لم نعتد منذ ميلاد طرح الأسئلة، لأننا تعلمنا أن ننصت إلى الوالدين والمعلمين ونشرات الأخبار والمسلسلات والمعلقين الرياضيين والأكبر سنا. ولأننا تعلمنا أن الصمت من ذهب والكلمات من تراب، آثرنا أن نبتلع ألسنتنا مع حبات مسكن للفهم والإرادة كل صباح. وانطلقنا في الحياة بآذان كبيرة كآذان الأرانب نلتقط بها كل موجات الأثير، ثم نكرر كالببغاوات ما حفظناه عن ظهر غباء حتى وإن لم يكن كلامنا مسلينا أو خفيفا على قلوب من نخاطب. ولأن رتابة الأحداث في واقعنا لم تغر بصيلات اهتمامنا بالحركة ذات يمين أو ذات يسار، تعودنا أن نبتلع كل الأطعمة دون تذوق وأن نمرر كل الأكاذيب دون تمحيص يغري باستحسان أو يدعو إلى تمرد يُوَرد الخدين بدم الوعي.
ثم انطلقت شرارة الثورة في سماء بلادتنا فجأة، فأدركنا أن الحياة ليست مجرد قضيبين ينتهيان إلى نفق الموت، أو مسلسلا مقيتا علينا أن نشاهده دون رغبة حتى موعد نوم مليء بالكوابيس يحملنا إلى صباح رتيب لا ندري فيم ننفقه. وتعلمنا أن بندول الحياة يمكن أن يتراقص في كافة الجهات ويتمرد على ثنائية اليمين واليسار، وفهمنا أن الوعي - لا الثروة - أثمن الممتلكات. وأدرنا رؤوسنا ذات اليمين وذات الشمال، فرأينا حولنا أمورا جد غريبة تأقلمنا عليها منذ زمن حتى تخيلناها جزءا من أبجديات الحياة، فدارت في رؤوسنا دوامات الأسئلة المتداخلة كخيمة عنكبوت، ولم ندر من أين تبدأ ولا أين تنتهي. وفي زحمة تلك التساؤلات، تاهت القضايا الكبرى، وطغت سفاسف الأمور على عظائمها، فتلهينا بلعبة الكلام عن التفكير في رسم خريطة طريق يكفل الخروج الآمن من نفق التيه الذي وجدنا عجلات قطارنا تسير على شفا قضبانه فجأة. هكذا خرجنا من الصمت بأراجيح للألسنة تمكنها من الدوران في متاهات حلوقنا دون هدف أو رؤية. وخرجت علينا الفضائيات لتكرس حالة التيه وتصرف الذهن المشوش أصلا عن طرح الأسئلة الكبيرة، واكتفت برسم علامات استفهام على جبين الأحداث دون أن تساهم ولو بإشارة في انتشال جسد الواقع الغارق في مياه ملوثة بوحل المشكلات أو تقدم أي إسعافات أولية لبلاد تغمر خياشيمها القضايا المعلقة منذ عصور. تحتاج بلادنا اليوم إلى بحوث ميدانية تحاول الإجابة على الأسئلة الكبرى المتعلقة بالتوجهات والرؤى قبل الإقدام على صناعة أي دستور. فالدستور الأعور لا يمكن أن يقود البلاد إلا إلى حتفها، ولا يساهم في رؤية هدف، ولا في التطلع إلى أفق غاية. والناس في بلادنا تنتظر اليوم بعد أن أنهكها طول المسير في طريق خلا من التوقعات الطيبة إلى حبل دستور يجرها فوق أمواج التخبط العاتية إلى بر تعقل لتعتصم به. يحتاج الناس اليوم إلى دستور يجمع بيض المصريين كلهم في سلة واحدة كي يجمع في المستقبل القريب أعشاشهم.
كما نحتاج إلى عقول قادرة على مواجهة الإجابات الكبيرة وتفهمها، فعلاج المشكلات المستعصية لا يمكن أن يكون بوضع مسكنات آنية في فم الأحداث الجارية، وإنما يكون ببتر أطراف توشك على إفساد الجسد كله وإغراق سفينة الوطن إلى أعماق محيط العالم. على شعبنا أن يتقبل صعوبة الإجابات كما تقبل مفاجأة الأسئلة الصعبة ذات إفاقة. وعلينا جميعا، وأخص هنا الإعلاميين والمفكرين، أن نقوم بصهر الأسئلة الصغيرة في بوتقة أكبر حتى تتسع الإجابات لكل الرؤى ويتسع صدر الوطن لكافة التوجهات. أعلم كم هي عسيرة تلك المهمة، وأعلم أنها لن تقابل بالثناء ولا بالتقريظ من أي تيار طالما أنها تمثل الجميع. لكن شجاعة الطرح في هذه الآونة هي السبيل الوحيد لخروج الوطن والمواطنين من ظلمات العشوائية التي تخيم على ساحات الجدال والاقتتال الفكري منذ فجر ثورة لا زالت تخبط خبط عشواء في ليلة ظلماء على قارعة مستقبل لا يحترم الأسئلة الصغيرة.