ذلك هو السؤال الذي طالما وددت أن أجيب عنه. فمن خلال معايشتي للنقد والنقاد مناقِشًا ومتابعًا، تكونت لدي صورة واضحة عن جانب مهم من جوانب أزمة النقد في عالمنا العربي وفي مصر خاصةً، إن لم يكن أهم الجوانب جميعًا. فليست أزمة النقد (وأنا أتحدث هنا عن النقد الأدبي تحديدًا) تكمن في قلة المتابعات النقدية، وبالتالي قصورها عن مسايرة الإبداعات الأدبية، بل تكمن في سوء فهم مهمة النقد عند كثير ممن يمارسونه أو يتلقونه ويطالعونه. يتصور الكثيرون أن النقد مسألة انطباعية، وبذلك يصبح موقف الناقد من العمل مسألة مزاجية تتوقف على انطباعاته الذاتية وإحساسه الخاص بقيمة العمل ومدى أهميته، رغم أن النقد الانطباعي قد عفا عليه الزمن باعتباره مرحلة أولية متخلفة من الممارسة النقدية؛ لأن الحساسية وحدها لا تخلق الناقد. فما بالك إذا كان كثير ممن يمارسون النقد هم حتى دون هذه المرحلة المتخلفة من الممارسة النقدية: فبعض هؤلاء يتصورون أن النقد هو الانتقاد، ويبحثون في النص عن شيء يتيح لهم محاكمة الكاتب أو التفتيش في ضميره (وهذا النوع المنحط من النقد الذي لا اسم له في أي كتاب علمي هو ما يمكن أن نسميه تجاوزًا «نقد النميمة»). وهناك بعض آخر يأتون إلى النص الأدبي وفي أذهانهم متفرقات من القوالب الفكرية الجاهزة التي سمعوا عنها من هنا ومن هناك، فتراهم يفتشون في النص لعلهم يجدون شيئًا يمكن أن يضعوه في تلك القوالب الجاهزة، أو يمكن أن يحاكموه على أساس من هذه القوالب إن تأبى عليهم الدخول فيها ولم يكونوا على قدرها وقياسها.هؤلاء وأولئك من التعساء لا يعرفون معنى النقد حقًا؛ فهم يفتشون عن جزئيات في النص دون أن يعرفوا دلالتها ومكانتها من الرؤية الكلية التي تهيمن على العمل (ولذلك تراهم ينتزعونها من سياق العمل، لأن دلالتها تكمن في رؤوسهم فحسب): فهم لا يعرفون- على سبيل المثال- أنه لا يمكن التقاط كلمة أو جملة من العمل اللهم إلا إذا كانت لها دلالة خاصة في مجمل سياق الرؤية الكلية للعمل؛ فالكلمة لا معنى لها بمنأى عن الجملة، والجملة لا معنى لها بمنأى عن الفقرة، والفقرة لا معنى لها إلا داخل السياق الكلي للعمل؛ ولذلك فإن القارئ والناقد (باعتباره قارئًا أساسيًا للعمل) يكون ملقى على عاتق كل منهما قراءة الجزئي في إطار الكلي، وفهم أسلوب تجميع اللقطات الجزئية المعبرة عن السياق الكلي للعمل على نحو يشبه دور المتلقي في فهم أسلوب عمل المونتاچ باعتباره جوهر العمل السينمائي. ولا شك أن ممارس النقد الأدبي قد ينتمي إلى دارسي الأدب العربي أو غيره من الآداب، ولكنه قبل هذا وذاك لا بد أن يكون على صلة عميقة بالفلسفة. فلكي يكون الناقد ناقدًا بحق يلزمه في المقام الأول أن يكون على دراية بالفلسفة، محبًا لها في عمومها؛ طالما أن كل أدب عظيم لا بد أن ينطوي على رؤية فلسفية، كما علمنا وصرح بذلك كبار الفلاسفة والأدباء أنفسهم ممن لا يحصى عددهم، ولا يتسع المجال هنا حتى لذكر