وطن راكب فى ميت مركب.. مافيهم مركبة عايمة.. ولو عامت.. مابتدومشى.. ولو دامت.. صعيييب تمشى.. ولو مشيت.. بتتكعبل فى مييييت كعبوووول. من فى مصر لا يذكر الريس حنفى «عبد الفتاح القصرى» فى فيلم ابن حميدو، الذى صنع مركبا من الخردة، وصنع له احتفالا كبيرا لتدشينه وبدْء تعويمه فى البحر، وجاء بمزيكة حسب الله، ثم كسر زجاجة الشمبانيا على جسد السفينة وهو يقرأ باسم الله مجريها ومرساها، وينزل المركب إلى البحر ليبتلعه فى الحال ويستقر فى أعماقه المظلمة، وذلك ببساطة، لأن الريس حنفى صنع مركبا من الخردة، مطلوبا منه أن يُبحر ويتحمل الموج والأعاصير والنوات، فيغرق رغم تعويذته التى يعتقد أنها تعويذة سحرية ستجعل المركب يطفو بمجرد أن يقرأ لها باسم الله مجريكى ومرساكى! يعتقد الريس حنفى -حسب فهلوته وثقافته وتعليمه- أن المركب الذى صنعه من النفايات على عجل سيطفو ويعوم ويشق البحار لمجرد نطقه للتعويذة السحرية، هذا ما حدث فى مصر بالضبط بعد عام على الثورة، فقد صنعوا لنا سفينة تشبه ذات نفس السفينة «نورماندى تو» بتاعة الريس حنفى ودعونا للركوب وقالوا لنا.. اركبوا باسم الله مجريها ومرساها، والجميع يعرف أنها لن تطفو وستغرق ويبتلعها البحر بمجرد أن تلامس الماء، وسيغرق الجميع ويستقر المركب فى قاع القاع، وما زالوا يعتقدون أن مركبهم الخردة سيطفو باسم الله مجريها ومرساها! والمفارقة الكوميدية فى المشهد أن الريس حنفى أقام احتفالا كبيرا، ودعا الأهل والأصدقاء، وجاء بفرقة حسب الله لتعزف الألحان، وخطب خطبة عصماء مليئة بالأخطاء اللغوية على قد تعليمه، وهو مملوء بالزهو والثقة يشيد ويفخر بإنجازه الكبير، وبسفينته المعجزة «نورماندى تو» فى مبالغة توهم المتفرج بأنه أمام تدشين حاملة طائرات ستعبر البحار والمحيطات والعواصف، ثم فجأة تستدير الكاميرا لنرى أن تلك ال«نورماندى تو» عبارة عن قارب حقير مصنوع من الخردة، يبتلعه البحر بمجرد نزوله إلى الماء، لأنها رديئة الصنعة، ولأن الريس حنفى لم يعط العيش لخبازه، فصنع قاربا حقيرا لم يستطع حتى مجرد الطفو فوق الماء، مجرد قارب يطفو، لا حاملة طائرات، فما بالك بحاملة وطن تُبنى من الخردة والنفايات! لقد تعاملوا مع مصر بعد الثورة بنفس المنطق، فأعادوا تدوير نفايات التاريخ ليصنعوا لمصر السفينة «نورماندى تو» بتاعة الريس حنفى، ودعوا الجميع للركوب، وقالوا لهم اركبوا باسم الله مجريها ومرساها، وكسروا على جسم المركب زجاجة عصير قصب، لأن الشمبانيا حرام، وركب كثيرون، وهم يدعون دعاء الركوب، وهم يعتقدون واهمين أن هذا المركب الخردة سيعوم لمجرد أن يأمروها باسم الله مجريها ومرساها، وفاتهم شىء مهم جدا جدا فى الموضوع.. أن الريس حنفى كان على البر.. بينما هم فى المركب الذى صنعوه من إعادة تدوير النفايات، وليس لهم بر ليقفوا عليه، ليس للأوطان بر، وأن مركبهم الخردة سيغرق بالجميع حتما ولازما ولا بدَّ، لن ينجو أحد، لن ينجو وطن يعيد إنتاج النفايات ليصنع وطنا من النفايات، لن ينجو أحد، لأن كل المقدمات تؤدى إلى نفس النتائج، كلنا فى نفس المركب، طلبنا مركبا جديدا فأعطونا مركبا من النفايات، طلبنا حاملة طائرات، فصنعوا لنا قاربا حقيرا من إعادة تدوير خردة التاريخ. طلبنا مصر جديدة ومشهدا جديدا وفيلما جديدا، فإذا بهم يعيدون إنتاج فيلم قديم ومشهد قديم من فيلم قديم، وإذا بمصر تعيد تمثيل مشهد الريس حنفى الخالد والسفينة «نورماندى تو.. تو.. تو». الفرق بين الإنسان والبهيمة أن الإنسان كائن يطرح الأسئلة، ويظل يختبر الإجابات، ولا يرضى بالإجابات القديمة لأسئلة جديدة، ولأنه لا توجد فى الكون حقائق مطلقة، فلا توجد بالتبعية إجابات مطلقة، فكل الإجابات تطرح أسئلة جديدة، والفرق بين الإنسان الذكى والمجتمع الذكى، وبين الإنسان الغبى والمجتمع الغبى، أن الأول هو الذى يطرح أسئلة ذكية، ليحصل على إجابات ذكية، والثانى هو الذى يظل يطرح أسئلة قديمة غبية، ويرضى بالإجابات القديمة الأشد غباء، ليظل قابعا فى زريبته وتخلفه وغبائه وبهيميَّته، والفرق بين المجتمع المتخلف المحافظ والمجتمع الحر المتقدم المعاصر، أن الأول يرضى بالإجابات القديمة لأسئلته الجديدة، والثانى لا يرضى إلا بالإجابات الجديدة لأسئلته الجديدة. إن مجتمع البهائم هو الذى يجتر الأسئلة القديمة والإجابات القديمة مثلما تجتر البهيمة طعامها فتخرجه من المعدة لتمضغه من جديد لتبلعه من جديد، ثم تخرجه من جديد لتمضغه من جديد. وهكذا إلى الأبد.. إن البهائم لا تطرح الأسئلة، وكل غايتها فى الحياة الاجترار والتناسل ونشر جيناتها البهائمية لتورِّثها الأجيال المتعاقبة، وعندما تثور الأجيال الجديدة على تلك الحياة الزرائبية تجدهم يولولون ويجعرون: (الله يخرب بيوتكم خربتوا الزريبة). أبانا الذى فى ماسبيرو.. آن أوان دفنك دون غسل.. فكل أمطار وبحار وأنهار العالم لا تكفى لتطهيرك من الدَّنَس.