الأوقاف: 14 ألف متسابق يتنافسون على المراكز النهائية في برنامج دولة التلاوة    وزيرة خارجية أستراليا ترحب بإلغاء الرسوم الجمركية الأمريكية على لحوم البقر    أمين اتحاد الغرف التجارية: الوفرة والمنافسة تدفعان لاستقرار الأسعار.. وتوقعات بالانخفاض    سفير مصر بروما: نفاد أكثر من 60 ألف تذكرة لمعرض كنوز الفراعنة بالقصر الرئاسي الإيطالي    وزير الاستثمار: نستهدف مضاعفة صادرات الملابس المصرية 3 مرات بحلول 2030    أسعار الدواجن والبيض في الأسواق اليوم الأحد 16 نوفمبر 2025    فيلم شكوى 713317 معالجة درامية هادئة حول تعقيدات العلاقات الإنسانية    هاشتاجات تغيّر الخرائط.. وسياسات تتنفس إلكترونيا    حبس المتهم بسرقة المتاجر في النزهة    رئيس قصور الثقافة يتابع حالة طلاب أسوان المصابين في حادث طريق إسنا    رئيس هيئة قصور الثقافة يزور الطلاب المصابين في حادث طريق إسنا بمستشفى طيبة (صور)    وزير الصحة ينفي شائعات نقص الأنسولين: لدينا 3 مصانع واحتياطي استراتيجي يكفي 4 أشهر    غرق 4 وفقد آخرين في انقلاب قاربين يقلان مهاجرين غير شرعيين قبالة سواحل ليبيا    كمال درويش يروي قصة مؤثرة عن محمد صبري قبل رحيله بساعات    حامد حمدان يفضل الأهلي على الزمالك والراتب يحسم وجهته    وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية تستضيف وفدًا من قيادات مجموعة ستاندرد بنك    رئيس قناة السويس: ارتفاع العائدات 20%.. وتوقعات بقفزة 50% في 2026    آدم صبري: "والدي قالي قبل الوفاة خلي بالك من إخواتك أنا مش هفضل عايش"    طقس خريفي مستقر وتحذيرات من الشبورة الكثيفة صباحًا.. الأرصاد تعلن تفاصيل حالة الجو الأحد 16 نوفمبر 2025    خالد عبد الغفار: مصر تحقق نجاحات كبيرة جدًا على المستوى الدولي    وزير الصحة: متوسط عمر المصريين زاد 20 عاما منذ الستينيات.. وكل دولار ننفقه على الوقاية يوفر من 3 ل 7 دولارات    دعاية يتبناها الأذرع: "أوبزرفر" و"بي بي سي" و"فورين بوليسي" نماذج لإعلام "إخواني" يهاجم تدخل الإمارات في السودان!    الاحتلال الإسرائيلي يحدد موعد لمحاكمة إمام الأقصى بتهمة التحريض على الإرهاب    البنك الأهلي المصري يقود تحالفاً مصرفياً لتمويل «مشارق للاستثمار العقاري» بمليار جنيه    الداخلية تضبط المتهمين بسرقة أبواب حديدية بإحدى المقابر بالشرقية    القبض على أبطال فيديو الاعتداء على شاب ب"الشوم" في المنيا    أسفرت عن إصابة 4 أشخاص.. حبس طرفي مشاجرة في كرداسة    