ستارمر: لن تكون حماس جزءًا من غزة مجددًا.. ودعمنا لأمن إسرائيل لا يزال ثابتا    «ميطلعش من عضو».. حتحوت ردًا على رسالة مسؤول الزمالك: مضيتوا ليه؟    «لم يركل الكرة بعد».. جيوكيريس يقتحم تاريخ أرسنال من بوابة هنري    بسبب خلافات سابقة.. التحقيق مع 5 متهمين بدهس شاب بسيارة في الإسكندرية    «الداخلية» تكشف ملابسات فيديو مشاجرة بين شخصين ووفاة أحدهما بالقاهرة    أبرزهم حلمي عبدالباقي ونادية مصطفى.. تعرف على قائمة الفائزين بانتخابات التجديد النصفى ل«الموسيقيين»    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي العام بقنا    نقيب المهندسين: المعادلة شرط أساسي لتأهيل طلاب الدبلومات    الفنانون المصريون والسفر لتقديم العزاء لفيروز!    أطباء السودان: وفاة 13 طفلا في مخيم نازحين بدارفور جراء سوء التغذية    وزير العمل يسلم 350 شهادة لخريجي الدورات التدريبية المجانية على 23 مهنة    الغندور: صفقة تاريخية على وشك الانضمام للزمالك في انتقال حر    سعر ومواصفات 5 طرازات من شيرى منهم طراز كهرباء يطرح لأول مرة فى مصر    مراسل "إكسترا نيوز": الفوج الخامس من شاحنات المساعدات يفرغ حمولته بالجانب الفلسطيني    رئيس جامعة برج العرب في زيارة رسمية لوكالة الفضاء المصرية    جدول امتحانات الدور الثاني للثانوية العامة 2025 للمكفوفين.. المواعيد والتفاصيل    نصائح للاستفادة من عطلات نهاية الأسبوع في أغسطس    أمين الفتوى: تأخير الصلاة عن وقتها دون عذر ذنب يستوجب التوبة والقضاء    مبابي ينتقل لرقم الأساطير في ريال مدريد    بريطانيا: سنعترف بدولة فلسطين في سبتمبر إذا لم تُنه إسرائيل حربها على غزة    حكم الرضاعة من الخالة وما يترتب عليه من أحكام؟.. محمد علي يوضح    التريند الحقيقي.. تحفيظ القرآن الكريم للطلاب بالمجان في كفر الشيخ (فيديو وصور)    خالد الجندي: الذكاء الاصطناعي لا يصلح لإصدار الفتاوى ويفتقر لتقييم المواقف    من أجل قيد الصفقة الجديدة.. الزمالك يستقر على إعارة محترفه (خاص)    بدء انتخابات التجديد النصفى على عضوية مجلس نقابة المهن الموسيقية    ضخ المياه بعد انتهاء إصلاح كسر خط رئيسى فى المنصورة    تأجيل محاكمة المتهم بإنهاء حياة شاب بمقابر الزرزمون بالشرقية    تجديد حبس 12 متهما في مشاجرة بسبب شقة بالسلام    وزير العمل: مدرسة السويدي للتكنولوجيا تمثل تجربة فريدة وناجحة    وزارة الأوقاف تعقد (684) ندوة علمية بعنوان: "خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي"    20% من صادرات العالم.. مصر تتصدر المركز الأول عالميًا في تصدير بودرة الخبز المُحضَّرة في 2024    وزير الدفاع يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية - تفاصيل المناقشات    النقابات العمالية تدشن لجنة الانتقال العادل لمواجهة التحول الرقمي    خاص.. الزمالك يفتح الباب أمام رحيل حارسه لنادي بيراميدز    نقابة الموسيقيين تكشف تفاصيل التحقيق مع محمود الليثي ورضا البحراوي |خاص    من عبق الحضارة إلى إبداع المستقبل| فعاليات تبهر الأطفال في «القومي للحضارة»    "ياعم حرام عليك".. تعليق ناري من شوبير على زيارة صلاح للمعبد البوذي    برلمانية تطالب بإصدار قرار وزاري يُلزم بلم شمل الأشقاء في مدرسة واحدة    هآرتس تهاجم نتنياهو: ماكرون أصاب الهدف وإسرائيل ستجد نفسها في عزلة دولية    حتى لا تسقط حكومته.. كيف استغل نتنياهو عطلة الكنيست لتمرير قرارات غزة؟    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    38 قتيلا حصيلة ضحايا الأمطار الغزيرة والفيضانات العارمة فى الصين    وزير العمل ومحافظ الإسكندرية يفتتحان ندوة للتوعية بمواد قانون العمل الجديد    لماذا يتصدر الليمون قائمة الفاكهة الأكثر صحة عالميا؟    الأمراض المتوطنة.. مذكرة تفاهم بين معهد تيودور بلهارس وجامعة ووهان الصينية    بالأرقام.. رئيس هيئة الإسعاف يكشف تفاصيل نقل الأطفال المبتسرين منذ بداية 2025    مجمع إعلام القليوبية يطلق أولى فعاليات الحملة الإعلامية «صوتك فارق»    منال عوض: تمويل 16 مشروعا للتنمية بمصر ب500 مليون دولار    مقتل وإصابة خمسة أشخاص في إطلاق نار بولاية نيفادا الأمريكية    انتخابات مجلس الشيوخ 2025.. 8 محظورات خلال فترة الصمت الانتخابي    «بيفكروا كتير بعد نصف الليل».. 5 أبراج بتحب السهر ليلًا    أُسدل الستار.. حُكم نهائي في نزاع قضائي طويل بين الأهلي وعبدالله السعيد    الخارجية الفلسطينية: الضم التدريجي لقطاع غزة مقدمة لتهجير شعبنا    أسعار الأسماك اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 في شمال سيناء    الكهرباء: الانتهاء من الأعمال بمحطة جزيرة الذهب مساء اليوم    موعد مرتبات شهر أغسطس.. جدول زيادة الأجور للمعلمين (توقيت صرف المتأخرات)    السيطرة على حريق بمولد كهرباء بقرية الثمانين في الوادي الجديد وتوفير البديل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خديوي


1
