثابة كابوس أقرب إلى التحقق، بما يفتح الباب للعودة إلى ما قبل النقطة صفر، يعنى ضياع مكتسبات الثورة وربما الوقوف على حافة الإفلاس..وحسب أرقام وإحصاءات رسمية، فإن تجاوز الدين العام المحلى بمصر أخيرا لحاجز تريليون جنيه مصري( ما يفوق167 مليار دولار) مع نهاية العام المالي2011/2010 ، بالإضافة إلى أكثر من 35 مليار دولار تمثل الدين الخارجي.. يعنى ذلك أن الأجيال القادمة ستحرم من حق التمتع بموارد البلاد التى ستخصص حتما للتعاطى مع أعباء الديون المتراكمة وفوائدها التى لا ترحم. مؤسسة غير ودود فى هذا السياق تجب الإشارة إلى أن صندوق النقد الذى لجأت إليه مصر ليس مؤسسة تنموية ودوداً، تعمل من أجل الخير المطلق، فإدارته تأتمر بأمر الخزانة الأمريكية ووزارات مالية الدول الغنية الكبرى، كما يقول ريك راودن مؤلف كتاب السياسات المميتة لليبرالية الحديثة. ويرى راودن أن أولويات صندوق النقد هى فرض إصلاحات وتغييرات اقتصادية داخل البلاد المقترضة تضع مصلحة المقرضين وأصحاب المال فوق أى اعتبار، حتى لو كانت العدالة الاجتماعية، التى هى أحد أهم مطالب ثورة25 يناير. ويشير إلى أن الصندوق يتبع سياسة وضعها الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان ورئيسة الوزراء البريطانية المحافظة مارجريت تاتشر فى ثمانينيات القرن الماضي، وكلاهما سعى لمد نفوذ الرأسمالية الغربية. ولضمان نجاح تلك السياسة، فإن الوسيلة الأبرز هى دفع اقتصاديات الدول النامية ومن بينها مصر وتونس نحو تخفيض التضخم، وتقليل العجز بالميزانية ليصبح ذلك هدفا أساسيا لها، بدلا من العمل لخلق تنمية صناعية وتجارية حقيقية..ويضيف راودن قائلا: «لقد تم تلقين تلك الدروس لموظفى حكومة الرئيس المصرى السابق حسنى مبارك عن طريق المساعدات الفنية والمنشورات والتحليلات الآتية من الصندوق والبنك الدولي، وبالتالى استشرى هذا الفكر بين موظفى المالية المصرية وعدد من الوزارات الأخرى..وهذه السياسات من شأنها أن تقيد يد الدولة فى وضع سياسات مناسبة لظروفها، وتحد من قدرتها على وضع الحماية التجارية الكافية لصناعاتهما المحلية، وتحظر عليهما وضع تشريعات خاصة تنظم القطاع المالى الداخلي، إلا باتفاقات خارجية..الأخطر من هذا أن تلك السياسات تدفع إلى مراحل متواترة وسريعة من الخصخصة التى تفاقم البطالة وتدمر أى محاولة للنهوض، من ثم الفشل فى خلق قواعد عدة صناعية وتجارية محلية تسمح بالمنافسة الدولية. ويلفت النظر فى هذا السياق، إسراع مؤسسات المال الدولية بالتحرك لتكبيل مصر وتونس بالتواطؤ مع رموز للأنظمة السابقة حتى قبل انتخاب حكومة أو برلمان جديدين. الحل عربى وللخروج من هذا المأزق، تجب الإشارة إلى مقترحات وضعها خبراء فى أكثر من مناسبة تبدأ فورا بإدارة الديون وقصر استخدامها بمجالات الاستثمار والإنتاج، حيث تكون إمكانية سداد الديون أكبر وأوفر، بزيادة حجم النشاط الاقتصادى وخلق فرص عمل وتوفير فوائض مالية. كما يتعين على حكومتى مصر وتونس البحث عن وسائل تمويل للموازنة العامة بدل الاستدانة، ومواجهة الفساد، ووضع جدول متدرج للاستجابة للمطالب الفئوية. وهنا يرى الخبير الاقتصادى الأمريكى ريك راودن أن مصر تحتاج بلا شك للتمويل الخارجى لتمر بسلام من مرحلة تأثيرات التغييرات السياسية الأخيرة، لكن هذا التمويل يجب ألا يأتى كما يقول من صندوق النقد الدولي.