بدون إصابات.. السيطرة على حريق في برج سكني بفيصل    قائمة أكبر المتاجر المشاركة في البلاك فرايداي وأسعار لا تُفوَّت    أهلي جدة يبدأ خطوات الحفاظ على ميندي وتجديد العقد    فيران توريس بعد دخوله نادي العظماء: الطموح لا يتوقف مع الماتادور    ليفربول يحسم موقفه النهائي من بيع سوبوسلاي    آسر محمد صبري: والدي جعلني أعشق الزمالك.. وشيكابالا مثلي الأعلى    تريزيجيه: الأهلي سألني عن بنشرقي.. وهذا ما دار بيني وبين زيزو قبل مواجهة الزمالك    المستشار ضياء الغمرى يحتفل بحفل زفاف نجله محمد علي الدكتورة ندى    العرض العربي الأول لفيلم "كان ياما كان في غزة" فى مهرجان القاهرة السينمائي الدولي    "ضد الإبادة".. ظهور حمدان والنبريص والدباغ في خسارة فلسطين أمام الباسك    إيران تحذر من تداعيات التحركات العسكرية الأمريكية في منطقة الكاريبي    الدفاع الروسية: إسقاط 36 طائرة مسيرة أوكرانية فوق عدة مناطق    رئيس الوزراء المجرى: على أوروبا أن تقترح نظاما أمنيا جديدا على روسيا    فوري تعلن نتائج مالية قياسية للأشهر التسعة الأولى من 2025    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. إسرائيل: لا إعادة إعمار لقطاع غزة قبل نزع سلاح حماس.. قتلى وجرحى فى انزلاق أرضى فى جاوة الوسطى بإندونيسيا.. الجيش السودانى يسيطر على منطقتين فى شمال كردفان    تساقط أمطار خفيفة وانتشار السحب المنخفضة بمنطقة كرموز في الإسكندرية    اختتام المؤتمر العالمي للسكان.. وزير الصحة يعلن التوصيات ويحدد موعد النسخة الرابعة    هل تشفي سورة الفاتحة من الأمراض؟.. داعية توضح| فيديو    مؤتمر السكان والتنمية.. وزير الصحة يشهد إطلاق الأدلة الإرشادية لمنظومة الترصد المبني على الحدث    مؤتمر جماهيري حاشد ل"الجبهة الوطنية " غدا بستاد القاهرة لدعم مرشحيه بانتخابات النواب    (كن جميلًا ترَ الوجودَ جميلًا) موضوع خطبة الجمعة المقبلة    حبس والدى طفلة الإشارة بالإسماعيلية 4 أيام على ذمة التحقيقات    جامعة قناة السويس تنظم ندوة حوارية بعنوان «مائة عام من الحرب إلى السلام»    دعت لضرورة تنوع مصادر التمويل، دراسة تكشف تكاليف تشغيل الجامعات التكنولوجية    أسماء مرشحي القائمة الوطنية لانتخابات النواب عن قطاع القاهرة وجنوب ووسط الدلتا    فرص عمل جديدة بالأردن برواتب تصل إلى 500 دينار عبر وزارة العمل    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    الإفتاء: لا يجوز العدول عن الوعد بالبيع    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خديوي