‮- ‬أنت يا قطران‮.‬
إنه صوت المأمور‮.. ‬يثب‮ ( ‬خديوي‮ ) ‬كمن لسعته عقرب‮.. ‬يغمغم
‮- ‬قطران قطران ؛ متي يُرقي هذا القطران لرتبة فحم‮.‬
يهرول إليه ويداه تضغطان علي‮ ( ‬الكاب‮ ) ‬فوق رأسه‮.‬
يتعاقب عليه المأمورون‮.. ‬ثلاثون عامًا يطئون كرامته‮.. ‬يجئ أحدهم ويذهب دون معرفة اسمه الحقيقي‮ ( ‬خديوي السيد طنّاب‮ ).. ‬يكتفون ب‮ ( ‬قطران‮ ). ‬غير واحد انتبه لاسمه‮ ‬
‮- ‬اسمك قطران؟‮!‬
اعتدل‮ (‬خديوي‮) ‬في وقفته وانتصب كأعواد القصب التي يرعاها في قراريطه لا عوج فيها ولا أمت‮. ‬
‮- ‬لا يا بك ؛ اسمي خديوي‮. ‬
تأمله مليا‮.. ‬قصير‮.. ‬جانبه الأيمن يكاد يلامس جانبه الأيسر‮.. ‬لون بشرته طميي لوحته الشمس‮.. ‬عيناه فاحمتا السواد‮.. ‬مد يده وربت علي بطنه الملتصقة بظهره‮.. ‬كبح قهقهة جامحة‮.. ‬تفلّتت‮ ( ‬الهأهأة‮ ) ‬رغمًا عنه‮. ‬
‮- ‬هأ‮.. ‬هأ
مسح عينيه بكم بزته الميري وأردف
‮- ‬أين كرش الخديوي؟ هأ‮.. ‬ليس لك نصيب من‮ ‬
‮ ‬اسمك يا خديوي‮... ‬هأ هأ
‮ ‬
غالبًا يقضي جل نهاره يذرع النجوع والدروب‮.. ‬يُسلم هذا استدعاءً‮ ‬وذاك إنذارًا بالحجز‮.. ‬يستوقفه المواطنون لقضاء حاجاتهم‮.. ‬دبر يومه الحافل تغتال آلام الغضروف والركبة سكينته‮.. ‬يختتم طوافه بالمركز ليوقع في دفتر الحضور والانصراف‮.. ‬خلف مكتب الحديد المتهالك يتساقط علي المقعد ذي الثلاثة أرجل،‮ ‬المسند علي الحائط‮.. ‬يلقي برأسه علي المكتب الذي يئن أنينًا خافتًا يسمعه من حوله‮.‬
بلا اكتراث يحدثه أحدهم وقد تزحلقت النظارة الطبية حتي أرنبة أنفه‮.. ‬كان يقلب صفحات جريدة ويقرأ العناوين الكبيرة من فوق النظارة بملل‮.. ‬توشي نبرات صوته بأمر دفين في صدره‮ ‬
‮- ‬تجهد نفسك بلا داع‮!! ‬وقِعْ‮ ‬في الصباح حضورك‮ ‬
‮ ‬وانصرافك،‮ ‬وأرح نفسك من المجئ والذهاب‮. ‬
ويُكمِل آخر يجلس بفيه الباب ساخرًا
‮- ‬المكتب يستغيث منك يا عم قطران‮.‬
حتي هؤلاء الزملاء وأدوا اسمه‮ ( ‬خديوي السيد طنّاب‮ ).‬
ما يغيظه بحق و يكاد‮ ( ‬يفقع مرارته‮ ) ‬موظف الخزينة ؛ فخديوي السيد طنّاب مكتوب أمام عينيه في كشوف صرف الرواتب لكنه يستظرف وينادي عليه بصوته المبحوح‮ ( ‬تعال وقع يا قطقط‮ ).. ‬يسايره البعض في تهكمه،‮ ‬فيظهرون له إعجابهم بحلاوة روحه لأجل أن يستثنيهم من العملات الورقية المتهالكة‮.‬
يؤثر المهادنة‮.. ‬لم يُظِهر لأحد امتعاضه فألفوا نبزه‮.. ‬تكرارًا يلوم إرادته المسفوحة‮. ‬
2
