لمذيعة التي كان المعجبون يطاردونها في كل مكان قبل سنوات صار الناس يتعرفون عليها بصعوبة.. بل أن ضابط الجوازات في المطار لم يبتسم في وجهها إلا حينما قرأ اسمها في جواز السفر وسمعته يهمس لنفسه وهو يرفع عينيه إليها: ... سبحان الله ....!! ماذا حدث في غرفة الانعاش في اكبر مستشفي بالقاهرة؟؟! كانت ملء السمع والبصر في القاهرة.. وفجأة غادرت مصر الي إحدي الدول الأوروبية..! كانت في القاهرة مذيعة معروفة.. وفي أوروبا تولت منصبا إداريا كبيرا بإحدي الإذاعات الناطقة باللغة العربية.. لم تحقق في القاهرة ثروة، لكنها حققت مجدا وشهرة.. وفي أوروبا انزوت عنها الأضواء وانهالت عليها الدولارات!.. كان لها في القاهرة بيت جميل يدفئه ويؤنسه زوج ضبط بوصلة سعادته علي لحظات رضاها.. وفي أوروبا كان لها بيت أجمل وأوسع لكنها عاشت فيه وحيدة، عواطفها محبوسة في زنزانة مغلقة من جميع الجهات.. كلما ضغطت عليها أنوثتها تجاهلتها وإذا هاجت الذكريات أسرعت الي الحبوب المنومة لتهرب من طيف ابنتها الوحيدة «ريهام» ومن مطارداته لها حيثما ذهبت أو عادت.. لم يكن يرعبها في أوروبا سنوات عملها الأولي سوي أن تهزمها ريهام وتكون سببا في عودتها الي القاهرة فتنكسر مرة أخري أمام حبيب الأمس الذي صار زوجا سابقا بعد أن انفصلت عنه! كثيرا ما كانت تراجع نفسها ويؤنبها ضميرها لأن عنادها وإصرارها علي الطلاق هو الذي حرمها من ريهام.. لقد أصر زوجها حينئذ ألا يطلقها إلا إذا تنازلت له عن حضانة ريهام.. لم يكن هو الآخر يريد أن يحرمها من أمومتها، لكنه لحبه الجنوني لزوجته أراد أن يضغط علي نقطة ضعفها الوحيدة حتي تتراجع عن رغبتها في الطلاق.. لكن الزوجة العنيدة ضحت بكل حقوقها وضحت أيضا بوحيدتها «ريهام»، حتي وظيفتها استقالت منها وهاجرت من مصر وقبلت عرض شبكة الإذاعة الأجنبية الناطقة باللغة العربية! ... هكذا عاشت المذيعة التليفزيونية المشهورة «سابقا» حياتها الجديدة بعيدا عن أرض الوطن.. كانت أخبار ريهام تصلها بانتظام فتطمئن عليها وعلي تفوقها في المرحلة الابتدائية ثم الإعدادية!.. تقدم إليها عشرات العرسان من جنسيات عربية مختلفة، لكن قلبها الموصد بالمتاريس لم ينبض لواحد منهم، وكان يسعدها أحيانا وصول أخبار من القاهرة عن عزوف الزوج هو الآخر عن الزواج وتفانيه في تربية ريهام والتفرغ لها بعد أن استقال هو الآخر وضحي برتبه العسكرية الكبيرة وأدار مشروعا تجاريا ناجحا يدر عليها مكاسبا لم تكن في الأحلام... ولأن الرجل كان مخلصا للماضي الجميل وذكرياته الملتهبة قرر أن يصنع مفاجأة مدوية كان واثقا من أنها سوف تعيد المياه الي مجاريها مع زوجته السابقة.. اصطحب ريهام وسافر بها حيث تعيش طليقته.. وبالفعل هزت المفاجأة المذيعة المعروفة وهي تري وحيدتها وقد صارت عروسا أجمل من كل بنات أوروبا.. كبرت ريهام وتفتحت أزهارها رغم أنها كانت حينئذ في العام الأول من المرحلة الثانوية.. لم تشعر المذيعة التي اشتهرت بعنادها وشخصيتها القوية بدموعها التي انهمرت فوق وجهها وبللت وجه ابنتها كحبات مطر تنساب من عيون السماء فوق زهرة يافعة تتراقص بها الأغصان! .. ولأول مرة جلس الثلاثة معا.. ولأول مرة تناولوا طعامهم علي مائدة واحدة.. كانت ريهام أسعد فتيات الدنيا.. حاولت أن تقرب بين والديها.. لكن الأم عادت الي عنادها وجبروت كبريائها حينما اشتعلت أمامها ذكريات الماضي وتذكرت اللحظة التي ضبطت فيها زوجها متلبسا بخيانتها مع شقيقتها فلم تجد أختها وجها تقابل به وجه شقيقتها فقفزت من الطابق السابع بملابس النوم.. وقيد الحادث وقتها انتحارا لأسباب اخترعتها المذيعة وزوجها الضابط والعائلة.. إلا أن المذيعة المشهورة اتخذت قرارها السريع بأن يظل زوجها محرما عليها حتي الموت!... عادت ريهام مع والدها الي القاهرة واليأس ثالثهما.. لم تكن الابنة الجميلة تفهم سر عناد أمها فرفضت الإقامة معها واختارت العودة من جديد الي مصر تعاطفا مع أبيها وقد اعتبرته مظلوما من أمها فكم كان الأب حريصا.. والأم أيضا علي ان تظل ريهام تنظر الي سيرة خالتها المتوفاة باحترام! كانت تلك هي المرة الوحيدة التي سافرت فيها ريهام الي والدتها في أوروبا.. واضطرت الظروف المذيعة المعروفة الي الحضور