1
‮- ‬أنت يا قطران‮.‬
إنه صوت المأمور‮.. ‬يثب‮ ( ‬خديوي‮ ) ‬كمن لسعته عقرب‮.. ‬يغمغم
‮- ‬قطران قطران ؛ متي يُرقي هذا القطران لرتبة فحم‮.‬
يهرول إليه ويداه تضغطان علي‮ ( ‬الكاب‮ ) ‬فوق رأسه‮.‬
يتعاقب عليه المأمورون‮.. ‬ثلاثون عامًا يطئون كرامته‮.. ‬يجئ أحدهم ويذهب دون معرفة اسمه الحقيقي‮ ( ‬خديوي السيد طنّاب‮ ).. ‬يكتفون ب‮ ( ‬قطران‮ ). ‬غير واحد انتبه لاسمه‮ ‬
‮- ‬اسمك قطران؟‮!‬
اعتدل‮ (‬خديوي‮) ‬في وقفته وانتصب كأعواد القصب التي يرعاها في قراريطه لا عوج فيها ولا أمت‮. ‬
‮- ‬لا يا بك ؛ اسمي خديوي‮. ‬
تأمله مليا‮.. ‬قصير‮.. ‬جانبه الأيمن يكاد يلامس جانبه الأيسر‮.. ‬لون بشرته طميي لوحته الشمس‮.. ‬عيناه فاحمتا السواد‮.. ‬مد يده وربت علي بطنه الملتصقة بظهره‮.. ‬كبح قهقهة جامحة‮.. ‬تفلّتت‮ ( ‬الهأهأة‮ ) ‬رغمًا عنه‮. ‬
‮- ‬هأ‮.. ‬هأ
مسح عينيه بكم بزته الميري وأردف
‮- ‬أين كرش الخديوي؟ هأ‮.. ‬ليس لك نصيب من‮ ‬
‮ ‬اسمك يا خديوي‮... ‬هأ هأ
‮ ‬
غالبًا يقضي جل نهاره يذرع النجوع والدروب‮.. ‬يُسلم هذا استدعاءً‮ ‬وذاك إنذارًا بالحجز‮.. ‬يستوقفه المواطنون لقضاء حاجاتهم‮.. ‬دبر يومه الحافل تغتال آلام الغضروف والركبة سكينته‮.. ‬يختتم طوافه بالمركز ليوقع في دفتر الحضور والانصراف‮.. ‬خلف مكتب الحديد المتهالك يتساقط علي المقعد ذي الثلاثة أرجل،‮ ‬المسند علي الحائط‮.. ‬يلقي برأسه علي المكتب الذي يئن أنينًا خافتًا يسمعه من حوله‮.‬
بلا اكتراث يحدثه أحدهم وقد تزحلقت النظارة الطبية حتي أرنبة أنفه‮.. ‬كان يقلب صفحات جريدة ويقرأ العناوين الكبيرة من فوق النظارة بملل‮.. ‬توشي نبرات صوته بأمر دفين في صدره‮ ‬
‮- ‬تجهد نفسك بلا داع‮!! ‬وقِعْ‮ ‬في الصباح حضورك‮ ‬
‮ ‬وانصرافك،‮ ‬وأرح نفسك من المجئ والذهاب‮. ‬
ويُكمِل آخر يجلس بفيه الباب ساخرًا
‮- ‬المكتب يستغيث منك يا عم قطران‮.‬
حتي هؤلاء الزملاء وأدوا اسمه‮ ( ‬خديوي السيد طنّاب‮ ).‬
ما يغيظه بحق و يكاد‮ ( ‬يفقع مرارته‮ ) ‬موظف الخزينة ؛ فخديوي السيد طنّاب مكتوب أمام عينيه في كشوف صرف الرواتب لكنه يستظرف وينادي عليه بصوته المبحوح‮ ( ‬تعال وقع يا قطقط‮ ).. ‬يسايره البعض في تهكمه،‮ ‬فيظهرون له إعجابهم بحلاوة روحه لأجل أن يستثنيهم من العملات الورقية المتهالكة‮.‬
يؤثر المهادنة‮.. ‬لم يُظِهر لأحد امتعاضه فألفوا نبزه‮.. ‬تكرارًا يلوم إرادته المسفوحة‮. ‬