رغم عدم رغبته لرؤية ذوي النجوم والنسور والسيوف النحاسية الوهاجة التي تزيغ‮ ‬الأبصار أو الوقوف في حضرتهم إلا أنه بعض الأحايين يتمني مشاهدتهم والتطيب بمخالطتهم‮.‬
يجد في تلك المشاهدة تسرية لنفسه الموؤدة تحت بزة الميري والفاقة والعوز ؛ بل يذهب لأكثر من التمني إذ كان يتحايل لرؤية المأمور أمام مدير أمن المحافظة أو المدير ذاته تجاه المحافظ‮.‬
يبتهج في قرارة نفسه حينما يري المأمور يتهته في الكلام وهو يقول مثله تمامًا‮ ( ‬أمرك يا فندم‮ ).. ‬يهتز سعادة لارتجافه وعرقه المتصبب من أنحاء جسده‮.. ‬تمور بجوفه ضحكة لا تشفي‮ ‬غليلة‮.. ‬يقول في نفسه‮:‬
‮- ‬أين لسانك المكربج؟ أين سطوتك؟ الآن كما القطة تنونو بمَسْكنه‮.. ‬تنونو كما ينونو قطران‮. ‬ ‮ ‬
حين تطفو البشاشة علي وجهه ويشع الرضا من عينيه المجحورتين،‮ ‬يتقهقر لينسلت من بينهم‮.. ‬تلومه نفسه‮ ‬
‮- ‬ما الفائدة من الشماتة يا خديوي؟‮!.‬
‮ ‬
بداية الأمر كان يخال إليه أنهم من طينة أخري ؛ الخوف لا يألفهم،‮ ‬وأمثالهم لا يجيدون التسكع في طُرقات المهادنة‮.. ‬فهل يعقل أن المأمور ؛ المأمووووووووور،‮ ‬بقده الممشوق وبياضه الناصع وطراوة كف يده،‮ ‬و الذي إذا مر بنجع علقت رائحة‮ ( ‬برفانه‮ ) ‬بحوائطه الطينية ثلاثة أيام متتالية،‮ ‬و الذي إذا أراد أن يذب عن أنفه ذبابة استدعي مجندًا‮ ‬ليريحه من عناء ذبها ؛ هل يتسول رضا الأكابر،‮ ‬مثله مثل‮ ‬
‮( ‬جابر الغلبان)؟‮ ‬
كان‮ ( ‬خديوي‮ ) ‬وقتئذ في مكتب المأمور يستند إلي فاترينة زجاج خلف ظهره،‮ ‬بينما الأخير يمسك بالهاتف بشغف،‮ ‬نبرة‮ ‬صوته تتهادي عذبه نديه،‮ ‬كأنه المطرب الجنوبي‮ ‬
‮( ‬رشاد عبدالعال‮ ) ‬وهو يدندن بأغنيته‮ ( ‬ظالم وبتندم‮ ) ‬
‮- ‬يا باشا‮...... ‬يا افندم‮..... ‬يا بك‮......‬
يتطلع إليه‮ ( ‬خديوي‮ ) ‬بحذر‮.. ‬شاهد ضعفه الذي لا يبديه لأحد‮.. ‬وَدَّ‮ ‬في تلك الساعة لو انصرف أو صار مثل تلك الهرة المدللة التي تتمسح في ساقي المأمور لا تعي ما يقال أمامها‮.. ‬لكن قد يعاقبه لانصرافه‮.. ‬انتظر قليلاً‮ ‬مطأطأ الرأس‮.. ‬بصره مثبت علي حذائه المفتوق في جانبيه‮.‬
وضع المأمور السماعة ثم سحب نفساً‮ ‬عميقاً‮.. ‬انتبه لوجود‮ ( ‬خديوي‮).. ‬آبت إليه عنتريته
‮- ‬منذ متي وأنت‮..........‬
تحجر في مكانه ولم ينبس ببنت شفة سوي رفع يده حذو رأسه وقدمه اليسري قبالة ركبته اليمني ثم دفعها نحو الأرض محدثًا دبة أثارت الغبار اللابد في وبر السجادة المهلهلة‮.‬
3
