راهن الإخوان على التغيير المتدرج للناس، في بداية دعوتهم، لكنهم حين عادوا إلى دخول الانتخابات في 1984 بالتحالف مع الوفد بدأوا في مرحلة استعمال الناس لتعزيز المشروع الإخواني، ولم يهتموا بمسألة تغييرهم، لاسيما مع تسرب فكر سيد قطب الانقلابي إليهم، حيث يؤمن بالقفز إلى السلطة بأي ثمن، ثم فرض المشروع العقدي والفكري والفقهي على الناس فرضا. ومنذ أن فاز الإخوان بأغلبية في برلمان ما بعد الثورة، تخلوا كثيراً عن مطالبة كوادرهم بالامتثال لبرامج التربية التى كانت مقررة عليهم حين كانوا مستضعفين. لكن الرهان على الجمهور الذى أوصل واحدا من الإخوان إلى رئاسة مصر، كان دوما على حساب الاهتمام بالنخب، بأصنافها الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية... إلخ. وقد اكتفت الجماعة بنخبتها الخاصة، إذ إن من بين أتباعها والمنضوين تحت لوائها والمنتسبين إليها أو حتى المتعاطفين معها من ينتمي إلى هذه النخب جميعا. وفى المقابل اعتمد الحزب الوطني المنحل، على استقطاب هذه النخب، من خلال الجهاز البيروقراطى للدولة وخزانتها ووسائل التسيير والإدارة التي تمتلكها، وأدوات الحماية التى تحوزها. وفي وقت كانت جماهيرية الحزب الحاكم تتآكل بشكل منظم كانت النخب تسند النظام بكامل طاقتها، إما طمعاً في الاستفادة من المنح والعطايا التى يقدمها، أو استفادة من تواطؤ الدولة مع مطامح ومطامع قطاعات من هذه النخب. وعلى النقيض كانت جماهيرية الإخوان تتنامى بشكل لافت، لا تخفى على كل صاحب بصر أو بصيرة، بينما يرتفع الجدار بين الإخوان وبين هذه النخب، نظرا لعدم تقديم الجماعة ما يطمئن هؤلاء حيال «مدنية الدولة» و«حرية التعبير» و«أمن الوطن»، وزاد الأمر بعد الثورة حين حاول القادة السياسيون أن يجعلوا من لفظ النخبة «مصطلحا كريها». وجافى الإخوان النخب فى وقت كان بعضها يتململ من نظام المخلوع مبارك ويفقد تباعا الثقة فيه، ومن ثم يتفاعل بوعي مع طروحات الإخوان، ويسعى إلى بناء جسور معهم. ورأينا كيف طالب ليبراليون ويساريون مصريون عتاة بحق الجماعة فى الحصول على المشروعية القانونية والشرعية السياسية، في شكل حزب أو جمعية أهلية، وندد كثيرون باعتقال الإخوان وملاحقتهم وقمعهم، ومحاكمتهم أمام القضاء العسكرى، وتحدث البعض عن ضرورة إزالة «العقدة النفسية» بين النظام والإخوان، التى تحول دون تطور مصر سياسيا، حيث تخشى السلطة من أن تؤدى انتخابات حرة نزيهة إلى صعود الإخوان. ورأينا كذلك كيف شارك الإخوان قوى سياسية أخرى احتجاجها ضد النظام، خاصة خلال عامي 2004 و2005. لكن علاقة الإخوان مع النخب لاتزال هشة، قياسا إلى ما تحتاجه قوة طامحة فى الاحتفاظ بالسلطة وحيازة التمكن الاجتماعى. وينسى الإخوان فى هذا المضمار أن الجماهير التى كان القيادي الإخواني البارز الدكتور عصام العريان يطلق عليها اسم «الناس الطيبون» لا تصنع التاريخ دون التحام مع نخبة تقودها وتنظم جهدها، وغاية ما حدث فى تجارب البشر