2
رغم عدم رغبته لرؤية ذوي النجوم والنسور والسيوف النحاسية الوهاجة التي تزيغ‮ ‬الأبصار أو الوقوف في حضرتهم إلا أنه بعض الأحايين يتمني مشاهدتهم والتطيب بمخالطتهم‮.‬
يجد في تلك المشاهدة تسرية لنفسه الموؤدة تحت بزة الميري والفاقة والعوز ؛ بل يذهب لأكثر من التمني إذ كان يتحايل لرؤية المأمور أمام مدير أمن المحافظة أو المدير ذاته تجاه المحافظ‮.‬
يبتهج في قرارة نفسه حينما يري المأمور يتهته في الكلام وهو يقول مثله تمامًا‮ ( ‬أمرك يا فندم‮ ).. ‬يهتز سعادة لارتجافه وعرقه المتصبب من أنحاء جسده‮.. ‬تمور بجوفه ضحكة لا تشفي‮ ‬غليلة‮.. ‬يقول في نفسه‮:‬
‮- ‬أين لسانك المكربج؟ أين سطوتك؟ الآن كما القطة تنونو بمَسْكنه‮.. ‬تنونو كما ينونو قطران‮. ‬ ‮ ‬
حين تطفو البشاشة علي وجهه ويشع الرضا من عينيه المجحورتين،‮ ‬يتقهقر لينسلت من بينهم‮.. ‬تلومه نفسه‮ ‬
‮- ‬ما الفائدة من الشماتة يا خديوي؟‮!.‬
‮ ‬
بداية الأمر كان يخال إليه أنهم من طينة أخري ؛ الخوف لا يألفهم،‮ ‬وأمثالهم لا يجيدون التسكع في طُرقات المهادنة‮.. ‬فهل يعقل أن المأمور ؛ المأمووووووووور،‮ ‬بقده الممشوق وبياضه الناصع وطراوة كف يده،‮ ‬و الذي إذا مر بنجع علقت رائحة‮ ( ‬برفانه‮ ) ‬بحوائطه الطينية ثلاثة أيام متتالية،‮ ‬و الذي إذا أراد أن يذب عن أنفه ذبابة استدعي مجندًا‮ ‬ليريحه من عناء ذبها ؛ هل يتسول رضا الأكابر،‮ ‬مثله مثل‮ ‬
‮( ‬جابر الغلبان)؟‮ ‬
كان‮ ( ‬خديوي‮ ) ‬وقتئذ في مكتب المأمور يستند إلي فاترينة زجاج خلف ظهره،‮ ‬بينما الأخير يمسك بالهاتف بشغف،‮ ‬نبرة‮ ‬صوته تتهادي عذبه نديه،‮ ‬كأنه المطرب الجنوبي‮ ‬
‮( ‬رشاد عبدالعال‮ ) ‬وهو يدندن بأغنيته‮ ( ‬ظالم وبتندم‮ ) ‬
‮- ‬يا باشا‮...... ‬يا افندم‮..... ‬يا بك‮......‬
يتطلع إليه‮ ( ‬خديوي‮ ) ‬بحذر‮.. ‬شاهد ضعفه الذي لا يبديه لأحد‮.. ‬وَدَّ‮ ‬في تلك الساعة لو انصرف أو صار مثل تلك الهرة المدللة التي تتمسح في ساقي المأمور لا تعي ما يقال أمامها‮.. ‬لكن قد يعاقبه لانصرافه‮.. ‬انتظر قليلاً‮ ‬مطأطأ الرأس‮.. ‬بصره مثبت علي حذائه المفتوق في جانبيه‮.‬
وضع المأمور السماعة ثم سحب نفساً‮ ‬عميقاً‮.. ‬انتبه لوجود‮ ( ‬خديوي‮).. ‬آبت إليه عنتريته
‮- ‬منذ متي وأنت‮..........‬
تحجر في مكانه ولم ينبس ببنت شفة سوي رفع يده حذو رأسه وقدمه اليسري قبالة ركبته اليمني ثم دفعها نحو الأرض محدثًا دبة أثارت الغبار اللابد في وبر السجادة المهلهلة‮.‬
3
