هل آن لنا أن نحلق شعر شمشون الثورة ونرسم على صلعته في ضوء القمر قصة أقوام لم تخدعهم الغواية ولم تسكرهم كأس الرغبة المترعة في الخلاص من ثياب الرق ودفنها تحت أقرب حجر؟ . هل نصنع نهاية أخرى لسيناريو محكم سطره مداد حقد وريشة ناقم خرج من تحت أنقاض المعبد بعد ثلاثة ألاف عام ليثأر من بقايا قوم رفضوا الاستسلام لمزمار الشيطان ومنعوا شمشون اليهودي من هدم المعبد على رؤوس من فيه؟. هل يرفع شباب الثورة عيونهم فوق مناخرهم قليلا ليروا أن نداهة الثورة ليست بالفتنة التي تصورها لهم طموحاتهم الفتية وأن بعض الحلوق التي تهتف بسقوط الملك قد صاغت فوق فراش الصحراء الممتد من الليل إلى الليل ألف حفرة ونفق لتزل أقدام الثوار بعد ثبوتها، ويسكن كلاب الحي قصور ذئابها، ليعود الليل أشد سوادا وأكثر حلكة؟. ما زال أمامنا وقت لننقض غزلا حاكته آلاف الأيدي ذات غفلة، ونشرب ترياق الإفاقة من سكرة قد لا يحمد عقباها. ما زال أمامنا وقت لنفكر في تاريخ نخرج منها بسرعة ملهوف إلى حاوية بحجم الخراب لنراجع ملفات الأحداث دون أن يغمض لنا عقل. إنها لحظة تشقق الخرائط وخروج المرء على ظله. سيفقد تاريخنا رشده ويمضى معصوب العينين إلى مستقبل بلا خرائط ما لم نتمهل قبل أن نخلع آخر قطعة تستر مستقبل أبنائنا ليأتينا بريد المستقبل برسائل أشد قسوة وأكثر فتكا. ما زال لدينا بقية من وعي تأبى أن نسير أمام فوهات الإعلام معصوبي الأعين فاقدي الحجة فنقول كما قال شمشون في زي عربي ذات خراب "عليّ وعلى أعدائي". فالهيكل لن يسقط إلا على رأس أخ أو صديق أو على إصبع كنا نمسك به ذات غرق، أو على رحم كان يجمعنا حتى ميدان قريب. لا يجب أن ندفن آخر آمالنا تحت كومة من الأوهام التي غذتنا بها أسواق إعلام مجهولة الهوية في زمن تعربد فيه أشباح القتلى والشهداء في كل مشروع حياة. لا يمكن أن نسير خلفهم لمجرد أنهم كانوا معنا ذات عراء، ونمرر خيوط آمالنا في سم خياطهم لمجرد أننا أكلنا معهم يوم جوع بعض الأحلام وتقاسمنا معهم حجرا على رصيف الثورة. لن تخدعنا براءة كلماتهم وجزالة ألفاظهم عن سواد طمس قلوبهم فزين لهم ذبح طفل وسلخ جلد ثقة رسمنا عريها معا على جدار الحزن وفنارات الميادين. نعم تعلمنا منهم أن لنا حناجر قادرة على البوح ومعاصم قادرة على دفع أبالسة السلطان. لكن دَيْنَهم ليس بحجم الوطن، ولا بأهمية مستقبل يدعون إلى دفنه في مقابر الصدقة. صحيح أننا تأخرنا عن أرصفة بلادنا طويلا، وشربنا من كل كئوس الغفلة دون حساب، لكننا يوم اتخذنا قرارا بتحرير معاصمنا من كل القيود لم نستثن قيودهم، وحين مشينا على درب الحرية رافعي المشاعل لم نجعلهم أوصياء على مدينة أحلام بنيناها لأطفالنا في سراديب السر وأغلقنا عليها صدورنا. لن نضع معاصمنا إذن تحت مقاصل مؤامراتهم التي بدت من وراء الغمام كقرني شيطان يؤذن في فلاة الصبح بالخراب. لن نسير خلفهم في طريق ضياع ولن نساهم في ضرب كبد الوطن بعصى شمشونهم، وسنفضح خرائط أكاذيبهم بما أوتينا من بصر وبصيرة. سنحفر وحدنا وبأيدينا في صخر الواقع طريق حرية، ولن نرجع إلى بيوتنا قبل أن نعود بمهر الحرية لسيدة البلاد. لكننا نتبرأ أمام التاريخ من كل نصل يتجه من قريب أو غريب إلى قلب الوطن ليرسم الخوف في حاضره والوجع في خاصرة مستقبله.