نشب خلاف بين أخوين ذات حسد، وتحول الخلاف إلى تنابذ بالألقاب وسب على قارعة الطريق، وانهارت مشاريعهما المشتركة وظنا كل الظن أن لا تلاقيا. وتحولت الجدران اللصيقة إلى حدود مصطنعة وجبال من الأسلاك الشائكة. وإمعانا في الفصل، قام الأخ الأصغر بتجريف مرج يفصل بين منزليهما وحفر خندقا عميق مكانه. وذات ليلة، سمع الأخ الأكبر طرقة على الباب، فنهض ليفتحه فإذا به وجها لوجه أمام نجار يحمل في يده اليمنى سلاما وفي اليسرى صندوقا مليئا بأدوات القطع والوصل. فلما سُئل الرجل عن حاجته قال أنه في حاجة إلى عمل يقتات منه. فكر صاحبنا قليلا ثم قال له : "أريد منك أن تقوم ببناء سور خشبي بارتفاع ستة أمتار ليفصل بين بيتي والبيت المجاور". طلب النجار من الرجل بعض الأدوات اللازمة، فحمله إلى السوق واشترى له ما أراد، ثم عاد به إلى البيت وتركه ليرتاح حتى الصباح. وعند الفجر أيقظ صاحبنا النجار لينجز عمله بينما يذهب هو إلى السوق ليشتري بعض الأسمدة اللازمة ويبيع بعض الخضروات. وفي السوق تأخر الرجل حتى غابت الشمس، وحين عاد وجد النجار في انتظاره ليخبره بأنه قد أتم عمله. ذهب الرجل مسرعا ليرى السور، فوجد جسرا معلقا فوق خندق القطيعة يصل بين طرفي النزاع، والحق أنه كان تحفة لا يقدم على هدمها إلا طائش أو مجنون. وفي الناحية الأخرى من الجسر لمح أخاه بيد ممدودة وقلب مفتوح. وأخيرا التقى الأخوان فوق جسر خلافاتهما ليصنعا مستقبلا آخر لا يقر بالحدود المصطنعة والأسلاك الخانقة. وحين أراد النجار أن يرحل، استمهله الأخوان لينجز لهما بعض الأعمال، فاعتذر بأن لديه من العمل ما لا يحصى ولا ينجزه نجار واحد. ألا تعرف ساحاتنا السياسية التي تعج بالمتكلمين والمتفيقهين في أيامنا النحسات هذه نجارين بقامة هذا الرجل فيصل إلى الخرائط المتخاصمة فوق جسد بلادنا الممزق بجسور تجعلها قابلة للبقاء نابضة في جسد حي ؟. ألا نفتح أبوابنا وصدورنا إلى طرقات ليل تحمل لنا الخير كل الخير في زمن تباع فيه كل الفضائل من أجل دنيا نصيبها وكراسي لا تباع إلا لمن يدفع الثمن من حرية البلاد ودماء العباد ؟. من لهذا الشعب المنقسمة نخبه يمينا ويسارا، بينما يعاني هو الأمرين من طموحات تتجاوز آلامه ولافتات لا يذكر عليها اسم الله ولا حب الوطن ولا هموم المواطن. ما هذا الصلف والتعنت بين أخوين مهزومين سقطا كضفدعين مغرورين في قاع بئر من العسل ؟. ما بالهما لا يرفعان أيديهما طلبا للنجاة أو دفاعا عن حياة توشك أن تزهق، بل للبدء بالعدوان والركل والضرب تحت الحزام وإثارة الأحقاد والنفخ في رماد الفتن والعودة إلى داحس النقم وغبراء التيه بعد أن أوشكنا أن نثق بقدرتنا على الخروج من عنق زجاجة الأطماع الضيقة. غير مقبول ولا معقول أن نستمر حتى النفس الأخير من آجالنا المحدودة وأصواتنا المعدودة نتقاتل على مستقبل لا نملكه أو نتعارك على سباق سنخرج منه جميعا منكسي الرؤوس والهامات والأعلام. لا يمكن أن يلدغ المؤمن ويسحل ويقتل ويمثل به من كل حجر مرتين، ولا يعقل أن تكون نخبتنا التي راهننا عليها ذات نداء طرفا خفيا يسعى إلى إغراق سفينة نوح التي تحمل المن والسلوى لكافة الشعوب التي تتوق للحرية في أنحاء المعمورة. لا يجب أن يرتد سهم أطلقناه ذات ثقة بنخبتنا النرجسية إلى نحورنا فنفقد البوصلة والمركب والحياة جميعا. رغم جراحاتنا الكثيرة وآلامنا التي لا تحصى وخيبة أملنا في نخب لا تملك أن تدحرج حجرا من أحجار المؤامرة فوق حجر، لا زلنا نراهن على وعي هذا الشعب العظيم الذي خرج كمارد القمقم وسط الميدان ذات فجر ويعرف جيدا معنى العودة إلى الليل والقهر والتشرنق داخل قوقعة الحزن التي لا يحفل بها أحد ويزدريها كل أحد. لا زال لدينا ثقة بأن سفينة هذا الوطن تحمل بعض النجارين العقلاء الذين يستطيعون هدم جميع الأسوار وبناء جسور من الثقة بين كل الفرقاء لينجو الجميع وينجو الوطن. يقول روشفاكولد: "لا يستمر النزاع طويلا إذا كان الخطأ من طرف واحد".