يَكِنُّ‮ ‬له الناس مودة وارفة‮.. ‬يعتاض بها عن ضن الحياة‮.. ‬لنزول راكبهم ونهوض جالسهم لأجل مصافحته أو الاطمئنان علي أحواله لها عنده اعتبارات ممتنة يُسرها بين جوانحه‮.. ‬بطول النجع وتشعباته حتي منزله لا يكِل لسانه عن رد التحيات والابتسامات‮.. ‬ما زال يقول ل‮( ‬وصفي‮):‬
‮- ‬يا ولدي محبة الناس لا تباع ولا تشتري‮. ‬
لكم استبشروا حينما تقدم ابنه بطلب للالتحاق بكلية الشرطة‮.. ‬
ولكم تألموا لرفض قبوله‮.. ‬فاق حزن‮ ( ‬خديوي‮ ) ‬ذاته الذي في لحظة ما جال بخاطره أن يؤدي التحية العسكرية لابنه‮.‬
فور ظهور نتيجة الثانوية العامة أرغمه علي التقدم لكلية الشرطة‮.. ‬خُيل إليه أن الرؤوس قد تساوت‮.. ‬كان يسمعهم ينادونه ب‮( ‬وصفي بك خديوي‮ ).. ‬لا يُعِد النداء حلمًا من أحلام اليقظة‮.. ‬يجزم لمن حوله أنه يسمع هاتفًا ما يُلحق صفة البكوية بابنه لكنه لا يراه‮.. ‬يوقن بأن منكبيه المزدانين بالنجوم والنسور سيُنسيان السادة الزملاء‮ ( ‬قطران‮ ) ‬وما قطرنه‮.‬
‮ ‬لا يدري المانع الذي عرقل التحاق‮ (‬وصفي‮ ) ‬بكلية الشرطة‮.. ( ‬وصفي‮ ) ‬حباه الله طولاً‮ ‬وعرضًا‮.. ‬اجتمعت في جسده قوة رجال ثلاثة‮.. ‬ذوو النفوذ كفلوه بشفاعتهم‮.. ‬العم‮ (‬جرجس‮) ‬كتب عدة أفدنة زراعية لا يبلغ‮ ‬البصر أطرافها باسم‮ ( ‬خديوي‮) ‬لزوم تكملة الأوراق‮.‬
ماذا ينقصه؟‮.. ‬كان يجزم‮ (‬خديوي‮) ‬بأن نبزه المشئوم‮ (‬قطران‮) ‬سبباً‮ ‬فيما يجري ل‮ (‬وصفي‮) ‬؛ فكيف لابن‮ (‬القطران‮) ‬بحذائه المقدود وثيابه المتواضعة وبشرته السمراء يكون ضابطاً‮ ‬بين أبناء الأعالي‮.. ‬فهل تلد الأَمَة ربَتَها؟‮ ‬
نُصح بإلحاقه كلية الحقوق‮.. ‬قد تكون ثمة ساعة رضا تصاحبه،‮ ‬فيصبح وكيلاً‮ ‬للنائب العام‮.. ‬حينها راح يضرب أخماسًا في أسداس ؛ كيف‮ ‬غابت عنه تلك الفكرة من بداية الأمر‮.. ‬نشُط من عقال الاكتئاب‮.. ‬طفق يُمني ولده‮.. ‬يُرغبه في حياة القضاة الأُبَّهة‮.. ‬التبجيل الذي ينتزعوه من العامة‮.. ‬كان دائمًا يردد علي مسامعه
‮- ‬حتي مأمور المركز بجلالته وشيبته يهاب شابًا يماثل عُمر أولاده‮.‬
كثيرًا ما حمد الله ؛ فلولا عناية الله بهما لقُبل في الشرطة‮.. ‬كان يعتريه شعور بأن الكريم نسأ‮ (‬وصفي‮) ‬للقضاء‮. ‬وإلا فما معني توافر جل الشروط في ابنه وتوصد أبواب الشرطة في وجهه‮.. ‬يقول في نفسه
‮- ‬عسي أن تكرهوا شيئاً‮ ‬وهو خير لكم‮.‬
4
