المناقشات، والبيانات، والتعقيبات والتعليقات التي دارت في اجتماعات اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوي الشعبية، أنارت في رأسي ذكريات كثيرة، وفي نفسي معاني كثيرة، ولكنها معان ليست جديدة بالنسبة لي، ومنها حديث الديموقراطية الزائفة، والاشتراكية الزائفة، التي كانت تمارس في مصر ما قبل الثورة، أيام كان يوجد برلمان وانتخابات وأحزاب ومعارضة، وأيام كان الشيخ المحترم يقف في مجلس الشيوخ ويعلن أنه ∀ لو رشح الوفد حجرا لانتخبناه ∀ وأيام كانت المظاهرات تنادي في الشوارع∀ الحماية علي يد سعد خير من الاستقلال علي يد علي ∀، وأيام عاد زعيم حزب كبير من لندن ليعلن ∀خسرنا المعاهدة، وكسبنا صداقة الإنجليز∀ والترجمة الصحيحة لهذا الإعلان هي ∀ لم ننجح في مسعانا للحصول علي قسط من الاستقلال، ولكننا نجحنا في كسب صداقة المستعمرين الذين يحتلون بلادنا ∀ ! وأيام وقف مصري كبير مسئول يخطب في حفل أقيم في فندق ويقول ∀ إن ما بين بريطانيا ومصر أشبه بعقد زواج كاثوليكي ليس له طلاق ولا منه فكاك ∀، وكان يوجد عندنا دستور قال عنه الذين وضعوه ∀ إنه مأخوذ من أحدث الدساتير العصرية ∀، ثم قال عنه المرحوم علي فهمي ∀ إنه ثوب فضفاض ∀ أي أنه كثير علي شعب مصر، وكان الدستور المذكور ينص في صدره علي أن ∀ الأمة مصدر السلطات ∀، وأن المصريين سواء أمام القانون، وكان الدستور ينص علي حرية الملكية وحرية المسكن، وعلي.. وعلي.. وعلي.. إلخ، فهل كانت الأمور تسير في هذا البلاد علي النحو الذي رسمه الدستور ؟ ! كلا.. ! ومع ذلك لم تمض أربع سنوات علي قيام ∀ الحكم الديمقراطي النيابي الدستوري ∀ في مصر حتي قامت وزارة المرحوم محمد محمود باشا التي عطلت الحياة النيابية ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وأوقفت العمل ينص مواد الدستور ومنها المادة التي تنص علي أن الصحافة حرة في حدود القانون، وأعلن محمد محمود يومئذ أنه سوف يحكم البلاد بيد من حديد، ولقد عرف بعدئذ رحمه الله بصاحب اليد الحديدية، وذات يوم وقف إقطاعي من أنصاره وهو من الذين اعتقلوا أخيرا وقف يخطب بين يديه ويهنئ البلاد بقيام هذه الحكومة الرشيدة، حكومة أبناء البيوتات، أي أن البلاد ينبغي أن يحكمها أبناء الأسرات الكبيرة، الأسرات الثرية التي تملك مئات وآلاف الفدادين، لا أن يحكمها أبناء الشعب، أو ∀ الرعاع ∀ كما كانوا يسمون خصومهم الذين ليسوا من أبناء البيوتات، ووقف مرة اللورد جورج لويد المندوب السامي البريطاني، وقف في حفل عام حضره رئيس الحكومة، وهتف بحياة محمد محمود ثلاثا ∀ هب..هب.. هورا.∀ وتباهي الإقطاعيون يومئذ بهتاف اللورد المندوب السامي ولجلالة قدره، قد هتف بحياة زعيمهم، زعيم أبناء البيوتات ! وفي هذه وجه المعاني كتبت في صدر الثورة، وعلي التحديد في عامي 1952 و1953 وتحت عنوان ( هذا صراط مستقيم ) كتبت في إلغاء الأحزاب ودعوت إلي تكوين حزب واحد يندمج فيه كافة طبقات الأمة، وكتبت في أن ∀ العيب في الأمة، لا في دستور الأمة ∀، وكتبت عن ∀مرض الجمود الفكري في مصر∀، وقلت إنهم ∀خدعوها أي خدعوا الثورة بقولهم بيضاء ∀، وقلت أيضا إنه ∀ كان في مصر أحزاب ونظام تعدد الأحزاب ومع ذلك كان يحكمها طاغية فاجر∀، و... ∀ من كان في عينيه دمعة فإن شعب مصر أولي بها وأحق ∀، و... ∀ أن الرحمة رسالة الثورة، ولكن الرحمة ليس معناها التدليع والتدليل ∀، وكتبت في أن ∀ ضباط الثورة ليسوا مخالب القطط ∀، وكتبت، وكتبت، إلي آخر ما كتبت في هذه المعاني التي تناولتها المناقشات التي دارت في الجلسة التحضيرية. نعم، كان عندنا ديموقراطية، وانتخابات، وبرلمان، وقبة