إصلاح في صبيحة وقفة العيد الكبير، جأر موتور أم خليل في المسقط، بحشرجة مقلقة، لم توصل الماء إلي حنفية شقتها. سارعت أم سيد جارتها، بإيقاظ زوجها لإصلاح الموتور، وكان يهوي إصلاح الآلات. شكرتها أم خليل، مقدرة موقفها، ففي الأيام العادية، لم يكن زوجها يستجيب إلا بعد إلحاح، وأحياناً يصهين. - يا ستي الجار للجار. وأسرت إليها أن ابنتها ستعيد عليها في الصباح. وفي ضحي أول أيام العيد، علمت أم سيد أن خليلاً، الذي كان يذبح عجلاً كل عام، ذهب للحج. قالت لمن أخبرتها: - شوفي يا أختي الولية اللئيمة. الجنيه الورقي دس له بائع الهريسة جنيهاً ورقياً في باقي حسابه، وخجل أن يسأله تغييره، فالباعة يعتذرون عن قبوله، ويفضلون الجنيه المعدني، وأخذ يشتم البائع في سره. ذهب إلي بائع السجائر، وطواه ضمن ثمن العلبة. التقطه البائع، فاعتذر عن توفر فكة. - يبقي عليك. شكره وذهب ليبتاع علبة شاي. أعاده البائع ورد علي اعتذاره، أن الدنيا لم تطر وليدفعه في أي وقت. وفي مقلاة للفول السوداني، لوح صاحبها بيده في استهانة، فظرفه في جيب قميصه وانصرف. وفي البيت خلع قميصه المشرب بالعرق، ورماه في الغسيل، ووضع الجنيه في جيب القميص المكوي وعلقه علي الشماعة. الشهادة أخذت المراقبة أبلة تقية ترتب الأوراق مع رئيسة اللجنة. وإذا ببعض الممتحنين يتلكأون في الانصراف. اقترب أحدهم. تطلعت إليه أبلة تقية، فلحظت أن شكله يصعب علي الكافر. استمهلته حتي تمسح قطعة الإملاء التي كتبتها علي السبورة. - مالك..؟ - أعمل في شركة بيع المصنوعات المصرية، وإذا لم أعطهم شهادة محو الأمية سأفصل. نظرت إلي أبلة نجية، فأومأت بالموافقة. أخرجت أبلة تقية ورقته، فوجدتها أنظف من الصيني بعد غسيله. قالت أبله نجية: - بيدك الشمال. ابتسمت وهي تريها القلم جاهزاً في يسراها. دست ورقته في مكانها بين الأوراق. تقدمت منها خطوات مترددة. وتسلل صوته خافتاً، وهو يميل نحوها بقامة منكسرة: - لن يعطوني رخصة القيادة دون الشهادة. أزالت أبلة نجيه قلقه بالقول أنهما تساعدان قدر استطاعتهما، ولن تقطعا عيش أحد، فرد ممتناً أنه سينتظر خارجاً لتوصيلهما، هزت أبلة تقية رأسها رافضة، وهي تبحث عن ورقته. - غيري من شكل الخط. - مفهوم.. طبعاً. ظهر عند الباب المشرف العام، فنهضت أبلة نجية لتلحق به، وأخذت منه مكافأتهما. الظروف المغلقة فور وصولنا للرقابة، في امتحان الشهادة الإعدادية، جاءنا مندوب من الأهالي، ورجانا أن نتساهل في اللجان، وليس لهم بركة إلا نحن. وعلينا ألا نحمل همْ غدائنا، وكانت البلدة مشهورة بالسمك البوري المعتبر، وبالفسيخ والسردين البلدي. وفي ضحي اليوم الأول، وصلتنا زجاجات مياه غازية، خففت من زمتة الحر ورتابة المشي بين الصفوف في اللجان. وعند انصرافنا، أعطانا المندوب أرغفة من الفينو، بعضها محشوة بلحسة من "البلوبيف" وبعضها محشوة ببيض مسلوق في حلقات علي أرضية من سلطة طحينة بيضاء. فاحت في الجو رائحة نصب، فأبلغنا المندوب أننا نريد حقنا ناشفاً، وإلا ستكون اللجان كما أُنزل في الكتاب. أكد أن ما يصلنا هو واجب الضيافة، وطمأننا أن ظروفاً ستصلنا قبل المغادرة، حسب طلبنا. وذهبنا إلي الاستراحة عشية اليوم الأخير، وكان لامتحان مادتي الرسم والدين. فتحنا الظروف، والتقطت أصابعنا منها، ورقاً أبيض لم يمس بسوء. امتحان عندما أعلنت نتيجة دبلوم الصنايع، تعجبت زميلاتها في قسم التفصيل من نجاحها، وانطلقت ضحكاتهن بالصخب نفسه، الذي فعلنه يوم خروجها من لجنة امتحان اللغة الانجليزية. كان كل سؤال تحته عدة إجابات، تختار التلميذة إحداها. أخذوا منها ورقة الأسئلة، ليروا علاماتها علي ما اختارته. - أين تستقبلين الضيوف..؟ - في المطبخ - أين تضعين الطعام..؟ - في الحمام - أين تنامين..؟ - أمام باب البيت. ساعتها، نحين الورقة جانباً، وقلن من خلال ضحكاتهن: - سيفطس المصحح من الضحك. شقة دق التليفون في رنين متصل، أسرع إليه في لهفة، وجاءه صوت ابنه من ألمانيا. وبعد الاطمئنان علي الحال، قال: - أريدك أن تشتري لي شقة. - عين العقل. - في مكان هادئ، بعيداً عن صخب المنصورة وزحام شوارعها. - ما رأيك في دمياط الجديدة، علي البحر، وشوارعها واسعة، وبها مسطحات من الخضرة، وتصل إليها بالسيارة خلال ساعة من هنا. ودار في خاطره، أن يقضي فيها يومين كلما سنحت فرصة، ليريح أعصابه. - توكل علي الله. - وحتي ترسل، أكون قد بحثت عن شقة مناسبة، تقضي فيها إجازاتك، وتسكنها عندما تقرر العودة. قال: - ستشتريها مما توفره من معاشك. انعقد لسانه، ووضع السماعة. شيك أعطاني صديقي الشاب الشيك، فقلت: - شكراً علي تعبك. - أنت كوالدي، أسافر دوماً، وأذهب إلي هناك. وكنت عندما أذهب إلي البنك يعتريني الخجل، حيث يخيل لي أن الناس ترمقني، أصرف مبلغاً لا يتعدي مئة جنيه، وهم يصرفون الآلاف. بالطبع قد أكون واهماً. فكرت أن أستريح وأريح وأتوقف عن الكتابة، خاصة والمكافأة تغطي بالكاد ثمن النسخ علي الكمبيوتر. وأوشكت أن أصرح لصديقي، أنني لم أعد أذهب إلي البنك، وأمزق هذه الشيكات، لاحت لي لمعة عينيه وهو يعطيني إياها، فسكت.