يَكِنُّ‮ ‬له الناس مودة وارفة‮.. ‬يعتاض بها عن ضن الحياة‮.. ‬لنزول راكبهم ونهوض جالسهم لأجل مصافحته أو الاطمئنان علي أحواله لها عنده اعتبارات ممتنة يُسرها بين جوانحه‮.. ‬بطول النجع وتشعباته حتي منزله لا يكِل لسانه عن رد التحيات والابتسامات‮.. ‬ما زال يقول ل‮( ‬وصفي‮):‬
‮- ‬يا ولدي محبة الناس لا تباع ولا تشتري‮. ‬
لكم استبشروا حينما تقدم ابنه بطلب للالتحاق بكلية الشرطة‮.. ‬
ولكم تألموا لرفض قبوله‮.. ‬فاق حزن‮ ( ‬خديوي‮ ) ‬ذاته الذي في لحظة ما جال بخاطره أن يؤدي التحية العسكرية لابنه‮.‬
فور ظهور نتيجة الثانوية العامة أرغمه علي التقدم لكلية الشرطة‮.. ‬خُيل إليه أن الرؤوس قد تساوت‮.. ‬كان يسمعهم ينادونه ب‮( ‬وصفي بك خديوي‮ ).. ‬لا يُعِد النداء حلمًا من أحلام اليقظة‮.. ‬يجزم لمن حوله أنه يسمع هاتفًا ما يُلحق صفة البكوية بابنه لكنه لا يراه‮.. ‬يوقن بأن منكبيه المزدانين بالنجوم والنسور سيُنسيان السادة الزملاء‮ ( ‬قطران‮ ) ‬وما قطرنه‮.‬
‮ ‬لا يدري المانع الذي عرقل التحاق‮ (‬وصفي‮ ) ‬بكلية الشرطة‮.. ( ‬وصفي‮ ) ‬حباه الله طولاً‮ ‬وعرضًا‮.. ‬اجتمعت في جسده قوة رجال ثلاثة‮.. ‬ذوو النفوذ كفلوه بشفاعتهم‮.. ‬العم‮ (‬جرجس‮) ‬كتب عدة أفدنة زراعية لا يبلغ‮ ‬البصر أطرافها باسم‮ ( ‬خديوي‮) ‬لزوم تكملة الأوراق‮.‬
ماذا ينقصه؟‮.. ‬كان يجزم‮ (‬خديوي‮) ‬بأن نبزه المشئوم‮ (‬قطران‮) ‬سبباً‮ ‬فيما يجري ل‮ (‬وصفي‮) ‬؛ فكيف لابن‮ (‬القطران‮) ‬بحذائه المقدود وثيابه المتواضعة وبشرته السمراء يكون ضابطاً‮ ‬بين أبناء الأعالي‮.. ‬فهل تلد الأَمَة ربَتَها؟‮ ‬
نُصح بإلحاقه كلية الحقوق‮.. ‬قد تكون ثمة ساعة رضا تصاحبه،‮ ‬فيصبح وكيلاً‮ ‬للنائب العام‮.. ‬حينها راح يضرب أخماسًا في أسداس ؛ كيف‮ ‬غابت عنه تلك الفكرة من بداية الأمر‮.. ‬نشُط من عقال الاكتئاب‮.. ‬طفق يُمني ولده‮.. ‬يُرغبه في حياة القضاة الأُبَّهة‮.. ‬التبجيل الذي ينتزعوه من العامة‮.. ‬كان دائمًا يردد علي مسامعه
‮- ‬حتي مأمور المركز بجلالته وشيبته يهاب شابًا يماثل عُمر أولاده‮.‬
كثيرًا ما حمد الله ؛ فلولا عناية الله بهما لقُبل في الشرطة‮.. ‬كان يعتريه شعور بأن الكريم نسأ‮ (‬وصفي‮) ‬للقضاء‮. ‬وإلا فما معني توافر جل الشروط في ابنه وتوصد أبواب الشرطة في وجهه‮.. ‬يقول في نفسه
‮- ‬عسي أن تكرهوا شيئاً‮ ‬وهو خير لكم‮.‬
4