للقاهرة لأول مرة بعد أن فارق طليقها الحياة أثر حادث أليم ففكرت جديا في أ، تصطحب ريهام لتعيش معها في أوروبا وتكمل تعليمها هناك.. لكن ريهام ركبت رأسها ورفضت الفكرة شكلا وموضوعا.. أصرت علي البقاء بجوار جدتها لأبيها في الفيلا التي ورثتها الابنة في أرقي أحياء القاهرة وبعد أن تنازلت لها جدتها عن كل أنصبتها في ميراث ابنها.. صارت ريهام أجمل وأصغر المليونيرات في مصر وقبل شهور من التحاقها بالجامعة! فشلت كل محاولات الأم في إقناع وحيدتها بالحياة معها أربع سنوات فقط تنهي بعدها خدمتها في شبكة الإذاعة الأجنبية.. وبقيت ريهام علي موقفها وعنادها فقالوا: من شابهت أمها.. فما ظلمت! هكذا الدنيا.. المذيعة التي كان المعجبون يطاردونها في كل مكان قبل سنوات صار الناس يتعرفون عليها بصعوبة.. بل أن ضابط الجوازات في المطار لم يبتسم في وجهها إلا حينما قرأ اسمها في جواز السفر وسمعته يهمس لنفسه وهو يرفع عينه إليها: ياه....!! المذيعة التي كانت تحكم وتأمر في زوجها صارت ابنتها هي التي تحكم وتأمر فيها.. والابنة التي اتهمت أمها ظلما بالقسوة صارت أمها تتهمها هي الأخري بالقسوة بعد أن تركت أمها تغادر القاهرة ودموعها فوق خديها لتبقي هي مع جدتها العجوز!.. هكذا صنعت الأيام شرخا كبيرا بين المذيعة وابنتها الوحيدة التي ظل يبكيها أن والدها مات دون أن يحقق حلمه الوحيد وتعود مطلقته الي عصمته! ثلاث سنوات كاملة كانت وسيلة الاتصالات الوحيدة بين ريهام ووالدتها هي المراسلات والمكالمات والأحاديث التي كانت تجري فوق لسان الأم من قلب قلبها، وتنطلق من لسان الابنة وكأنها تصريحات دبلوماسية في مناسبات سياسية.. لم تكن الأم تدري أن ريهام بدأت تعيش حياتها طولا وعرضا.. ربما لتنسي ارتباطها الأسطوري بأبيها.. وربما لالتفاف صديقات السوء حولها.. وربما لانعدام الرقابة بعد أن أصبحت تعيش وحيدة بين أرجاء فيلتها مترامية الأطراف بلا رقيب أو, حسيب.. وربما لكل هذه الأسباب مجتمعة. .. ويالها من أقدار.. ومفاجآت.. قررت ريهام أن تقلع عن حياة السهر والترف والحرية غير المسئولة بعد أن تعرفت علي شاب من نوابغ الجامعة التي عينته معيدا بنفس الكلية التي تدرس بها ريهام.. أحبته كما لم تحب امرأة من قبل.. أخفت عن الجميع فقره وسهلت له كل متطلبات وأعباء الزواج.. لكنها في اللحظة التي أرسلت فيها الي أمها لتحضر فورا الي مصر وتقابل عريسها حتي يطلب يدها منها كانت الأم في تلك اللحظة قد اتخذت قرارا حاسما بأن تتزوج من ثري عربي وجدت فيه ضالتها وشعرت بأن الزمن يصالحها بحبه الجارف لها ومحاولاته المضنية في أن يعوضها عن سنوات الحزن والشقاء وقسوة وحيدتها عليها.. ومع ذلك عادت المذيعة السابقة الي القاهرة وقابلت عريس ريهام وحضرت حفل زفافها اليه، ثم عادت الي الخليج حيث اختارت أن تستقر مع عريسها الثري العربي بعد أن تزوجته وقررت أن تؤجل ابلاغ ابنتها بهذا الزواج الي الوقت الذي ستراه مناسبا! وذات يوم لم تشرق له شمس فوجئت ريهام بالقبض عليها وإحالتها الي النيابة العامة!.. وحضر زوجها وعرف بالاتهام الموجه إليها فضرب كفا بكف وهو مذهول، كيف تكون زوجته المليونيرة متهمة بالسرقة.. لابد أن هناك لبسا أو سرا خفيا.. وبصعوبة بالغة تمكن زوج ريهام من الاتصال بحماته طالبا منها الحضور فورا بعد أن أمرت النيابة بحبس ابنتها أربعة أيام! حجزت المذيعة السابقة علي أول طائرة.. ولحق بها زوجها الثري العربي في اليوم التالي فوجد زوجته في حالة انهيار تام بإحدي المستشفيات الكبري.. لقد حاولت ريهام الانتحار بالقفز من الطابق الرابع بالنيابة فتكسرت عظامها وغابت عن الوعي وإن ظلت علي قيد الحياة بأجهزة التنفس الصناعي.. وفجأة يدخل حجرة العناية المركزة ضابط مباحث القسم الذي كانت ريهام نزيلة في تخشيبته بعد قرار حبسها.. تقدم الضابط من المذيعة السابقة ثم همس لها وهو يمد يده ببعض الأوراق قائلا: آسف يا هانم.. هذه الأوراق وجدناها بخط يد ريهام مع إحدي نزيلات تخشيبة النساء.. هذه السيدة قالت لنا أن ريهام بعد أن كتبتها طلبت منها أن تسلمها لنا لنسلمها اليك عند حضورك! مدت المذيعة الحسناء يدها المرتعشة والتقطت الأوراق من الضابط وأسرعت في قراءتها بقية الحكاية العدد القادم