شيء من مواقفهم وآرائهم في هذا الصدد. فبأي حقٍ إذن يُقدِم ذلك الذي يفتقر إلى أية ثقافة فلسفية على نقد عمل أدبي من خصائصه أن يكون منطويًا- بصورة ما أو بأخرى- على رؤية فلسفية ما، أي على رؤية للعالم وللوجود الإنساني في إحدى تجلياته. وليس بخافٍ على كل ذي فطنة أنني لا أريد أن أنتقص من شأن المشتغلين بالأدب العربي في جامعتنا؛ فلا شك أن منهم نقادًا تعلمنا ونتعلم منهم. فما أريد أن أؤكد عليه هو أن هؤلاء جميعًا لم يصبحوا نقادًا بحق إلا عندما تجاوزا حدود تخصصاتهم الضيقة، واطلعوا على الرؤى الفلسفية، والثقافة الرحبة. وهذا هو السبب في أننا يمكن أن نجد نقدًا أدبيًا حقيقيًا خارج إطار المشتغلين بتدريس الأدب، سواء عند المبدعين أنفسهم أو المثقفين ثقافة فلسفية رفيعة. ثم إن الناقد الحق يلزمه بعد ذلك أن يكون متبحرًا في علم الجمال على وجه الخصوص. وليس هذا من قبيل الترف الفكري والاستزادة المعرفية، بل إنه من لزوم ما يلزم؛ لأنه يدخل في تشكيل مفهوم النقد ذاته: ذلك أن علم الجمال في أحد تعريفاته هو «نقد النقد»، أي نقد أو مراجعة الأسس والمبادئ التي يستند إليها الناقد التطبيقي (أو ممارس النقد) في نقده للعمل الفني عمومًا. فالناقد لا يمارس النقد من فراغ، وإنما هو يمارس النقد (أو ينبغي له أن يمارسه) بعد أن تقلب بين مدارسه، ولا بد أنه واجد بعد هذا مدرسةً أو اتجاهًا معينًا يستند إليه بوصفه مرجعية له أو عدسة ينظر من خلالها للعمل المبدَع، ومن المفترض أنه لم يقنع بذلك التوجه أو الاتجاه إلا بناءً على تفضيله للأسس والمبادئ التي يقوم عليها هذا الاتجاه دون غيره. وهذا هو مناط صراع التأويلات أو النظريات النقدية، فهو صراع يحدث داخل نظرية النقد، أي داخل علم الجمال. حقًا إن الناقد التطبيقي أو ممارس النقد لا يخوض غمار هذا الصراع، ولا يكون طرفًا فيه اللهم إلا إذا كان مشتغلاً بنظرية النقد وليس مجرد ممارس للنقد، ولكنه لا يمكن أن يكون بمنأى عن الاطلاع على هذا الصراع حول أصول النقد، وعن اتخاذ موقف يميل إليه على حساب مواقف أخرى. ولا شك أن هذه المواقف تتفاوت قيمتها بحسب حظها من الانفتاح أو الانغلاق، وبحسب حظها من القدرة على سبر أغوار النص أو الاكتفاء بالوقوف عند سطحه الظاهر. أما الموقف الذي اتخذته وارتضيته لنفسي فهو الموقف الذي رأيت أنه أكثر المواقف النقدية رحابةً، بعد طول تأمل ونقد لكثير من المواقف التي رأيت أنها لا تخلو من دوجماطيقيةً أو ضيق أفق: إنه موقف أو اتجاه التأويل الفلسفي الظاهراتي الذي يعد هيدجر رائدًا له، ويعد جادمر صلبه وعماده. والحقيقة أن هذا التأويل (الذي يتسع لسائر النصوص الأدبية وغيرها) ليس بمذهب ولا بمنهج: فهو ليس بمذهب لأنه لا يمثل بناءً أو إطارًا محددًا سلفًا ينبغي فهم النص على أساسه، فهو ليس بموقف محدد مسبقًا من النص، وإنما هو مجموعة من الشروط المعرفية والأخلاقية التي ينبغي أن تضبط أو تحكم، لا النص ذاته، وإنما