المأمور ذاك الجبل وعر الصعود،‮ ‬يلين جانبه بعض الأحايين لمن حوله‮.. ‬والأدهش ل(خديوي‮) ‬أنه يدمع كأي إنسان ؛ كان في حضرته حينما أُخبر بمقتل ابن أخيه الضابط في فخ مزروع‮.. ‬عوي المأمور كذئب جريح‮.. ‬سالت دموعه‮.. ‬جذب‮ (‬خديوي‮) ‬منديله القماش وأعطاه إياه‮.. ‬خلسة منه تحسس منديله ألفاه نديًا رطبًا من عبراته‮.‬
المأمور ؛ ذاك المتجهم يليق به المزاح،‮ ‬غير أنه مزاح فاحش‮.. ‬يُفصح ولا يكني‮.. ‬ينادي من يصادفه بابن‮............ ‬وابن‮......... ‬ويضحكون‮.. ‬يُطربهم سبابه‮.. ‬يُطبلون للُُطفه ويهللون لتواضعه ومحاسن شمائله‮.‬
‮(‬خديوي‮) ‬يتقي دعابته لئلا تُقذف أمه المحصنة‮.‬
لكن يحمد له رحمة فاضت منه يومًا ؛ حينما شق علي المأمور ما بدا علي المواطن‮ ( ‬صابر عبد الكريم‮ ) ‬الذي خرج من المركز إلي النجوع يسابق الريح في دروبها ؛ ويختلي بنساء الجن ؛ ويحدث اليمام ؛ ويرطن بلغات النمل والطيور‮.. ‬ظن أن اللوثة التي أطاحت بعقله بسببه وبسبب ما فعله‮ ( ‬أبو الرجال‮ ) ‬به‮. ‬أخرج حفنة من الجنيهات الورقية وقال ل‮ (‬خديوي‮) ‬وهو يتنهد بأسي وشعور بالذنب‮ - ‬سلمهم لأولاده ؛‮ ‬غفر الله لنا‮.‬
وثمة شواهد متناثرة تُجلي ل(خديوي‮) ‬باطنه الطيب لدرجة أنه في بعض الأوقات يرتبك في تقييمه ؛ نسمة ندية،‮ ‬أم ريح عتية ؛ فمأموره المهووس بفنون الآلام الذي يُعلِق ويُكربِج ويسحل ويكهرب ويقضم الآذان ويجدع الأنوف ويأمر المعربدين واللصوص بمضاجعة نساء المعتقلين أمام أزواجهن،‮ ‬هو نفسه ذاك المفترش سجادة الصلاة والتالي بصوت عذب‮ ( ‬وَنَضَعُ‮ ‬الْمَوَازِينَ‮ ‬الْقِسْطَ‮ ‬لِيَوْمِ‮ ‬الْقِيَامَةِ‮ ‬فلا تُظْلَمُ‮ ‬نَفْسٌ‮ ‬شَيْئًا وَإِنْ‮ ‬كَانَ‮ ‬مِثْقَالَ‮ ‬حَبَّةٍ‮ ‬من خَرْدَلٍ‮ ‬أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَي بِنَا حَاسِبِينَ‮ ) ‬من سورة الأنبياء بالقرآن الكريم‮.‬
ومن تلك المشاهدات المرئية رأي العين والتي كان طرفًا فيها ؛ واقعة‮ ( ‬جابر الغلبان‮ ) ‬؛ جاءت إشارة إلي المركز بالتحفظ علي جاموسة‮ (‬الغلبان‮) ‬لقاء ضريبة قيراط لم تُسدد للدولة ؛ في توه أرسله إليه‮:‬
قل له يخفي جاموسته بعيدًا عن بيته‮.‬
‮ ‬وهمس في أذن خديوي‮: ‬
‮- ‬قل له في مكان آمن لا يعرفه أحد سواه‮. ‬
هم‮ (‬خديوي‮) ‬بالانصراف فاستوقفه صوت المأمور الناهر‮:‬
‮- ‬نبهه أنني بنفسي قادم إليه لأفتش عنها‮.‬
ما حدث ل‮ ( ‬الغلبان‮) ‬هيج مشاعر(خديوي‮) ‬ضد المأمور الذي طفق يضربه بحزامه ويركله بحذائه‮:‬
‮- ‬أين الجاموسة يا عجل؟
حملق الرجل فيه ببله وريالته قد بللت صدر جلبابه ونفذت إلي جلده‮.. ‬تلعثم
‮- ‬أنننننت‮.... ‬أننت‮ ‬
