سنغافورة (رويترز) - ربما تكون محاولة التنبؤ بالمستقبل بدلا من تصور سيناريوهات محتملة له قد أعمت أعين محللي المخاطر عن احتمال اندلاع الانتفاضات الشعبية في أنحاء الشرق الاوسط وشمال افريقيا هذا العام. وبسبب التركيز على النتائج المحتملة التي كانت المقدمات تشير اليها ومحاولة الاختيار بين هذه النتائج لم يبق الا عدد محدود من الاحداث المتوقعة.. وكأن هناك وكيل مراهنات لا يراهن مطلقا على فوز منافس ضعيف في احدى المسابقات الرياضية. ويرى بعض المشتغلين بتحليل المخاطر وبعض المستثمرين الذين يستخدمون هذه الابحاث أن حقيقة أن "الربيع العربي" لم يكن واردا في أذهان المحللين التقليديين يجب أن تؤدي الى تغييرات في طريقة عمل محللي المخاطر السياسية. وقال أحمد علي عبد الرحمن الرئيس التنفيذي لشركة بيت الاستثمار العالمي (جلوبل) الكويتية في مصر "كانت معظم مؤسسات تقييم المخاطر ان لم تكن كلها... تشعر بارتياح ازاء الافاق المستقبلية رغم التأكيد على أن 2011 (كانت) هي سنة الخلافة السياسية (في مصر)." وأضاف أن أكثر السيناريوهات المفترضة تطرفا هي فوز جماعة الاخوان المسلمين المعارضة بالانتخابات التي كان مقررا اجراؤها في وقت لاحق هذا العام. وقال "باستثناء نتيجة الانتخابات لم يكن هناك أي قلق مطلقا بشأن الوضع السياسي." ورغم أنه في ظاهر الامر كان بقاء الوضع القائم انذاك هو النتيجة الاكثر ترجيحا الا أن المستثمرين كانوا سيستفيدون بمنهج أكثر خيالا يفكر في الاحداث المحتملة التي تعد انحرافا عن السيناريو المؤكد بدلا من التحليلات التي تسعى للتنبؤ بالمستقبل. وقال نايجل انكستر مدير وحدة التهديدات العابرة للحدود والمخاطر السياسية في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية "الدرس الرئيسي لشركات استشارات المخاطر السياسية ليس كيفية التنبؤ بطريقة أفضل بنوعية الاحداث التي شهدناها.. هذا ببساطة ليس ممكنا. "بل ينبغي أن ينظروا الى أنظمة مثل النظام المصري ويطرحوا مزيدا من أسئلة 'ماذا لو' التي لا تفترض أن الوضع القائم سيستمر." وحينئذ سيتمكن المستثمرون وغيرهم من المهتمين ببلد معين من بحث عدد من السيناريوهات المستقبلية والتفكير في كيفية التعامل مع كل من هذه السيناريوهات. وبذلك سيكونون أفضل استعدادا للتعامل مع مستقبل فعلي من غير المرجح أن يكون مطابقا لاي مما تخيلوه لكنه على الاقل سينطوي على عناصر من بعض هذه السيناريوهات المتخيلة. سيكون تخطيط السيناريوهات أكثر نفعا من محاولة ترتيب النتائج المحتملة من حيث مدى رجحانها. وقالت اليزابيث ستيفنز مديرة تحليلات المخاطر الائتمانية والسياسية في مجموعة جاردين لويد تومسون للوساطة في التأمين "العديد من المستثمرين وبعض المحللين يستخدمون الماضي القريب كمؤشر على المستقبل وهو غالبا أمر مضلل في أفضل الاحوال." وكان من بين الامور الجوهرية في الانتفاضات الشعبية في مصر وتونس وليبيا الاستياء الشديد والواسع من الفقر والقمع والحرمان من الفرص بسبب أنظمة تقودها زمر من المسؤولين الفاسدين المسرفين وعائلاتهم. لكن على مدى سنوات كان ينظر الى المجتمعات التي تعاني من عدم المساواة والحكومات المستبدة على أنها ثمن الاستقرار ونتيجة لذلك لم يكن المراقبون يتوقعون بصورة تذكر أن البؤس في الشارع سينفجر ويصبح انتفاضة. وقالت ستيفنز من مجموعة جاردين لويد تومسون "من الصعب حساب تداعيات الاستياء لان المظالم الداخلية لا تقود غالبا الى تغيير النظام." ومن بين الدروس المهمة لمحللي المخاطر أن الصورة الكلية للاقتصاد والسياسة لا ينبغي أن تطغى على الاحداث والمشاعر على الارض. وقال كريستوفر مككي رئيس مجموعة بي.