توجهنا نحو النص، كي لا نغرق في نزعات ذاتية أو انطباعية أو نفسانية (وهذه الأخيرة هي تلك التي تنظر إلى النص من جهة الأثر الذي يحدثه في النفس). كما أن هذا الموقف ليس بمنهج بقدر ما هو نهج أو اتجاه: فهو لا يقوم على مجموعة من القواعد التي يتم من خلالها «تأطير النص» en-framing the text، وإنما هو طريق يسير فيه الفكر متوجهًا نحو النص بهدف حسن فهمه (أليست مهمة النقد في عمومه وفي المقام الأول هي تحسين العلاقة بين العمل الفني والجمهور من خلال حسن فهمه أو تفهمه؟ ). والتفهم أو حسن الفهم لا يبدأ إلا من خلال ما يسميه هيدجر «بالفهم التعاطفي». غير أن هذا المفهوم الأخير قد يسيء البعض فهمه ويتصورونه على أنه حالة شعورية خالصة، وهذا أبعد ما يكون عن الصواب؛ لأن التعاطف المقصود هنا هو ذلك الشعور الذي ينبثق من المعرفة التي تجعلنا على ألفة بالموضوع الذي نحاول فهمه. ذلك أن التفسير الحق هو ذلك الذي يسعى إلى فهم موضوعه، وهو لا يمكنه أن يبلغ غاية مسعاه هذا اللهم إلا إذا كان على دراية من قبل بذلك الموضوع بأن يكون قد وقع في خبرته من قبل أو تساءل عنه بحيث أصبح مهمومًا به باعتباره واقعًا في نطاق همه واهتمامه؛ فهذا هو ما يجعل فهمه أمرًا ممكنًا باعتباره موضوعًا قد عايشته الذات من قبل أو عرفت شيئًا منه. ذلك هو الشرط الأوَّلي للفهم؛ ومن ثم الشرط اللازم للتصدي لعملية التأويل باعتبارها عملية لها ماض وحاضر ومستقبل يسعى التأويل إليه. إضافة إلى ذلك، ينبغي أن نعي أن التفسير الذي يسعى إلى الفهم لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الحوار مع النص: ولا شك أن تحقق الحوار هنا يفترض أن المفسر لا ينبغي أن يُقبل على النص وفي ذهنه أية فروض أو مقولات مسبقة غير مستمدة من الخبرة والتجربة المعيشة، فهو لا ينبغي أن يفرض على النص مقولاته الذاتية؛ لأن التفسير في هذه الحالة لن يصبح حوارًا Dialogue وإنما سيصبح نوعًا من المونولوج Monologue الذي تحاور فيه الذات نفسها؛ فالحوار الحق هو ذلك الذي لا تسعى فيه الذات إلى فرض سيطرتها على الموضوع أو النص بأن تكممه غير منصتة إليه، ولا تكون في الوقت ذاته سلبية تمامًا إزاء النص بحيث لا تسائله أو تحاول استنطاقه بأن تقول ما لم يقله النص. إن إيجابية الذات هنا لا تعني مساءلة النص من خلال مقولات جاهزة تكمن خارجه، وإنما تعني التفاعل مع النص من خلال إقامة حوار معه كما لو كان شخصًا حقيقيًا، وعلى نحو نشعر معه بالألفة التي تشبه تلك التي تحدث في الحوار بين الأصدقاء. وهذا يعني أن حوارنا مع النص- باعتباره حوارًا بين أنا وآخر- ينبغي ألا يتجاوز ما يقوله النص إلى شيء ما وراءَه. هناك إذن شروط يقوم عليها فهم النص؛ ومن ثم إمكان نقده، ولكن هذه الشروط ليست بمثابة قواعد منهجية ولا أطر مسبقة محددة سلفًا، وإنما هي بمثابة ضوابط تحكم أصول وأخلاقيات التأويل الذي يتيح لنا فهم النص والانفتاح على عالمه الخاص.