المأمور ذاك الجبل وعر الصعود،‮ ‬يلين جانبه بعض الأحايين لمن حوله‮.. ‬والأدهش ل(خديوي‮) ‬أنه يدمع كأي إنسان ؛ كان في حضرته حينما أُخبر بمقتل ابن أخيه الضابط في فخ مزروع‮.. ‬عوي المأمور كذئب جريح‮.. ‬سالت دموعه‮.. ‬جذب‮ (‬خديوي‮) ‬منديله القماش وأعطاه إياه‮.. ‬خلسة منه تحسس منديله ألفاه نديًا رطبًا من عبراته‮.‬
المأمور ؛ ذاك المتجهم يليق به المزاح،‮ ‬غير أنه مزاح فاحش‮.. ‬يُفصح ولا يكني‮.. ‬ينادي من يصادفه بابن‮............ ‬وابن‮......... ‬ويضحكون‮.. ‬يُطربهم سبابه‮.. ‬يُطبلون للُُطفه ويهللون لتواضعه ومحاسن شمائله‮.‬
‮(‬خديوي‮) ‬يتقي دعابته لئلا تُقذف أمه المحصنة‮.‬
لكن يحمد له رحمة فاضت منه يومًا ؛ حينما شق علي المأمور ما بدا علي المواطن‮ ( ‬صابر عبد الكريم‮ ) ‬الذي خرج من المركز إلي النجوع يسابق الريح في دروبها ؛ ويختلي بنساء الجن ؛ ويحدث اليمام ؛ ويرطن بلغات النمل والطيور‮.. ‬ظن أن اللوثة التي أطاحت بعقله بسببه وبسبب ما فعله‮ ( ‬أبو الرجال‮ ) ‬به‮. ‬أخرج حفنة من الجنيهات الورقية وقال ل‮ (‬خديوي‮) ‬وهو يتنهد بأسي وشعور بالذنب‮ - ‬سلمهم لأولاده ؛‮ ‬غفر الله لنا‮.‬
وثمة شواهد متناثرة تُجلي ل(خديوي‮) ‬باطنه الطيب لدرجة أنه في بعض الأوقات يرتبك في تقييمه ؛ نسمة ندية،‮ ‬أم ريح عتية ؛ فمأموره المهووس بفنون الآلام الذي يُعلِق ويُكربِج ويسحل ويكهرب ويقضم الآذان ويجدع الأنوف ويأمر المعربدين واللصوص بمضاجعة نساء المعتقلين أمام أزواجهن،‮ ‬هو نفسه ذاك المفترش سجادة الصلاة والتالي بصوت عذب‮ ( ‬وَنَضَعُ‮ ‬الْمَوَازِينَ‮ ‬الْقِسْطَ‮ ‬لِيَوْمِ‮ ‬الْقِيَامَةِ‮ ‬فلا تُظْلَمُ‮ ‬نَفْسٌ‮ ‬شَيْئًا وَإِنْ‮ ‬كَانَ‮ ‬مِثْقَالَ‮ ‬حَبَّةٍ‮ ‬من خَرْدَلٍ‮ ‬أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَي بِنَا حَاسِبِينَ‮ ) ‬من سورة الأنبياء بالقرآن الكريم‮.‬
ومن تلك المشاهدات المرئية رأي العين والتي كان طرفًا فيها ؛ واقعة‮ ( ‬جابر الغلبان‮ ) ‬؛ جاءت إشارة إلي المركز بالتحفظ علي جاموسة‮ (‬الغلبان‮) ‬لقاء ضريبة قيراط لم تُسدد للدولة ؛ في توه أرسله إليه‮:‬
قل له يخفي جاموسته بعيدًا عن بيته‮.‬
‮ ‬وهمس في أذن خديوي‮: ‬
‮- ‬قل له في مكان آمن لا يعرفه أحد سواه‮. ‬
هم‮ (‬خديوي‮) ‬بالانصراف فاستوقفه صوت المأمور الناهر‮:‬
‮- ‬نبهه أنني بنفسي قادم إليه لأفتش عنها‮.‬
ما حدث ل‮ ( ‬الغلبان‮) ‬هيج مشاعر(خديوي‮) ‬ضد المأمور الذي طفق يضربه بحزامه ويركله بحذائه‮:‬
‮- ‬أين الجاموسة يا عجل؟
حملق الرجل فيه ببله وريالته قد بللت صدر جلبابه ونفذت إلي جلده‮.. ‬تلعثم
‮- ‬أنننننت‮.... ‬أننت‮ ‬
يقاطعه المأمور وقد زاده لكمًا‮:‬
