وعندك واحد شاي سكر زيادة للدكتور.. صرخ بها صاحب المقهي الذي تعودت الجلوس به فور أن رآني أدخل من الباب الخشبي ذي الواجهة الزجاجية المكسورة والتي تم لصق أجزائها بشريط لاصق منذ سنين . فلقد تعودت الجلوس بذلك المقهى الحقير بصفة دائمة بين المحاضرات ولي مكان مميز يحرص صاحب المقهى علي حجزه لي في تلك الساعة من النهار... فكما أن هناك جدول محاضرات يوجد جدول آخر يمكن أن نسمية جدول المقهى ينقسم إلي محاضرتين: الأولي شاي سكر زيادة من العاشرة إلي العاشرة والنصف والثانية مشروب بارد أو سحلب (وفقا لفصول السنة!) من العاشرة والنصف إلي الحادية عشرة إلا الربع . ودون أن أفتح فمي بكلمة أجد كوب الشاي أمامي تتصاعد منه الأبخرة اللذيذة خاصة في ذلك اليوم قارص البرودة ... هم النادل بالانصراف بعدما وضع الكوب ولكنني أستوقفته بطلب فريد من نوعه : واحد شيشة تفاح لو سمحت . ايه ؟ .. هو الدكتور بيشيش ؟!! مش كده بالظبط .. هات بس الشيشة . ينصرف النادل وهو لا يخفى دهشته بينما أخرج دفتر الكاريكاتير الخاص بي والقلم الرصاص وأضعهم علي الطاولة بجانبي ... يحييني ''عم محمود'' الذي تعرفت عليه منذ فترة وهو زبون دائم أيضا يتوافق جلوسه هناك في الأوقات بين محاضراتي ... ربما يستشيرني في أمر ضرسه الذي يؤلمه منذ خمسة عشرة سنة ويرفض بإصرار خلعه، فأعده بأن أتولي الأمر فور أن أصل إلي الفرقة الرابعة أو أتخرج من الكلية فيشكرني بشدة ويتابع شد أنفاس الدخان القاتلة . جلست أبحث عن فكرة جديدة ... كنت قد كُلّفتُ برسم مجموعة من الكاريكاتيرات لإحدى المجلات الشهيرة ( ولا داعي لذكر اسمها حتي لا اضطرالي دفع ثمن الإعلان وكان علي تسليم الأعمال في خلال أسبوع واحد ... أحضر النادل الشيشة وثبت بها حجر معسل التفاح المغطي بورق الألومنيوم المثقوب في عدة مواضع وناولني طرف المبسم... كان يحمل تلك البوتقة التي يضعون بها الفحم المشتعل فهم بالتقاط بعضه بالماشة و .. انت حتعمل إيه ؟ أوضب الفحم ؟ فحم إيه ؟ أنت فاكرني حشيش بجد ؟ يا راجل ده أنا بدرس طب وأكتر واحد عارف أضرار التدخين ! يا سلام ؟... أمال حتتصور جنبها ؟ مش كده بالظبط ... روح انت بس دلوقتي أروح إزاي؟ حتشرب الحجر ولا لأ ؟ حشربه ع البارد !!!! ع البارد .. هع هع هع هع وفيها ايه ؟ تمن الحجر وحتاخده يا سيدي .. أنت خسران إيه ؟ ضرب كفا بكف وهو يبرطم بكلمات مبهمة بالتأكيد عن أطباء آخر الزمن بينما كان صاحب المقهي يتابع الموقف بدهشة ... أمسكت بالقلم ورحت أدرس مكونات الشيشة وأنقل تفاصيلها بسرعة إلي دفتر الكاريكاتير... حسنا... علي الآن أن أجد أفكارا عن الشيشة تصلح للمجلة.. وبكل هدوء رحت أسحب أنفاس الشيشة الوهمية وأنفخ الهواء مقلدا ''عم محمود'' الذي راح يحدقني بدهشة وهو يهمس بكلمات ما إلي شخص جالس بجانبه . بتعمل إيه يا دكتور؟ لا ولا حاجة يا ''عم محمود'' .. سيبني بس أركز شوية ... نفس آخر ثم رشفات من كوب الشاي ولا زلت أبحث عن فكرة . يقول الشخص الآخر لعم محمود بصوت تعمد أن يصل لي : باين عليه بيحاول يبطل الشيشة فبيفطم نفسه عليها.. هع هع هع هع هاااااع أقفز من مقعدي وأكاد أصفق بيداي كالأطفال : برافو عليك ... فكرة هايلة ؟ هو إيه أصله ده ؟!!! أتجاهله تماما وأنا أدون فكرة الكاريكاتير التي أوحي إلي بها ذلك الرجل دون أن يدرى وهو يسخر من سلوكي.. طفل يرضع بدلا من اللبن شيشة... قمت بعمل رسم كروكي للكاريكاتير علي أن أطور الفكرة فيما بعد.. المهم بداية الخيط ... بدأ الزبائن ينتبهون لي وقد وجدوا أخيرا طريقة رائعة للتسلية بعد أن سئموا الفيلم العربي القديم الذي كان يعرض بالتلفاز العتيق فوق الرف.. بل إن صاحب المقهي أغلق التلفاز تماما بعد فترة وجلس يتابع ما أفعله باهتمام. فكرة ثانية ... فكرة ثانية أرجوكم ... همممممم ... أشد نفسا وهميا آخر وأتلذذ بصوت كركرة الشيشة ... يقول زبون آخر وهو يناولني سيجارة : طب عندي فكرة يا كابتن .. خد أنت شد في السيجارة دي وأنا أكركرلك ... هع هع هع هع أقفز مرة أخرى في الهواء وأهجم علي القلم والأوراق وأنا أقول بحماس : انت راجل عبقري ... انت ماحصلتش بجد ! هو فيه إيه ؟!!! أدون الفكرة بسرعة وألقي بالقلم في انتصار، منتظرا مبادرة أخرى من أحدهم.. في الواقع إن ما يقولونه لا يصلح أفكارا لكاريكاتير ولكنه يصلح تماما كبداية يمكنني تطويرها للوصول إلي فكرة جديدة وظريفة !... إنه كنز حقيقي ياليتهم يدركون قيمته .. ولكن يبدو أنهم سئموا الأمر فانصرفوا إلي لعب الطاولة والدومينو ومنهم من راح يتابع الفيلم مرة أخري بعدما أدار صاحب المقهي التلفاز وهو يمصمص شفتيه حسرة علي عقلي . همممم ... فكرة ثالثة يا عالم ... فليتكلم أحدكم بالله عليكم... هنا ... انتبهت إلي رنين هاتفي المحمول .. كانت (ميسد كول) من أحد الأصدقاء فقررت أن أرد عليه بواحدة ولكنني لم أكد أطلب الرقم حتي سمعت العبارة الخالدة : لقد أوشك رصيدكم علي النفاذ.. يرجى إعادة شحن البطاقة . وانخرطت في نوبة ضحك هيستيري جعلت الجميع يتنبه لي مرة أخري ... فلقد أوحت لي تلك العبارة بفكرة كاريكاتير جديدة! لا حول ولا قوة الا بالله .. الدكتور اتجنن يا جدعان . ولكنني لم أستطع التحكم بنفسي ... أشد أنفاسا وهمية وأستمع إلي كركرة الشيشة ثم أضع الموبايل علي أذني وأواصل الضحك الهيستيري !!!!. هاهاهاهاها .. هوهوهوهوهوهو .. هيهيهيهيهيهييييييييي ... حتي عندما قررت الرحيل وأخرجت النقود من جيبي كنت لا أزال أضحك وأنا أقول لصاحب المقهي : هاهاهاه ... سمعت آخر نكتة يا معلم؟ هاهاهاها لا حول ولا قوة إلا بالله ؟ إيه يا سيدي ؟ هاهاهاها .. بيقولك مرة واحد قعد يشرب شيشة لحد ما سمع الشيشة بتقوله: لقد أوشك معسلكم علي النفاذ.. يرجى إعادة شحن الحجر .. هاهاهاهاهاهاااااااااااي في تلك الحظة لمحت شبحاً لرجل مألوف عبر واجهة المقهى الزجاجية... بلعت ضحكاتي المجنونة وتجمدت تماماً وأنا أرقبه وقد توقف عن السير وبدأ يرمقني بدوره.... دلف إلي المقهى وترك حقيبته الجلدية ووقف عاقدا ذراعيه . - بتعمل إيه عندك يا ولد؟ - مين؟....بابا؟!! ...آآآه...ف ....في الواقع يعني أنا...... حدق في الشيشة المستقرة بجانب طاولتي التي وضعت عليها أوراقي وأقلامي وصرخ في: - وكمان بتشيش؟!... بقى دي آخر تربيتي فيك؟ - لالالا أبداً ده أصل إن ال ... قصدي يعني أني كنت بجيب أفكار كاريكاتير وبعدين.... - مفهوم مفهموم..... طب قدامي على البيت نسيت أخبركم أن المقهى لا يبعد كثيراً عن المنزل... ولقد تحقق أسوأ كوابيسي.... بالطبع كانت المرة الأخيرة التي أجلس فيها علي المقهى وأنتم عارفين الباقي! كلمتنا – إبريل 2003