أن وجدت فى لحظة ما نخبة تحس بنبض الناس وتتفاعل معهم وتبني شرعيتها على وجودهم، فعندها نتحدث عن تحقق الجماهير وفاعليتها. نعم تمكن الجمهور العريض، الذي نجحت ثورتنا بفضله، من أن يأتي في ظل انتخابات نزيهة بالإخوان إلى الصدارة السياسية، لكن ليس بوسعه أن يضمن لهم استقرارا واستمرارا في الحكم، وهنا تأتي الحاجة إلى رضاء النخب، وهي مسألة لم يبلغ الإخوان فيها شوطا كبيرا مثل ذلك الذي قطعوه في علاقتهم بالناس. والرضا هنا ليس توزيع المنافع وشراء الولاءات والذمم، إنما إشراك الكل في أعباء الوطن، والإنصات بوعي وتجرد لأعضاء النخبة التي تخالف الإخوان الرأي والموقف، وليس التحرش بهم وتشويههم، عبر ما يسمى «الميليشيات الإلكترونية الإخوانجية». ومن بين المثالب التي تصم أداء الإخوان حيال النخبة، ذلك التجاهل للثقافة والفنون، فالإخوان لم يفلحوا طيلة العقود التي خلت فى تقديم مثقفين كبار لمصر، وكل المثقفين العظام الذين يتمسح الإخوان بهم من أمثال طارق البشري وسليم العوا ومحمد عمارة، لا ينتمون تنظيميا إلى الجماعة، ويطرحون أفكارا تسبق فكر الإخوان بمراحل. ولم يقدم الإخوان لمصر روائيين وشعراء كباراً، باستثناء نجيب الكيلاني، وأغلب ما تنتجه الجماعة أو تتحمس له من آداب وفنون يدخل في باب الوعظ، ويبتعد عن قوانين الفن وشروطه. وهذا الوضع جعل القطاع الأكبر من الأدباء والفنانين يفضلون استمرار النظام الحالي، رغم معارضة بعضهم له، على تولي الإخوان زمام الأمر في مصر. وفى حال استمرت الجسور مقطوعة بين الأغلبية الكاسحة من الشريحة التي تنتج الآداب والفنون في مصر وبين الإخوان فإن الجماعة ستخسر هذا القطاع المؤثر، أما إذا فطن الإخوان لهذا الأمر، وتخلصوا من ذلك العيب، أو رمموا هذا الشرخ الكبير، فإن بوسعهم أن يكسبوا إلى جانبهم بعض المثقفين الكبار، ممن ضاقوا ذرعا بالفساد وتأخر الإصلاح وخنق الحريات العامة. لكن هذه الخطوة تحتاج إلى شجاعة فكرية فائقة من الجماعة، تجدد بها رؤيتها للثقافة بشتى ألوانها وصورها، وترد رداً كافياً وناجعاً على اتهامها بالظلامية، شأنها شأن كثير من الجماعات والتنظيمات السياسية المتشددة ذات الإسناد الإسلامي. وبشكل عام، إذا استمر الإخوان في رهانهم على الجماهير وإهمال رأي النخب ومواقفها، فإن طريقهم إلى التمكن سيظل مسكونا بالعراقيل، خاصة في ظل استمرار النظام الحاكم في الاعتماد على قطاع لا يستهان به من هذه النخب فى حفظ استمراره رغم تراجع شعبيته. أما إذا التفت الإخوان إلى النخبة، وقدموا ما يطمئنها بطرح نظري عصري في شتى المجالات، يتبعه عمل وسلوك يبرهن على انطباق الأفعال مع الأقوال، فإن الإخوان قد يربحون كثيرا. وهذا بات فرضا عليهم، شاءوا أم أبوا، إذ ليس من المعقول ولا المقبول أن يتصرفوا كطائفة، أو دولة داخل الدولة، لا تهتم ولا تحتفي ولا تهتم إلا برموزها، وفي المقابل تشوه رموز القوى المنافسة بشكل لا ورع فيه ولا أخلاق. نقلا عن المصري اليوم .