أكثر ما يدخل في نفسي البهجة والسرور في مركز ثقافي، أداوم على زيارته، ضحكة ودعابة "سارة وسعاد" ، طفلتان لهما أثر رطب خفيف على نفسي، تمامًا كالذي يحدثه الآيس كريم في وهج الحر، ولطالما أنَّبَتهم أمهم أمامي على شقاوتهم، برقة وتفاهم شديد، قلما أراه من أمهات العرب. امرأة رقيقة ناعمة، راقية جدًا، لا تملك إلا أن تحترمها.. من فرط رُقيها أنت مقيد اللسان طوال الوقت، تحاول أن تكون قليل الكلام معها، خوف أن يصدر منك لفظ غير لائق أمامها، فكان من الطبيعي أن تنجب امرأة مثلها طفلتين رائعتين، كسارة وسعاد، خاصةً وهما تتحدثان عن المهرّج (نينو) الذي يظهر في مهرجانات المراكز الثقافية، وأنشطتها المختلفة، ليرسم البسمة على وجوه الكبار والصغار، لكن المتابع لهذا المُهرّج، سيلاحظ أنه يعطى لجمهوره دروسًا في فنون البشرية، مغلفة بالنكات، وتلك الألوان المبهرة التي تطمس ملامح وجهه، فتبعدك بالتالي عن شخصيته أو كينونته، لتعطى تركيزك فقط للمعنى المراد توصيله. وفي مرة صادفت (نينو) يخرج من كواليس المسرح، فاقتربت منه وأمعنت التدقيق في ملامحه، ومن طريقة حديثه مع أحد الأشخاص، لفت انتباهي صوته الأنثوي، وطريقة حديثه نفسها، طريقة فلاسفة أو علماء وليست طريقة مهرج! اقتربت منه وسألته: (هو إنت بنت؟!) فهمس لي في أذني مبتسمًا: أنا مامة سارة وسعاد!! طبعًا المفاجأة أذهلتني، تلك السيدة الشيك الليدي الرقيقة.. مهرج؟!! كيف ومتى ولماذا؟ هي اللي هتحكي بنفسها: اسمي هبة علي، كان عالق بذهني وأنا طفلة، فكرة المهرج وبالذات مهرج كان بيجى في برنامج سينما الأطفال، اسمه (المهرج فردينال)، حبيت مغامراته أوي، والحِكَم والملحوظات المفيدة اللي طالعة منه، مكنش مجرد مهرج، بيطلع يعمل حركات بجسمه تضحك المشاهد وخلاص، وكتير فكرت في شكل المهرجين الحقيقي، اللي ورا ماكياجهم، وبيعملوا اللبس ده ليه؟ وإزاي؟ وفهمت فيما بعد إن كل مهرج وليه شخصيته، رغم إنهم شكل واحد، واتمنيت أمارس الفلسفة دي بنفسي، وأوصّل بيها حاجة للأجيال اللي جاية.. اتأخرت كتير في اتخاذ القرار! مكنش عندي الجرأة الكافية في الأول، يعني كلام الناس وتعليقاتهم عامل، وكلام الأهل عامل، وهل أنا هتجيلي الجرأة أقف على المسرح وأقوم بحركات المهرجين؟ الست في مجتمعنا عشان تتوظف وظيفة عادية، لازم تعمل مقدمات وتشرح وتستجدي وتتحايل و..و.. فما بالك لو قالت لأهلها أو زوجها إنها عايزة تشتغل مهرج، وهتنزل تهزّر مع المتفرجين في مقاعد الجمهور وتضحكهم ستات ورجالة؟!! لكن كان جوايا أمل كبير وإصرار، وعايزة فعلا أبدأ مشوار توصيل عظة أو حكمة لطفل جديد على الدنيا، عايز يتدرب كويس، عشان يعرف يتعامل مع الحياة، خصوصًا في زمننا ده! والحمد لله إن ربنا سبحانه وتعالى رزقني بزوج متفاهم، قعدت معاه وشرحت له الفكرة، وطبعًا وضعنا حدود لعملي ده، بمعنى محدش يطلبني في بيوت لأعياد الميلاد والسبوع وما شابه، أو أقدّم فقرة في حفلة في عوامة أو فندق، رفضت عروض من (بورتو مارينا) من نفسي، لأني حسيت إن الموضوع هياخد شكل تجاري، وده مش هدفي، ولما شاف مني كده، كان مرن معايا جدًا،وقررت أقدم عروضي كلها تبرعًا لدور الأيتام والجمعيات الخيرية. ورحت أماكن ثقافية مثل (بيت العيني والسحيمي)،وفيه هناك حاليًا ورشة باسمي، بعلِّم من خلالها الأطفال، مادة العلوم، والفكرة جابت نتيجة كويسة جدًا معاهم في درجات الامتحانات. اللبس والماكياج اجتهاد شخصي مني، لأن مفيش في مصر جهة معينة بتهتم بفن المهرج، وأنا عامة ما شفتش غير مهرجي حفلات أعياد الميلاد، ودول بيقدّموا ألعاب وأفكار أقل من ساذجة، لجيل الكومبيوتر والنت، ومهرجي السيرك، ودول معدودين جدًا وواخدين الفكرة كمهنة وأكل عيش بس. أول مرة جوزى شافنى بلبس المهرج، كانت صدمة بالنسبة ليه، ومع إنه بص لي باستغراب، إلا إنه كان الوحيد اللي عرفني على طول، وكانت مفاجأة إنه قام بسرعة وجاب الكاميرا وصورني! بالنسبة لبناتى، أنا حاطة حدود معاهم، كونهم بيشوفونى كتير بلبس المهرج ده، ما يخليهومش ما يسمعوش كلامي مثلًا، أو يتدلعوا في تنفيذ أوامري، هم متعودين إزاي يفرّقوا بين ماما وبين (نينو). مرة حصل موقف لبنتى سعاد في عرض من العروض، راجل كان بيحاول يلعب معاها، وهى كانت زى بقية الأطفال، متشنجة شوية مع حد غريب عليها، فقال راجل تانى جنبه: هى بتعمل كده ليه؟ قالوا: أصلها بنت البلياتشو، الكلام وصلني فيما بعد، ففهمت الشخص ده الفرق بين البلياتشو والمهرج, مهما أتعرض لمواقف من النوعية دي، ما بتحرجش، ولا بندم؛ لأن فيه حاجات كتير قوي في بلدنا، لسّه بدري عليها على ما تاخد الاهتمام والاحترام الملائمين ليها، ولو كل واحد تراجع عن أحلامه مع كل كلمة سخرية يسمعها، هنفضل كده محلك سر! نشر في كلمتنا يونيو 2009