‮- ‬أنا؟ أنا ماذا ؛ يخرب بيتك ستفضحني‮.‬
‮ ‬
‮- ‬تُرسل إليه ليخفيها ثم تُهينه؟‮!‬
لكم أراد‮ (‬خديوي‮) ‬إلقاء عليه ذاك السؤال‮.. ‬لسانه الكليل أمامه لا يهاوده‮.. ‬فطن المأمور لما به‮.. ‬بدت في عينيه نظرة حانية‮.. ‬اقترب منه‮.. ‬ابتسم بود صاف لم ير مثيلاً‮ ‬له‮.. ‬ربت علي كتفه‮.. ‬
تجلت في صوته نبرة حزن ضُفرت بثقة‮.. ‬قال بطمأنينة وراحة ضمير
‮- ‬ضع نفسك مكاني ستعي ما يقلق ضميرك‮.‬
ومن مشاهداته،‮ ‬إعانته لأبي حمد في أسفاره للقاهرة‮.. ‬لم يتباطأ في مد يده‮.. ‬اتصل بمعارفه الكُثُر هناك في الشمال‮.. ‬كان يمكث الليلة والليلتين في ضيافتهم‮.‬
وهل ينسي خوفه علي بيشوي لمرافقته لداوود‮.. ‬خوف دفعه لاجتلاب أبيه جرجس وتهديده‮. ‬
‮ ‬
قلبان في جوف المأمور ؛ لكم يحيره ذاك التضاد‮. ‬
5
تفصل بين قراريطه التي يملكها وحيازة‮ ( ‬أبي حمد‮ ) ‬مسيرة دقيقة وحيدة بلا ركوبة‮.. ‬الحيازتان تلتصقان بالطريق الذي يورد إلي حافة نهر النيل‮.. ‬متقاربتان‮.. ‬العرض،‮ ‬دقيق لا يزيد عن نصف قصبة‮.. ‬الطول،‮ ‬مديد كأنهما ينتهيان في الطرف الآخر من العالم‮.. ‬استقام فيهما من رأس الأرض حتي ذيلها صف من النخيل المشذب بدقة متناهية‮.. ‬يتدلي جريده علي الجانبين‮ ‬غليظًا،‮ ‬نضر السعف‮.. ‬تسيح ظلاله فتتخطي حدود الجيران‮.. ‬لم يتبرموا لحبسها أشعة الشمس عن محاصيلهم‮.. ‬يتفهمون ضيق قراريطهما‮. ‬
الزمام كله يُسقي من مجري يحمل الماء في بطنه علي مهل‮.. ‬الري بالتناوب‮.. ‬سُقيا نُخيلات‮ ( ‬خديوي‮ ) ‬تلي‮ ( ‬أبا حمد‮ ).. ‬قد تأتي نوبته مساءًاً‮ ‬أو فجرًاً‮.. ‬قد تكون ظهرًاً‮ ‬أثناء وجوده في مركز الشرطة‮.. ‬لانشغاله يُقدم ويؤخر في نوبته لتُلائم وقت فراغه‮. ‬
يتخلي عن نوبته ولا ينصرف مبكرًاً‮ ‬من المركز‮.. ‬نخيلاته تكويها الشمس الحارقة‮.. ‬تلهث من العطش‮.. ‬لا يحن لحفيفها‮.‬
‮ ( ‬أبو حمد‮) ‬يدرك طباعُه تلك مليّا‮.. ‬يألم لجفاف ذوائب الجريد‮.. ‬يخلع جلبابه والصديري والعمامة‮.. ‬يهبط في المجري‮.. ‬المياه الباردة تغمر ركبتيه‮.. ‬ليسحب لفافة الليف المحشورة في فوهة الماسورة يغمس كامل رأسه في الماء‮.. ‬ينفلت الماء فيُطبِبْ‮ ‬الجروح الغائرة في وجه الأرض ويُقيم انحناء الجريد الشائخ قبل أوانه‮.. ‬خديوي لا يشكره والآخر لا ينتظر امتنانه‮.. ‬في عرفهما الحاضر قائم مقام الغائب‮.. ‬الحاضر ذات الغائب‮.‬
قالها لأحد الحاضرين حين أفصح عن اندهاشه‮:‬
‮- ‬هل أشكر روحي؟‮!!‬
