تشتغل دراسة الناقد المغربي سعيد يقطين "الفكر الأدبي العربي: البنيات والأنساق" (الصادرة عن منشورات ضفاف، 2015 ) علي تأسيس مفهوم "الفكر الأدبي العربي" الذي يقصد من وراء استخدامه إلي تأطير كل ما يتصل بالفكر الأدبي والممارسة التطبيقية معا؛ أي أنه مفهوم يجمع بين التنظير والتطبيق علي السواء. ويرجع السبب في نحت هذا التعبير الاصطلاحي -من وجهة نظر الكاتب- إلي قصدية المغايرة الحاسمة بين "الفكر الأدبي" و"النقد الأدبي"؛ لأنه يري أن "النقد الأدبي" قاصر عن الإلمام بكل ما يتعلق بالتفكير في الأدب (باعتباره إبداعًا) وبالاشتغال به؛ لأنه يتصل بجزء بسيط من التفكير والممارسة الأدبية، ولذلك فمن الضروري استدعاء مختلف أنماط التفكير في الأدب وممارساته التطبيقية تحت مفهوم عام جامع هو "الفكر الأدبي". من ناحية أخري، يحترز المؤلف علي مفهومه الجديد برفضه استعمال "النظرية الأدبية" و"النقد الأدبي" و"العلم الأدبي" و"فلسفة الأدب" و"الدراسات الأدبية"؛ إذ إنه يري أن الفكر الأدبي يجب أن يتسع لكل هذه الممارسات التي هي نتاج صيرورة من التفكير في الأدب وتحليله وتفسيره وتقويمه وتأويله، علي ما بينها من اختلاف وتكامل. منذ أن تعالت الأصوات بكون الأدب في خطر، أو مناداة البعض بموت الأدب، وموت النقد ونهاية السرديات، وانسداد الأفق العربي (علي سبيل التجاوب مع بعض الصيحات الغربية، مثلما فعل تزفيتان تودوروف في كتابه المهم "الأدب في خطر")، بدأت عمليات التفكير فيما بعد البنيوية، ثم راجت مقولات النقد الثقافي الذي وجد أصداء متجاوبة معه في العالم العربي، مثل عبد الله الغذامي وآخرين، ممن كانوا يشتغلون بالطريقة نفسها في قراءة الأدب وتحليله وتدريسه. لقد كان عدد غير قليل من الباحثين والنقَّاد العرب يجترّون أفكارًا وتصورات من حقب متعددة، ويجمعون أشتات النظريات الأدبية كما وصلت إليهم من خلال بعض الترجمات المبتسرة والناقصة، في حين أن عددًا آخر منهم كانوا يحلّلون النصوص وفق انطباعات جاهزة وتأويلات معلّبة أو مُعدَّة سلفا، ومن دون أسئلة حقيقية أو إجراءات منهجية. إن القول بموت النقد أو موت الأدب أو كونهما في خطر -أو ما شابه ذلك من تعابير بدأت في الظهور منذ أواخر التسعينيات، وربما حتي قبلها، مثل الحديث عن نهاية التاريخ والإيديولوجيات وموت المؤلف- لا يعني أن الأفكار الأدبية السائدة "خاطئة" تماما، بل يعني أنه يجب علينا التوجّه نحو تفكير "صائب" في ماهية الأدب ووظيفته طبقا لمقتضيات العصر الجديد. في مثل هذه التحوّل الجذري نجد أنفسنا أمام موقفين أو نمطين من أنماط التفكير في الأدب وأنواعه. أولهما تيّار يحمل أنصاره تراثا أرسطيا علي أكتافهم، قوامه اللغة (الأجناس الأدبية القديمة التي كانت تنتج علي أساس الشعر، بالإضافة إلي تلك التي صارت تتحقق من خلال النثر، وبالتحديد "الرواية"). أما أنصار الموقف الثاني فتتأسّس رؤيتهم للعالم علي الفنون البصرية وفنون العرض أو الأداء Show and Performance Arts التي ظهرت مع الوسائط الجماهيرية (الراديو، التليفزيون، السينما، الفيديو)، ويشتغلون علي الأغاني المصورة وروايات الخيال العلمي والشريط السينمائي والرسوم المتحركة، وتطورت مع الوسائط المتعددة والمتفاعلة (مثل ألعاب الفيديو، الآداب الإلكترونية والرقمية). إن الرصد القائم علي تحليل مساحات التباين بين الخلفيتين المعرفية والفكرية لكل فريق من الفريقين هو ما يصبّ في أهمية الدراسة الحالية التي تنتمي إلي مجال نقد النقد، أو الفكر النقدي. تلك هي الإشكالية التي يركز عليها هذا الكتاب؛ أن نقف علي هذا المنعطف الأدبي الجديد لنفهمه في سياق التحولات الكبري التي شهدها العصر الجديد (من أهمها التحوّل المعرفي والثقافي الحادّ من دراسة "الثيمات" Themes إلي البنيات Structures ثم الأنساق Systems، وما صاحب هذه المقولات الكبري من تيارات فكرية وأدبية موازية)؛ وذلك بهدف صياغة أو إعادة صياغة تصوّراتنا الراسخة عن الأدب منذ عصر النهضة إلي الآن، سواء في الآداب الغربية أو آثارها علي الفكر الأدبي العربي، حتي نمتلك رؤية تاريخية واعية بمسارات التطور والتحوّل والمنعطفات المفصلية؛ أقصد إلي رؤية يمكن من خلالها أن نفهم كيفية تطور الأفكار الأدبية في العالم المحيط بنا، ومدي انعكاسها علي تصوّراتنا العربية للأدب وآليات التفكير فيه أو به أو حوله.