ار.اس الامريكية لتحليل المخاطر السياسية "ربما لا تكون مقاييس المخاطر الاساسية لتحليل استقرار الانظمة قد تغيرت بالضرورة لكنها باتت أقل وضوحا الان." وأضاف "على المحللين أن يمعنوا النظر في المصادر العديدة للاستياء والامكانات المتاحة في أيدي الغاضبين لاحداث التغيير." ومن أقوى هذه الامكانات مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت وشبكات الهاتف المحمول التي استخدمها النشطاء في الشرق الاوسط وشمال افريقيا لتنظيم وحشد الاحتجاجات المناهضة للانظمة. وقال مككي "عليهم (المحللين) أن يدركوا أنه نظرا لانتشار استخدام مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل المثال فان ظروف المعيشة المادية باتت عاملا شديد الاهمية في تشكيل التحرك الشعبي الان." ويعتقد اخرون أنه عند محاولة تخيل السيناريوهات المحتملة ينبغي على المحللين والمستثمرين أن يحاولوا فهم الاتجاهات العالمية والتاريخية الاشمل ووضعها في الحسبان وما اذا كان الحدث المحتمل ينسجم مع هذه الاتجاهات. ويرى ديفيد مورين مدير الاستثمار في شركة امرجنت اسيت مانجمنت ومؤلف كتاب "فك شفرة التاريخ" أن امبراطورية الغرب والولايات المتحدة العظيمة في تراجع. ويعتقد أن عجز الغرب عن توقع الاحداث في الشرق الاوسط وشمال افريقيا يرجع الى عدم تكيفه مع تراجع قدراته العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية. وقد جعله هذا العمى عاجزا عن تصور مستوى العداء والقدرة لدى الانظمة المناهضة له ومستوى الاستياء لدى الانظمة الحليفة للولايات المتحدة. وقال مورين "اخفاقات الغرب في التنبؤ بالاضطرابات في الشرق الاوسط وشمال افريقيا هي أعراض نظام في حالة انحدار. حين تصبح مسنا تصبح في حالة انكار. الانظمة المسنة في حالة انكار." وأضاف "الانحدار العام لامريكا يعني أن هذه البلدان التي كانت تابعة لها لا تريد أن تظل كذلك. لقد رفضت النفوذ الامريكي ولا رجعة عن ذلك." وعلى المستوى التطبيقي فان النظرية السياسية التي تستند اليها كتابات مورين والاستراتيجية الاستثمارية لشركة امرجنت تفيد بأن صعود الامم وهبوطها أمر متكرر ويمكن التنبؤ به. وهذا الصعود والهبوط يسبب تقلبا في الاسواق المالية يمثل فرصا استثمارية. وقال مورين ان مجيء الانتفاضات العربية كصدمة كبيرة لم يكن اخفاقا منهجيا للتحليل لكنه نتيجة لعدم القدرة على رؤية العالم الجديد الذي يتطور كما هو. وأضاف "التحليلات التفصيلية لا تجدي. عليك أن تنظر الى العملية برمتها وترى ما هي القوى الكبيرة المؤثرة. حين تنمو ترى الصورة أكثر شمولا وتصبح أقوى. وحين تنكمش تنشغل كثيرا باخماد الحرائق لدرجة أنك تعتقد أن الصورة الكلية لا تزال كما هي لكنها ليست كذلك."