توقفت كثيرًا عند هذا الخبر الذي نشرته الوفد منذ أيام.. كان رجل مسن يقف خلف ستارة التصويت الانتخابي.. ولما طال وقوفه دخل عليه القاضي المشرف طالبا منه أن يسرع قليلا لأن طابور الناخبين طويل.. هنا فاجأه هذا الرجل المسن قائلا: والنبي يا ابني فين اسم مصطفي النحاس.. أريد أن أعطيه صوتي!! هنا قال له القاضي: ولكن النحاس باشا توفي منذ سنوات بعيدة.. فرد عليه الرجل العجوز: معلش العتب علي السن.. فقد جئت انتخب الزعيم العظيم. هذه القصة الحقيقية لها دلالات كبيرة.. فهذا الرجل يعرف قدر النحاس باشا.. ويعرف أنه زعيم حزب الوفد، الذي حكم مصر من خلال 7 حكومات بدأت في أول حكومة له عام 1928.. والثانية عام 1930 والثالثة عام 1936 ثم الرابعة عام 1937 والحكومة الخامسة عام 1942 والحكومة السادسة حتي عام 1944 والحكومة السابعة والأخيرة كانت عام 1950 وحتي يناير 1952.. حقيقة تمت إقالة معظم حكومات النحاس باشا.. سواء من الملك فؤاد الأب.. أو من الملك فاروق الابن.. ولكن هذا المواطن المصري يعرف أن النحاس باشا كان هو رئيس الحكومة النزيه النظيف اليد والذمة والضمير.. وأن الملكين ما أقالاه إلا خشية علي شعبية كل منهما.. والمؤلم أنه في كل مرة كانت تتم فيها إقالة حكومة النحاس باشا كان الملك يأتي بديكتاتور يحكم مصر بدلا منه ومن أشهرهم محمد محمود باشا.. وإسماعيل صدقي باشا.. وهذا المواطن الذي ذهب إلي لجنة حافظ إبراهيم بالهرم محافظة الجيزة ليدلي بصوته وينتخب مصطفي النحاس.. وعندما استعجله المستشار المشرف علي اللجنة سأله عن الرمز الانتخابي للنحاس باشا في تلك الورقة الكبيرة مؤكدًا أن حزب الوفد هو الأصلح لقيادة تلك المرحلة. وهذا الرجل كبير السن يعرف أن حزب الوفد هو صاحب الإنجازات الكبيرة في تاريخ مصر: إنجازات في التعليم وفي الاقتصاد.. في العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.. في التشريع وفي حقوق العمال.. في مجانية التعليم والمشروعات الكبري، وكل هذا تحقق رغم قصر المدة التي قضاها في الحكم.. وكان القصر الملكي يطارده ويطارد حزب الوفد بشراسة شديدة.. وبحث هذا المواطن المسن عن الرمز الانتخابي للنحاس باشا لا يأتي من فراغ، ولهذا كان المصري يذهب إلي الانتخابات ليختار حزب الوفد ومرشحي الوفد.. وهذا سر المقولة الشعبية: «لو رشح الوفد حجرًا لانتخبناه.. فلم يكن المواطن ينظر إلي اسماء المرشحين.. بل كان يختار حزبا يعرف أنه يمثله.. فعل ذلك في أول انتخابات في ظل دستور 1923 في يناير 1924 تماما كما فعلها في آخر انتخابات تمت تحت ظلال هذا الدستور في يناير 1950.. وفعل نفس الشىء فيما جرت بينهما من انتخابات.. ماعدا تلك الانتخابات التي كان القصر الملكي يشرف علي تزويرها من أيام أحمد زيور باشا عقب استقالة حكومة الشعب الأولي برئاسة سعد زغلول نفسه أيام محمد محمود، وتخيلوا أنه بلغ من جبروت صاحب اليد القوية محمد محمود باشا أن زور هذا السياسي هذه الانتخابات التي جرت في ابريل عام 1938 وفيها حصل مرشحو الحكومة علي 93 مقعدًا وحصل السعديون علي 80 مقعدًا.. ولم يحصل الوفد إلا علي 12 مقعدا فقط وبلغ من شدة التزوير يومها أن الزعيمين الكبيرين مصطفي النحاس ومكرم عبيد سقطا في دائرتيهما!! ورد الشعب اللطمة للقصر الملكي عندما أعطي الوفد- والنحاس- أغلبية مطلقة في الانتخابات التالية التي أجريت 4 مايو 1942 بلغت 89٪ من مقاعد مجلس النواب.. لتنعم البلاد بوزارة وفدية هي الأطول في تاريخ الوفد.. إذ استمر حكم الوفد إلي أن أقالها الملك فاروق يوم 8 أكتوبر 1944 في اليوم التالي لتوقيع الوفد بروتوكول تكوين الجامعة العربية. ولكن الشعب الأصيل أعاد الوفد إلي الحكم بأغلبية كاسحة في انتخابات يناير 1950 إذ حصل الوفد علي 228 مقعدا من مجموع مقاعد مجلس النواب البالغة 319 وحصل المستقلون فيها علي 30 مقعدا.. والسعديون علي 28 والأحرار الدستوريون علي 26 مقعدا والوطنيون علي 6 مقاعد واشتراكي واحد. وهكذا أعاد الشعب حزب الوفد إلي الحكم بأغلبية كاسحة لتستمر حكومته حتي أقالها الملك يوم 27 يناير 1952 عشية حريق القاهرة المدبر من القصر الملكي ومن الإنجليز ولكلاهما مصلحة أولي في إسقاط حكم الوفد فتمت مؤامرة حريق القاهرة يوم 26 يناير!! هذا هو النحاس باشا الذي بحث الناخب المصري العجوز عن رمزه الانتخابي منذ أيام ليعطيه صوته في الانتخابات الحالية. النحاس باشا المولود عام 1876 وعين قاضيا واشترك في ثورة 19 ونفي مع سعد زغلول إلي سيشيل عام 1921 وعين وزيرا للمواصلات في حكومة سعد زغلول 1924 وخلفه في رئاسة الوفد ورئاسة البرلمان وشكل 7 حكومات هو الأول في تاريخ حكومات مصر.. ومات في أغسطس 1965 وهو لا يجد ثمن الدواء.. وظل يسكن بيتا بالإيجار حتي رحل عن حياتنا.. والفاتحة علي روح النحاس باشا..