حين تتكلم الدماء تدخل الكلمات جحورها ويصبح الصمت والترقب سيد الموقف في ساحة لم تعد تحتمل التأويلات ولا الاجتهادات ولا الحلول الوسط. ولأن الدماء لا تكذب ولا تخون ولا تغير أقوالها، يجب على أولي النهي وأولى العزم في بلادنا أن يتخلوا عن صمتهم أمام أحداث الوطن الجسام وأن يعلنوا الزحف فورا نحو جرح الوطن النازف فوق الخارطة وتحت أقدام المتربصين ليقفوا سدا بين الرصاص الحي والصدور الحية. لم يعد الأمر ملهاة يختلط فيها جد السياسة بهزل التاريخ، ولم يعد الموقف يحتاج إلى مزيد من تنظير أو تقعير أو إعادة تدوير. لم يعد مقبولا إلقاء اللوم أو الحجارة على أحد والاكتفاء بمص الشفاة وعقد الحاجبين والتنقل بين قنوات التدجين والتخوين وترك الجرح النازف في خاصرة الوطن للجراثيم والعفن بحجة أننا لا نريد أن نلوث ثيابنا الطاهرة بدنس السياسة ورجسها. صمتنا اليوم أمام شلالات الدماء وأكوام الجثث المعبأة في أكياس بلاستيكية خيانة وبيع وتهويد لعقولنا وإخصاء لذكوريتنا، وإقصاء للمنطق والحكمة والرشد فينا. وكل لحظة تمر على تماثيل الشموع التي لم تعد تضيء ولا يهتدي بشعلتها أحد تحمل نذر انعطافات خطيرة وانزلاقات هائلة نحو ما كان مجهولا ثم صار معلوما للجميع بفضل تجارب مريرة تكرر نفسها في كل ميدان.
ولأن نذر الصدام التي صارت تلوح في الأفق بدأت تغطي سماواتنا المفتوحة على كل الاحتمالات ولأن أرياش الغرابين السود تحجب اليوم كل أشعة الأمل عن نفوسنا الغارقة في الحزن منذ زمن، آن أن يثق حكماء القوم بأقدامهم وأن يتوسطوا بين النار والفتيل للحيلولة دون نزع سدادة فتنة قد تأتي على بقايا النهار في ربيع يوشك الليل أن يصبح مثواه الأخير. مخيفة كل الإجابات وشائكة كل الطرق، ووعرة كل المسالك التي تفرضها اللحظة الراهنة من تنازلات قد لا تصبح كذلك بعد أيام قلائل. فالتاريخ يصدر أحكامه بعد التحقق من الأدلة المنظورة أمام عدالته التي تتحقق ولو بعد حين. ولأن خيط الليل قد تخلى تماما عن خيط النهار وصار عاريا من كل زيف، فقد أوشكت أحكام الإدانة أن تقع بحق الجميع لأننا جميعا أخطأنا عن سبق إصرار في حق وطن لم يقصر في حق أحد. نعلم أننا سننتصر وسنتجاوز محنة الخوف والرعب التي غزت كل الحلوق وباعدت بين كل شهيق وزفير وكتمت أنفاس الربيع الذي أوشك أن يزهر في ربوعنا القاحلة. أعلم أننا قادرون على خوض غمار المستجدات والانتصار على خطط التمزيق والتبوير والفوضى، لكنني أخشى أن يتأخر القطر فتجف حلوق الأرض وتيبس تويجات أزهارنا وتسقط أوراق كنا نعدها لستر عوراتنا في خريف يتوعد الخارطة الكونية بريح صرصر عاتية. دماؤنا التي تسيل رهوا في كافة الميادين وعلى كل الأرصفة تحمل نذر شؤم وفوضى ومواجهة قد تسقط بلادنا المنهكة في وحل نسيان زلقة لا تخرج منها إلا بعد أن يشاء الله. لماذا ننتظر إذن قدوم السبع العجاف ولا نبادر بأي حكمة تضم ثوب الوطن الممزق على جسده العاري. وإلى متى يتخلى المسئولون عن مناصبهم في انتظار كارثة لن تبقي ولن تذر ولن ينجو من توابعها أحد. كلنا اليوم مهددون بالسقوط من زورق مطاط لم يعد يتسع لأي عراك بالأيدي أو تنابذ بالأكتاف. وإن لم نتحمل مسئوليتنا التاريخية بتجفيف المياه النافذة إلى قلبه المليء بالثقوب بنياط الإيثار والفداء، فسيكون السقوط، معاذ الله، مدويا. علينا إذن أن نتخلى عن طموحاتنا غير المشروعة في هذه الأزمة الطاحنة وأن ننزل اليوم إلى الميدان متجردين من الهوى والرغبة في الصعود إلى كرسي صار عبئا على من يعتليه ومسئولية لن يستطيع أن يقوم بها حزب أو جماعة سياسية أو دينية أو قومية أو ليبرالية. علينا اليوم أن نتخلى عن أنانيتنا وننقذ جسد الوطن من طوفان لن تعتليه سفينة نوح ولا زورق حربي ولا مركب صياد يحلم بالقليل من القوت يكفي لسد مسغبة. وعلينا أن لا نلحف في الطلب باسم الشهداء، لأن هؤلاء لم يضحوا بحياتهم إلا رغبة في ضخ الدماء في شرايين وطن يحتضر. يقول ألبرت أينشتين: "لشد ما أكره البطولة المستبدة، والعنف الأحمق، والثرثرة المقيتة باسم الوطنية".