هل تسير عجلة الوطن إلي أمام أم إلي وراء؟ ولأن الحوار المباشر مفتقد، ولأنه وفيما يبدو سيظل كذلك لأمد، ولأن الحرص علي مصير الوطن يوجعنا قلقا وخشية، فلم يبق سوي أن نتراسل هكذا. فالقلق والخشية مشروعان، وتحفزهما بل تفرضهما مواقف وتصرفات وصمت علي ما يجب فعله، أو فعل أتي في غير موضعه ومن ثم يتوجب أن نطرح أسئلة، أو أن نقدم اقتراحات بإجابات ليس بحكم المزاحمة في تقديم الآراء، وإنما بحكم استشعار المسئولية إزاء ما يجب أن يكون. نبدأ بقضية محورية وهي غموض النوايا حول مسار الوطن ومسيرته القادمة، والغموض فيما يبدو مقصود بذاته فلا أحد منا يعرف إلي أين؟ ولا متي؟ ولا كيف؟ كيف ستجري الانتخابات؟ القائمة أم الفردي؟ أم هما معا؟ فإن كانت قائمة فكيف وبأي ترتيبات.. مفتوحة أم مغلقة؟ نسبية أم مطلقة؟ منقوصة أم كاملة؟ مشروطة أم لا؟، وإذا قيل لنا تعللا إن الأمر معقد ويحتاج إلي ترتيبات ودراسات، فإن من واجبنا أن نسأل ألا يحتاج أيضا إلي تشاور مع الذين سيخوضون الانتخابات؟ بل أن نسأل إذا كان إعداد نص يتطلب كل هذا الوقت، أفلا تحتاج الأحزاب وقتا هي أيضا كي ترتب أمورها إن «فردي» فكيف وبمن؟ وإن قائمة فكيف ومع من؟ أم إننا سنظل هكذا مطلوب منا أن نبقي معلقين بحبال الانتظار ثم نفاجأ بقرارات قد تأتي مقبولة أم غير مقبولة؟ ممكنة أم غير ممكنة؟ صالحة أم غير صالحة؟ خاصة أننا فوجئنا أكثر من مرة بنصوص قوانين ماكرة تأخذ بأكثر مما تعطي، ولأننا لا نعرف في حقيقة الأمر من هم الذين امتلكوا هذا الدهاء؟ ولماذا صاغوا بدهائهم نصوصا ماكرة تضر بأكثر مما تنفع؟ كذلك فإن من حقنا أن يتعلق بأذهاننا المثل الشعبي القائل «اللي لسعته الشوربة ينفخ في الزبادي» وحتي هذا القلق المشروع لا يأتي أبدا - وحتي الآن - إلا بشوربة مريرة لا تلسع فقط وإنما تحرق. والآن هل أطلب منكم أن تقوموا بتعداد كم علامة استفهام أتت في عبارة واحدة لتعرفوا كم الضباب الذي غرس قدرتنا علي رؤية المستقبل وحتي المستقبل القريب جدا. لكن القضية الأكثر إلحاحا والتي تطلب منكم صراحة ومصارحة حتي يدرك الجميع مصير ومسير المستقبل الذي ترسمون، وحتي يمكننا أن نمد أيدينا، معكم دعما، أو أن نقوله نصحا، أو أن نعترض رفضا، وابتداء فإننا ندرك أن الأمر معقد، وأن مصر تبدو وكأنها سيارة غرزت في رمال صحراء ممتدة عبر أفق غير معلوم، والكثيرون يتدافعون لدفعها كي تتحرك، لكن السؤال هو ما رؤية من يقود هذه السيارة إزاء تدافع المتدافعين؟ فالبعض يدفع بالأمور إلي الخلف راغبا في أن تنحاز عربة الوطن وراء نحو رؤية يسميها المتفلسفون «ماضوية» أي تنتسب إلي الماضي دون مراعاة لحاضر أو مستقبل أو التطور اللامتناهي الذي طرأ علي العالم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، والبعض الآخر يحاول جاهدا أحيانا بشجاعة أو أحيانا في وجل، أن يدفع بعربة الوطن إلي الأمام نحو دولة مدنية حقا وليس اسما يراوغنا به البعض حتي يستدرجنا إلي ما لن يتحقق علي أيديهم بل سيتحقق عكسه، دولة تقوم علي أساس ليبرالي ديمقراطي وعادل وتتطلع بجميع مواطنيها وعلي قدم المساواة ودون أي تمييز بسبب من الدين أو الجنس أو الوضع الاجتماعي نحو أفق مستنير يقوم علي أسس راسخة من العلم والعقل والنهوض نحو مستقبل رحب يتقبل الجميع ويبنيه الجميع ويستمتع بخبراته الجميع، وبين هذا التدافع وذاك أكاد أقول معتذرا أنكم لم تفصحوا عن رؤية سائق سيارة الوطن وهل سيندفع بها إلي الأمام أم إلي الخلف، ولعل من حقنا أن نسأل وأن نطلب إيضاحا واضحا.. الآن وفورا، فالأمر يخصنا كما يخصكم ويحاول البعض أن يفسر هذا التردد في الإفصاح قائلا: ربما كانوا لم يستقروا بعد، علي أي طرف من العصا سيمسكون أماما أم خلفا أم وسطا.. فإذا كان الأمر كذلك، فهل يكون الأوفق والأكثر صحة أن تجلسوا وتستمعوا إلي رؤي مختلفة وتتحاورون وتتشاورون مع كل الأطراف؟ ولا خاب من استشار. وثمة مشكلة أخري تتفجر إلحاحا ويبدو أنكم لا تخصصون لها وقتا لدراستها وهي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وأعرف أنكم محاطون في هذا الشأن بتفاصيل مربكة كم تبقي من رصيد القمح أو الأرز أو العدس؟ وكيف سيتم توفير أنابيب البوتاجاز، وهل ستستمرون في تصدير الغاز لإسرائيل، والخبز كما ونوعا ووفرة، ولكن المشكلة الأكثر أهمية في اعتقادنا هي قدرة الإنسان المصري الفقير علي شراء ما يحتاج لطعام أولاده حتي إن وجد، فالأسعار منفلتة وتزداد انفلاتا لا يتلاءم مع الأجور والتفاوت بين أدني أجر وأعلي أجر رهيب وهو بذاته يثير غضب من لا يجدون قوت أولادهم، ويثير دهشتنا أن البعض تصور أننا بحاجة إلي استيراد خبراء لدراسة كيفية تحديد الحد الأدني فهل استورد خبراء لتحديد الحد الأقصي، والأمر يتمادي ليصل إلي حالة من النقص الحاد في الإيرادات والتهديدات المكتومة بأن الخزانة العامة لن تحتمل استيراد الاحتياجات الضرورية ولا سداد المرتبات ولأنه لا شفافية مطلقا في هذا المجال فإن البعض يتصور أن هذا الهمس مقصود لتبرير منع المظاهرات والاعتصامات المطلبية بحجة إنقاذ الاقتصاد الوطني من كارثة، ولقد ألححنا من سنوات بضرورة فرض نظام ضريبي جديد يتلاءم مع مستويات دخول متدنية جدا لتصل إلي حافة أشد الأنماط فقرا ومع مستويات دخول تقفز بأصحابها سماوات من الثراء المجنون والإنفاق الأكثر جنونا، الحل هو الضرائب التصاعدية ومع ذلك يجد كبار كبار كبار المستثمرين من يدافع عن حقهم في تشجيع ضريبي دون أن يقوم أحد بمراجعة فعلية لما يحققون من أرباح خيالية رغم كل ما نحن فيه، ومثل هذا الأمر تحسمه رؤيتكم لمستقبل الوطن ومسيرته هل إلي بعض العدل الاجتماعي أم إلي مزيد من الظلم الاجتماعي؟ وأكاد أقول دون أن يتصور أحد أنني أخيفه، أن وعاء الغضب الشعبي لدي الفقراء قد امتلأ وفاض ويهدد بما لن يحتمله أحد، فالفارق كبير جدا بين متظاهر مصري وطني وثوري يريد دستورا وديمقراطية ومواجهة للفساد ومتظاهر وطني أيضا وثوري أيضا لكنه خرج يريد خبزا لأطفال جياع أو دواء لابن مريض، صدقوني الأمر جد مختلف، وهو ومع استمرار ما نحن فيه دون حلول جذرية احتمال قائم.. جدا. وثمة مسألة أخري وهي المساحة التي تتحرك فيها الاختيارات، وهي مساحة اتضحت بجلاء في حركة المحافظين الأخيرة فقد تركتم مساحة لرئيس الوزراء فاختار زملاءه في هيئة التدريس في هندسة القاهرة، وثمة اختيار عدد محدود من المستشارين وأنتم اخترتم عديدا من زملائكم ولكي أكون واضحا تماما فإنني أكاد لا أعرف جميع الذين أتوا كمحافظين إلا أستاذا جامعيا فاضلاً ويمتاز بكفاءة عالية، وأنا أيضا لا اعتراض لي من حيث المبدأ علي اختياراتكم للمحافظين لكن البعض يتحسبون من احتمالات منح الجهاز الإداري كله صبغة جديدة. ومن ثم فإن الأمر يتطلب رؤية مختلفة لكيفية تحقيق الاختيار الأمثل في المحليات، فمع القانون الجديد الذي جري التلويح بإعداده لماذا لا يتم انتخاب العمد ورؤساء الأحياء والمراكز والمدن صعودا حتي المحافظين بالانتخاب المباشر من الجماهير ليقع الجميع تحت سلاح المحاسبة والمساءلة الشعبية؟ وإذا كنت قد أشرت في خطابي السابق لكم إلي الموضوع الأشد خطرا والأكثر حساسية وهو موضوع الوحدة الوطنية والحقوق المتكافئة والمتساوية للمصريين بغض النظر عن الدين والجنس والوضع الاجتماعي، فإنني ألمح جموحا لم يزل يتوالي من بعض المتأسلمين مثل ما صرح به بعض المنسوبين لجماعة الإخوان في مؤتمر عقد في امبابة وربما كان جموحا مقصودا أو مرتبا لكنه يتطلب بالضرورة أن تبت فيه الجماعة برأي قاطع وأن تتفضلوا أنتم بالبت فيه بموقف حاسم، وكذلك الجموح الذي يزأر به السلفيون.. وهو ما يثير غضبا وخشية وتوترا لدي الأقباط يعززهما صمتكم إزاء قضية بناء دور العبادة وإزاء قضايا التمييز الرسمي وغير الرسمي وأكاد أقول إن القرار الحاسم في هذا الصدد قد تأخر طويلا وآن أوان حسمه.. اليوم قبل الغد. السادة أعضاء المجلس الأعلي.. أري تحت الرماد وميض نار ويوشك أن يكون ضرام نعم يوشك أن يكون له ضرام، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.