ما بينهما قديم قِدم سلاح الخرطوش الذي يلازمه منذ نزوحه للجنوب‮.. ‬جاء‮ ‬غريبًا من الشمال يحمل معه إرثه‮.. ‬طباع وتقاليد بدت‮ ‬غريبة لأهل الجنوب ؛ فيأكل الباذنجان نياً‮ ‬،‮ ‬ويألف الحديث مع نساء الأغراب‮ ‬،‮ ‬ويسمي الأشياء بغير ما عُرفت به‮ ‬،‮ ‬ويقلب نطق الحروف‮ ‬،‮ ‬فالقاف همزة‮ ‬،‮ ‬والجيم قافًا‮ ‬،‮ ‬ولا يخبر الزراعة‮ .. ‬سوي أنه أسمر خشن الشعر كأنه نبت في ثراهم‮ .‬
احتوي‮ ( ‬أبو حمد‮ ) ‬اغترابه‮ .. ‬قاسمه تأسيس مأواه الجديد‮ .. ‬أعانه علي شراء قراريط بور‮ .. ‬أهداه فسائل النخل السكوتي الابريمي والبركاوي‮ ‬،‮ ‬البرتمودا‮ ‬،‮ ‬الملاكابي‮ ‬،‮ ‬الجنديلة‮ ‬،‮ ‬الجرجودة‮ ‬،‮ ‬الشامية‮ .. ‬علمه كيف يغرسها‮ .. ‬زوده ببعض إرشادات الجنوبيين ؛ قال له
‮ - ‬النخلة مثلي ومثلك‮ .. ‬تصاب بالغم والكرب‮ .. ‬تعشق الجماعة
‮ ‬و الونس‮ .‬
قال له
‮ - ‬بانتقالها لتربة أخري تتغير صفاتها‮ .‬
قال له‮ ‬
‮ - ‬اجعل بجانبها ذكرًا في مواجهة الريح يقيها لفح السموم‮ ‬
‮ ‬ويعزز أنوثتها‮ .‬
وقع أسيرًا في‮ ‬غرام الجنوب‮ .. ‬توالت الفرص ليعود إلي الشمال‮ .. ‬يأبي‮ .. ‬زوجه رفضت الإقامة في الجنوب قبلت علي مضض أسابيع ثلاثة كل عام في عطلة المدرسة‮ .. ‬كانت تُسوف في السفر حتي ينزوي هجير الصيف‮ . ‬
‮(‬خديوي‮ ) ‬أحب‮ (‬حمد‮) .. ‬أنزله في قلبه بجوار‮ (‬وصفي‮ ) .. ‬قريب منهما يتربع‮ ( ‬بيشوي‮ ) .. ‬يطرقان بابه منذ أن كانا قدر عقلتي الأصبع بلا لباس يواري سوءاتهما اللتين‮ ‬غير مختونتين‮ .. ‬يضحك فيما كفوفهما مبسوطة وممدودة إليه‮ .. ‬إلحاحهما من مغشيات السرور إلي قلبه لا سيما إبداعهم اللفظي الخاص بهما‮ .. ‬يحاكيهم‮ ‬
‮ - ‬أَمْي بوني‮ .. ‬بوني‮ .. ‬بوني أَمْي‮ . (‬عمي بنبوني‮ ) ‬
كيس‮ ( ‬البنبوني‮ ) ‬الشفاف معلق بالمشجب خلف الباب‮ .. ‬يكبش ويفرغ‮ ‬في أيديهم حتي تفيض وتتناثر حبات‮ (‬البنبوني‮) .‬
بين يديه استقام عودهما‮ .. ‬اعرضْ‮ ‬منكبيهما‮.. ‬تشكلت أمام ناظريه أمارات النضوج‮ .. ‬سرت فيهما فتوة الشباب تنبش في عذابات الأمس والغد‮ .‬
يئن لحالهما‮.. ‬لم تَسِعْ‮ ‬أمهم الرءوم أحلامهما‮.. ‬سافر
‮ ( ‬حمد‮ ) ‬فآب ظله‮.. ‬اقتفي‮ ( ‬بيشوي‮ ) ‬أثرًاً‮ ‬لخلاصه فحمل بين جوانحه روح‮ (‬داوود‮).. ‬سلكا صراطين لا يلتقيان‮.. ‬يتعجب لأمرهما‮.. ‬تكويه الحسرة‮.. ‬يردد في نفسه‮:‬
‮ - ‬هل يعقل أن تنشطر الروح لروحين ؟‮! ‬والواحد لاثنين ؟‮! ‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.