برلمان، وأحزاب ومعارضة، إلي آخر مظاهر الديموقراطية التي نقلناها نقل ∀مسطرة ∀ عن الغرب، وكانت الانتخابات ∀حرة∀ حرة بمعني أن المرشح الأقوي والأكثر ثراء كان يستأجر أكبر عدد من اللوريات،يحمل أو يشحن فيه أكبر عدد من الناخبين إلي مراكز الانتخابات لكي يعطوا أصواتهم للمرشح المذكور، حتي ولو كان من بلدة غير بلدهم، أو من مديرية أو محافظة غير مديريتهم ومحافظتهم، كل هذا لم يكن يهم،بل لم يكن مهما أن يعرف الناخب اسم المرشح.. فقد كان يقف عند باب لجنة الانتخابات من يهمس في أذن الناخب باسم المرشح ∀ ادخل وانتخب فلان ابن فلان∀. والويل للناخب إن لم يفعل،فقد كانت الهراوات الغليظة تتلقاه عند خروجه، ويعود إلي قريته وداره محمولا علي الأعناق ! وكان عندنا أحزاب لم تكن لها سياسة مرسومة، اللهم إلا سياسة التكالب علي الحكم والتطاحن من أجل الوصول علي كرسي الحكم، أحزاب تضم جماعات يبغض بعضها بعضا، ويسعي بعضها للتنكيل بالبعض بكل وسيلة وبكل سلاح، وهكذا قامت وزارة الإقطاعيين أو وزارة أبناء البيوتات بإدارة الإنجليز الذين هتف مندوبهم السامي في مصر بحياة رئيسهم ( هب.. هب.. هورا ). وقامت وزارة إقطاعي رجعي آخر هو إسماعيل صدقي بإدارة الإنجليز، لأن الحليف التطبيعي للاستعمار هو الرجعية والإقطاع، أليس صحيحا، إلي أن خير حصن يحمي الرجعية والإقطاع هو حصن الاستعمار، ولقد قامت الوزارتان مرة بعد مرة لا لخدمة شعب مصر، وإنما لخدمة مصالح الإنجليز والإقطاعيين، واستشري الفساد في البلاد، ومن ألوانه أن الأسر الإقطاعية الواحدة كانت توزع أفرادها علي الأحزاب، فمنهم من ينضم إلي الوفديين ومنهم من ينضم إلي الأحرار الدستوريين أو السعديين، حتي إذا تولي الوفد مقاليد الحكم استطاع عضو الأسرة الوفدي أن يحمي أعضاء الأسرة من الأحرار الدستوريين أو السعديين من بطش حكومة الوفديين، والعكس صحيح، بل لقد كانت هناك زوجات يدخلن أعضاء في لجان الوفد للسيدات، بينما أزواجهن أعضاء في حزب السعديين أو حزب الدستوريين، لكي تستطيع السيدات الزوجات أن يشفعن لرجالهن إذا وقعت الواقعة، وحل يوم البطش والانتقام، ومن ألوانه أيضا. انطلقت أقلام تؤيد القصر، وكل حكومة يرضي عليها القصر، وأقلام تلف وتدور، وتهاجم من كانت تؤيده بالأمس، وتؤيد وتعلن رضاها عمن كانت تحمل عليهم في اليوم السابق، وهي في هذا كله مسيرة بحكم الخنوع، أو المصلحة الذاتية، أو الأجر المعلوم ! ومرة أخري أقول إنه كان عندنا ديموقراطية وحياة نيابية دستورية، وأحزاب ومعارضة. وكان في الأحزاب زعماء وأقطاب، كان الطاغية أحمد فؤاد، ومن بعده ابنه الفاجر فاروق. كان يركلهم بالقدم، ويقيل وزاراتهم بغير سبب، أو لأنهم لم يكونوا أهلا لرضاه السامي، أو موضع ثقة دار المندوب السامي، وكانوا هم يبادرون عقب الركل والرفس إلي القصر ويسجلون أسماءهم في سجل التشريفات شاكرين لمولاهم جلالة الملك علي ما أولاهم من ثقة ومن ركل أو رفس كريم، وكان في الأحزاب، أعضاء أو عصابات، إذا ما تولت الحكم استولت علي أقوات الشعب تتاجر فيها، بل لقد تاجرت ذات يوم في الأكفان، أكفان الموتي، ذلك لأنها لم تنظر إلي الحكم أو النيابة علي أنها أمانة، بل نظرت إليها علي أنها شطارة وتجارة، وبعد.. إن رأيي في الأحزاب وقيام الأحزاب ليس ابن اليوم، ولا هو وليد ثورة يوليو 1952 لأنه رأي قديم سبق أن أعلنته قبل 1952، لقد كتبت في ∀آخر ساعة∀ في عام 1950 وقلت ∀ ليت مصر تستطيع أن تجد الرجل الذي يحكمها حكما عادلا نظيفا لمدة عشر سنوات، ولو تدفع له مرتبا سنويا قدره مليون من الجنيهات، تدفعها وهي الرابحة في جميع الأحوال ∀. أخبار اليوم - 2 ديسمبر1961