يقاطعه المأمور وقد زاده لكمًا‮:‬
‮- ‬أنا؟ أنا ماذا ؛ يخرب بيتك ستفضحني‮.‬
‮ ‬
‮- ‬تُرسل إليه ليخفيها ثم تُهينه؟‮!‬
لكم أراد‮ (‬خديوي‮) ‬إلقاء عليه ذاك السؤال‮.. ‬لسانه الكليل أمامه لا يهاوده‮.. ‬فطن المأمور لما به‮.. ‬بدت في عينيه نظرة حانية‮.. ‬اقترب منه‮.. ‬ابتسم بود صاف لم ير مثيلاً‮ ‬له‮.. ‬ربت علي كتفه‮.. ‬
تجلت في صوته نبرة حزن ضُفرت بثقة‮.. ‬قال بطمأنينة وراحة ضمير
‮- ‬ضع نفسك مكاني ستعي ما يقلق ضميرك‮.‬
ومن مشاهداته،‮ ‬إعانته لأبي حمد في أسفاره للقاهرة‮.. ‬لم يتباطأ في مد يده‮.. ‬اتصل بمعارفه الكُثُر هناك في الشمال‮.. ‬كان يمكث الليلة والليلتين في ضيافتهم‮.‬
وهل ينسي خوفه علي بيشوي لمرافقته لداوود‮.. ‬خوف دفعه لاجتلاب أبيه جرجس وتهديده‮. ‬
‮ ‬
قلبان في جوف المأمور ؛ لكم يحيره ذاك التضاد‮. ‬
5
تفصل بين قراريطه التي يملكها وحيازة‮ ( ‬أبي حمد‮ ) ‬مسيرة دقيقة وحيدة بلا ركوبة‮.. ‬الحيازتان تلتصقان بالطريق الذي يورد إلي حافة نهر النيل‮.. ‬متقاربتان‮.. ‬العرض،‮ ‬دقيق لا يزيد عن نصف قصبة‮.. ‬الطول،‮ ‬مديد كأنهما ينتهيان في الطرف الآخر من العالم‮.. ‬استقام فيهما من رأس الأرض حتي ذيلها صف من النخيل المشذب بدقة متناهية‮.. ‬يتدلي جريده علي الجانبين‮ ‬غليظًا،‮ ‬نضر السعف‮.. ‬تسيح ظلاله فتتخطي حدود الجيران‮.. ‬لم يتبرموا لحبسها أشعة الشمس عن محاصيلهم‮.. ‬يتفهمون ضيق قراريطهما‮. ‬
الزمام كله يُسقي من مجري يحمل الماء في بطنه علي مهل‮.. ‬الري بالتناوب‮.. ‬سُقيا نُخيلات‮ ( ‬خديوي‮ ) ‬تلي‮ ( ‬أبا حمد‮ ).. ‬قد تأتي نوبته مساءًاً‮ ‬أو فجرًاً‮.. ‬قد تكون ظهرًاً‮ ‬أثناء وجوده في مركز الشرطة‮.. ‬لانشغاله يُقدم ويؤخر في نوبته لتُلائم وقت فراغه‮. ‬
يتخلي عن نوبته ولا ينصرف مبكرًاً‮ ‬من المركز‮.. ‬نخيلاته تكويها الشمس الحارقة‮.. ‬تلهث من العطش‮.. ‬لا يحن لحفيفها‮.‬
‮ ( ‬أبو حمد‮) ‬يدرك طباعُه تلك مليّا‮.. ‬يألم لجفاف ذوائب الجريد‮.. ‬يخلع جلبابه والصديري والعمامة‮.. ‬يهبط في المجري‮.. ‬المياه الباردة تغمر ركبتيه‮.. ‬ليسحب لفافة الليف المحشورة في فوهة الماسورة يغمس كامل رأسه في الماء‮.. ‬ينفلت الماء فيُطبِبْ‮ ‬الجروح الغائرة في وجه الأرض ويُقيم انحناء الجريد الشائخ قبل أوانه‮.. ‬خديوي لا يشكره والآخر لا ينتظر امتنانه‮.. ‬في عرفهما الحاضر قائم مقام الغائب‮.. ‬الحاضر ذات الغائب‮.‬
قالها لأحد الحاضرين حين أفصح عن اندهاشه‮:‬
‮- ‬هل أشكر روحي؟‮!!‬
