من أهم مقاصد الدين أن يغرس في النفس الأخلاق الرفيعة، وأن يرتقي بالسلوك الإنساني ليكون سلوكا فاضلا، موزونا، يجلو عن النفس كل أسباب الطمع والهوي والكبر، ويملأ الصدر بالهمة والمعرفة والإيثار والأدب الرفيع، وقد تشعبت الأخلاق وكثرت، حتي تغطي كل أوجه النشاط البشري، بحيث يجد الإنسان في كل تصرف يقوم به خلقا من الأخلاق النبيلة التي تجعل تصرفه في كل موقف موصوفا بالحكمة والرزانة والأثر الحميد. لكن يمكن أن نري بوضوح أن كل مجموعة من الأخلاق فإنها ترجع في النهاية إلي معني من المعاني الجامعة، بحيث نري أمامنا عددا من المنابع الكبيرة، التي ينبع من كل واحد منها عدد كبير جدا من الأخلاق الفرعية، ومثال ذلك أن بر الوالدين، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والعطف علي المسكين، وحسن تربية الأبناء، والتلطف بهم، والإحسان إلي الأهل والزوجة، فكل هذه الأخلاق النبيلة راجعة مثلا إلي معني الرحمة، فصارت الرحمة خلقا مركزيا كبيرا، تنبع منه عشرات الأخلاق الفرعية الفاضلة. فهناك عدد من القيم المركزية، التي تعني الأصول العليا للأخلاق، والينابيع الكبري، التي يمكن أن تتفرع منها عشرات السلوكيات والأخلاقيات الجليلة. والمتأمل لمنظومة الأخلاق والقيم، ومجموع الأحكام والفروع الفقهية، والآداب والمناقب والفضائل، ومناهج التفكير التي يبني بها الشرع الشريف عقل الإنسان، يجد أنها توصل إلي عدد من الأهداف والمقاصد والغايات التي استقر عند العلماء تسميتها بمقاصد الشريعة. ومقاصد الشرع الشريف -وهي مقاصد الشرائع جميعا- هي المؤشر الأعلي الذي ينضبط به فهم الإنسان وأداؤه للأحكام والآداب الدينية، وتظهر به المقاصد الحكيمة للشرائع، وأنها جاءت لتكريم الإنسان، وحفظ الأوطان، ونشر العمران، ومعرفة الله ومحبته، وإحياء الأنفس البشرية بحفظ وجودها وتزويدها بالأمل، وتنويرها بالمعرفة والحكمة. وقد جاء الإسلام ليكون دينا شعاره الأخلاق، وغايته الرحمة، ومن أجل مقاصده تكريم الإنسان والحفاوة به، ورفع الحرج عنه في سائر شئونه، حتي قال الله تعالي: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَي كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، فهذا عدد من مظاهر العناية الإلهية بهذا الإنسان، ترجع إلي أربعة قواعد: الأولي: تكريم بني آدم علي وجه العموم، وأن الله خلقه في أحسن تقويم، وسخر له موارد الأرض لخدمته، وخاطبه بوحيه، حتي تنوعت الحضارات والثقافات علي وجه الكرة الأرضية، وخوطبت كل أمة بتشريع ونبي جاء لها، وتفرقت الأمم والشعوب علي وجه الكرة الأرضية، فاحتاجوا إلي الحركة والتنقل، وتعددت أطوار البشرية في وسائل التواصل ووسائط الحركة، فكانت الحاجة ماسة إلي العنصر التالي وهو قوله تعالي: (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ). الثانية: هيأ الله للإنسان تيسير وسائل الاتصالات والمواصلات، مما يتيح لهم اختراق الآفاق، وتعارف الحضارات، واستخراج الثروات، وتقدم العلوم، فظهرت اختراعات عجيبة عند مختلف الأمم لتلبية احتياج الإنسان للحركة والانتقال والسفر، فظهر السفر علي ظهور الدواب، من الإبل والخيول، وركب الإنسان البحر، فاحتاج إلي دراسة مجموعات النجوم، ومعرفة القبة السماوية ليهتدي بها في ظلمات البر والبحر، وشق