كان لقائي الأول به في ندوة بجامعة المنصورة،ثم تكرر لقائي به في قصر الثقافة ثم تشرفت بزيارته في المنزل عدة مرات.. ما إن أحادثه تليفونيا لأطلب موعدا للقاء حتي يغمرني ببشاشته وترحيبه، أدخل بيته الكائن في حي الشيخ حسنين بالمنصورة فأشعر علي الفور بحنين غريب، فأنت معه بين يدي تراث خالد وأصالة نادرة وثقافة زاخرة وآراء ثاقبة.. وحنان غامر.. نشرب الشاي ونتحدث.. يسألني عن أحوالي الشخصية وكأننا أصدقاء ويتطوع بمساعداته لنشر قصصي.. وتمر سنوات لا أراه ولا أتصل به وإن كنت أسأل عنه دوما، ثم أتصل به ذات يوم فأجده لا يزال يذكرني قائلا: آه إنت بتاع المطرية.. إنت لسة بتشتغل هناك ولا رجعت المنصورة؟.. فأشعر بالتقصير تجاهه وبالحنين لأيام خلت كانت مليئة بالحراك والزخم علي الصعيدين الإنساني والأدبي... ابتعد دوما عن أضواء القاهرة والظهور الإعلامي لكنني أذكرله حلقة رائعة من برنامج " العاشرة مساء " عن نكسة 1967 بوصفه أحد الأسري في إسرائيل وقتها وكونه كتب روايته الخالدة عن تلك الفترة (الأسري يقيمون المتاريس).. تحدث ليلتها عن تجربة الحرب والأسر فكدت أجن لجمال حديثه فهو يتحدث عن الشخوص والأحداث بطريقة غير عادية تتدفق منها إنسانيته الرائعة وبكي وهو يصف فرحة الأسري حين تذكرهم الهلال المصري وبعض الجهات المصرية في الأسر وأرسلوا لهم بعض الهدايا والأطعمة البسيطة ملفوفة في ورق الجرائد، فتركوا كل شيء وتهافتوا علي ورق الجرائد يتنسمون فيه أخبار حبيبتهم الغالية مصر ونسوا جراحهم التي كان الدود منتشرا فيها منذ شهور.. ياااااااه.. بكيت بالفعل لحظتها وأكبرته مئات المرات عن ذي قبل وزلزلني صوته المتهدج وهو يواصل الحكي... وُلد فؤاد حجازي في المنصورة عام 1938 والتحق بكلية الحقوق ثم فُصل منها بسبب نشاطه السياسي الذي تسبب في سجنه عدة مرات كان أولها عام 1959 ولمدة ثلاث سنوات تقريبا، ثم أربعة أشهر في عام 1971 وأخيرا شهرين في عام 1977، بالإضافة إلي ثمانية أشهر في سجن عتليت الإسرائيلي عقب أسره في 1967 . وتخصص في الكتابة عن أدب المقاومة والحرب ولكنه كتب حتي للأطفال وهو صاحب تجربة رائدة في النشر له وللآخرين بسلسلته "أدب الجماهير" التي نشرت وتنشر عشرات من الأعمال المتميزة وظل طوال عمره مخلصا لقلمه وأناسه البسطاء والفقراء ولم يستجب أبدا لنداء الشهرة فلم يبتعد عن المنصورة.. له حوالي 30 كتابا ما بين القصة والرواية والسيرة الذاتية والنقد أولها رواية ( شارع الخلا ) عام 1968 وآخرها (لا تنس البلبل) عام 2015م وعدة قصص للأطفال وترجمت روايته ( الأسري يقيمون المتاريس ) إلي الروسية وقصته ( النيل ينبع من المقطم ) إلي الإنجليزية وهناك الكثير من الدراسات حول أعماله المتميزة وبعض رسائل الدكتوراة.. مغرم أنا بروايته ( الأسري يقيمون المتاريس) فهي نموذج رفيع لأدب المقاومة.. العدو قاس لا يرحم منع الطعام والماء والاستحمام ومداواة الجروح عنهم، حتي أصبح الجريح يري بعينيه الدود ساريا في جسده، لكن كل هذا لم يمنع الأبطال الأسري من المقاومة، بل علي العكس دفعهم للإبداع فأصدروا من أكياس الأسمنت صحفا ومجلات يومية وكونوا فرقا موسيقية بدائية.. ( جاء الليل غير هياب، احتل العدو المحطة التي أرقد فيها مع خمسة من الجرحي. نصبوا المدافع فوق رؤوسنا تماماً ووجهوها ناحية البحر. تلفت حولي أفتش في الظلام، وجدتُ وجوهاً لم أتبيّن ملامحها. وكان زملاؤنا قبل رحيلهم قد تركوا لنا بعض الذخيرة في فناء المحطة، امتدت لها نيران الحرائق. ظلت تنطلق دون توقف علي فترات متباعدة. وكان في الفناء بعض دجاجات، ملك لعمّال المحطة فيما يبدو، تركوها وهم في عجلة من أمرهم، وبين كل دانة وأخري تصيح الدجاجات المذعورة صيحات يائسة، وبين حين وآخر نسمع صيحات إحداها وقد تحشرجت، وتصمت الأخريات كأنما تمنح لها الفرصة لتنتهي في هدوء ).. (طوال الليل أسمع قصف المدافع وحركة الجنود الإسرائيليين فوق سطح الحجرة التي نرقد داخلها، وأتوقّع النهاية بين لحظة وأخري. أخذت أبتهل إلي الله أن ينجيني. ليس من أجلي.. أعلم أني عاق.. ولكن.. من أجل زوجتي. أخذت أسأل الله: ما ذنبها حتي تترمّل مبكرا؟! وقد تزوّجنا عن حب، ولم يمض علي زواجنا أربعون يوماً ... في الحقيقة عجبت من نفسي. كنت وأنا في الطريق للجبهة أستهين بالموت وأري فيه راحة، وعلي الأقل الواحد يخلص من مرضه، فأنا مُصاب بالتهاب مزمن في القولون يجعل حياتي جحيماً. ولكن الآن كل ذرة في كياني ترغب في الحياة وتتشبث بها في قوة. أعاود دعاء الله: حياتي لا تهم.. فقط من أجل المسكينة زوجتي).. ولكاتبنا العظيم رواية (الرقص علي طبول مصرية) يتناول فيها حرب أكتوبر المجيدة وهي لا تقل جمالا ولا روعة عن رواية(الأسري يقيمون المتاريس) التي أقام بها كاتبنا متراسا عاتيا بيننا وبين اليأس.. أستاذي الحبيب.. أطال الله عمرك الجميل وأنعم عليك بالرضا والصحة فأنت شعلة من الجمال الإنساني لن تنطفئ، ستظل تضئ لنا عالما خلا من الجمال أو كاد.