ما بينهما قديم قِدم سلاح الخرطوش الذي يلازمه منذ نزوحه للجنوب‮.. ‬جاء‮ ‬غريبًا من الشمال يحمل معه إرثه‮.. ‬طباع وتقاليد بدت‮ ‬غريبة لأهل الجنوب ؛ فيأكل الباذنجان نياً‮ ‬،‮ ‬ويألف الحديث مع نساء الأغراب‮ ‬،‮ ‬ويسمي الأشياء بغير ما عُرفت به‮ ‬،‮ ‬ويقلب نطق الحروف‮ ‬،‮ ‬فالقاف همزة‮ ‬،‮ ‬والجيم قافًا‮ ‬،‮ ‬ولا يخبر الزراعة‮ .. ‬سوي أنه أسمر خشن الشعر كأنه نبت في ثراهم‮ .‬
احتوي‮ ( ‬أبو حمد‮ ) ‬اغترابه‮ .. ‬قاسمه تأسيس مأواه الجديد‮ .. ‬أعانه علي شراء قراريط بور‮ .. ‬أهداه فسائل النخل السكوتي الابريمي والبركاوي‮ ‬،‮ ‬البرتمودا‮ ‬،‮ ‬الملاكابي‮ ‬،‮ ‬الجنديلة‮ ‬،‮ ‬الجرجودة‮ ‬،‮ ‬الشامية‮ .. ‬علمه كيف يغرسها‮ .. ‬زوده ببعض إرشادات الجنوبيين ؛ قال له
‮ - ‬النخلة مثلي ومثلك‮ .. ‬تصاب بالغم والكرب‮ .. ‬تعشق الجماعة
‮ ‬و الونس‮ .‬
قال له
‮ - ‬بانتقالها لتربة أخري تتغير صفاتها‮ .‬
قال له‮ ‬
‮ - ‬اجعل بجانبها ذكرًا في مواجهة الريح يقيها لفح السموم‮ ‬
‮ ‬ويعزز أنوثتها‮ .‬
وقع أسيرًا في‮ ‬غرام الجنوب‮ .. ‬توالت الفرص ليعود إلي الشمال‮ .. ‬يأبي‮ .. ‬زوجه رفضت الإقامة في الجنوب قبلت علي مضض أسابيع ثلاثة كل عام في عطلة المدرسة‮ .. ‬كانت تُسوف في السفر حتي ينزوي هجير الصيف‮ . ‬
‮(‬خديوي‮ ) ‬أحب‮ (‬حمد‮) .. ‬أنزله في قلبه بجوار‮ (‬وصفي‮ ) .. ‬قريب منهما يتربع‮ ( ‬بيشوي‮ ) .. ‬يطرقان بابه منذ أن كانا قدر عقلتي الأصبع بلا لباس يواري سوءاتهما اللتين‮ ‬غير مختونتين‮ .. ‬يضحك فيما كفوفهما مبسوطة وممدودة إليه‮ .. ‬إلحاحهما من مغشيات السرور إلي قلبه لا سيما إبداعهم اللفظي الخاص بهما‮ .. ‬يحاكيهم‮ ‬
‮ - ‬أَمْي بوني‮ .. ‬بوني‮ .. ‬بوني أَمْي‮ . (‬عمي بنبوني‮ ) ‬
كيس‮ ( ‬البنبوني‮ ) ‬الشفاف معلق بالمشجب خلف الباب‮ .. ‬يكبش ويفرغ‮ ‬في أيديهم حتي تفيض وتتناثر حبات‮ (‬البنبوني‮) .‬
بين يديه استقام عودهما‮ .. ‬اعرضْ‮ ‬منكبيهما‮.. ‬تشكلت أمام ناظريه أمارات النضوج‮ .. ‬سرت فيهما فتوة الشباب تنبش في عذابات الأمس والغد‮ .‬
يئن لحالهما‮.. ‬لم تَسِعْ‮ ‬أمهم الرءوم أحلامهما‮.. ‬سافر
‮ ( ‬حمد‮ ) ‬فآب ظله‮.. ‬اقتفي‮ ( ‬بيشوي‮ ) ‬أثرًاً‮ ‬لخلاصه فحمل بين جوانحه روح‮ (‬داوود‮).. ‬سلكا صراطين لا يلتقيان‮.. ‬يتعجب لأمرهما‮.. ‬تكويه الحسرة‮.. ‬يردد في نفسه‮:‬
‮ - ‬هل يعقل أن تنشطر الروح لروحين ؟‮! ‬والواحد لاثنين ؟‮! ‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.