الإنسان الطرق، وظهر اختراع العجلة، وظهر تبادل الرسائل بالحمام الزاجل، وعمرت مسالك الأرض بحركة القوافل، وازدهرت التجارات، وتناقلت القوافل المنتجات والزروع والثمار والمصنوعات والملابس والأواني من إقليم إلي إقليم، ومن قطر إلي قطر، ثم تم إدخال الحديد في صناعة السفن وتحركت السفن بالماكينة وحركة البخار بعد أن ظلت طوال التاريخ تعتمد علي الشراع وقوة الريح، فتسارعت الحركة علي ظهر الأرض، ثم اخترعت القاطرة البخارية، ثم السيارات والطائرات، ثم عصر السرعة والتكنولوجيا، وتطورت مظاهر حمل الإنسان في البر والبحر، وظهرت الشركات والمصانع، وازدادت حركة الأرزاق علي وجه الأرض سرعة وجريانا، وهي تحمل الأرزاق والسلع والبشر والخامات والمنتجات، فكانت الحاجة ماسة إلي العنصر التالي وهو قوله تعالي: (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ). الثالثة: تطورت عبر التاريخ مظاهر حمل الإنسان في البر والبحر، وازدادت سرعة مع مرور الوقت، وانعكس ذلك علي حركة التجارة في العالم، وازدادت التجارات حركة ورواجا، وظهرت عصور الصناعات، واشتدت الحاجة إلي التنقيب علي المعادن والثروات والخامات، وحمل اللحوم والأسماك والمصنوعات، والأدوية، صارت التجارات عابرة للقارات، وكل ذلك من مظاهر تقريب الأرزاق إلي بني آدم، وحمل منتجات الشرق إلي الغرب والعكس، وازداد الإنسان تألقا وابتكارا وإبداعا ومعرفة بالخدمات ووجوه الاستهلاك، وفطن إلي ما وراء ذلك من العلوم الصانعة للمنتجات، فازدادت حركة البحث العلمي، وغرقت بعض الأمم في الاستهلاك المحض، وغابت في الفقر والجهل والمرض، وقفزت بعض الأمم في العناية بأسرار العلوم، وامتلاك ناصية البحث العلمي في مختلف المجالات والعلوم الطبية والفيزيائية والعلاجية والعسكرية، فتقدمت بعض الأمم وتأخرت بعض الأمم، الأخيرة: بناء علي كل ما سبق كانت الحاجة ماسة إلي العنصر التالي وهو قوله تعالي: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَي كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، فتقدمت بعض الشعوب عندما أخذت بأسباب الحضارة، وتأخرت بعضها عندما تهاونت. فجاء هذا الترتيب المحكم لمظاهر عناية الله بعباده، حتي لخصت الآية الكريمة رحلة الحضارة كلها في كلمات معدودات، مع إشارة الآية في كل مقطع إلي سنن الله في خلقه، وقوانينه في عباده، مما يمكن أن نستنبط منه أصول فقه الحضارة. وهذه الرحلة تتحدث عن الحراك البشري عموما، وعن سنن الله تعالي في عباده كلهم، فهذا قانون إنساني عام، يبين الله تعالي فيه سننه في عباده جميعا، وأن سائر الشعوب والأمم والحضارات تجري علي هذا النسق، وتتدرج في هذا الترتيب، الذي تفضي فيه كل مرحلة إلي المرحلة التي تليها. وقد أشارت الآية الكريمة ضمنا إلي ما يفتحه الله للإنسان من اكتشاف أو اختراع أو تفكير أو تطوير، مما يلهمه الله تعالي لعباده، وتتنافس فيه الأمم والشعوب والمؤسسات، وتحميه وتحافظ عليه، من أسرار العلوم والمعارف، التي تتفاضل بها الأمم، وتبدع فيها عقول أبنائها، قال حجة الإسلام الغزالي: (وكل حرفة لا يستغني الناس عنها -لو تُصُوِّرَ إهمالها- لكانت من فروض الكفايات، لأن قوام الدنيا بهذه الأسباب، وقوام الدين موقوف علي قوام أمر الدنيا ونظامها لا محالة).