جامعة سيناء تعلن فتح باب القبول لطلاب الثانوية العامة وما يعادلها بفرعي القنطرة والعريش    الأكاديمية العسكرية تحتفل بتخرج الدورة التدريبية الرابعة لأعضاء هيئة الرقابة الإدارية    امتحانات الثانوية العامة.. الصحة تعتمد خطة تأمين أكثر من 800 ألف طالب    الرقابة النووية: لا مؤشرات على أي تغير أو زيادة في الخلفية الإشعاعية داخل مصر    توريد 225 ألف طن قمح للشون والصوامع بكفر الشيخ    1.2 مليار دولار حصيلة بيع وشراء الدولار «الإنتربنك» بين البنوك المصرية خلال 3 أيام    إزالة حالة بناء مخالفة في المهد بشارع الشيخ مبارك شمال مدينة الأقصر    تعاون بين «إيتيدا» وجامعة العريش لبناء القدرات الرقمية لأبناء شمال سيناء    نتنياهو يعقد اجتماعا سريا للكابينيت في ملجأ تحت الأرض    إعلام عبرى: توقعات إسرائيلية بهجوم إيرانى على تل أبيب خلال ساعات    الهلال السعودي يواصل محاولاته لضم أوسيمين وسط منافسة أوروبية معقدة    بريطانيا تنفي تقديم الدعم لإسرائيل في الهجوم على إيران    بوجبا يقترب من الانضمام إلى الدوري الفرنسي    تأجيل محاكمة 3 متهمين في حادث وفاة لاعب الكاراتيه بالإسكندرية ل28 يونيو للنطق بالحكم    من اليوتيوب إلى التلفزيون.. صناع المحتوى "الأهلاوية" يخطفون الأنظار قبل مونديال الأندية    كأس العالم للأندية.. باريس الباحث عن موسم استثنائي يتحدى طموحات أتلتيكو    الزمالك يفكر في استعادة مهاجمه السابق    لتفقد المنشآت الرياضية.. وزير الشباب يزور جامعة الإسكندرية- صور    إخماد حريق التهم أشجار داخل منطقة بيانكي العجمي في الإسكندرية    رعاية استثنائية وتنظيم مشرف.. رسائل شكر لحجاج بعثة العلاقات الإنسانية    الليلة.. عرض الحلقة الأولى من مسلسل فات الميعاد على قناة dmc    إيرادات الجمعة.. "المشروع X" يحافظ على الصدارة و"سيكو سيكو" الأخير    ب"فستان جريء".. أحدث ظهور ل ميرنا جميل والجمهور يغازلها (صور)    رئيس الوزراء يتفقد مركز تنمية الأسرة والطفل بزاوية صقر    طيبة ووحيدة.. 4 أبراج طيبة جدا لكن ليس لديهم أصدقاء    «الصحة» تُصدر تحذيرات وقائية تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة واقتراب فصل الصيف    محافظ كفر الشيخ يُدشن حملة «من بدري أمان» للكشف المبكر عن الأورام    لطلاب الثانوية العامة.. نصائح لتعزيز القدرة على المذاكرة دون إرهاق    تخفيف عقوبة السجن المشدد ل متهم بالشروع في القتل ب المنيا    جامعة جنوب الوادي تشارك في الملتقى العلمي الثاني لوحدة البرامج المهنية بأسيوط    والد طفلة البحيرة: استجابة رئيس الوزراء لعلاج ابنتى أعادت لنا الحياة    إزالة 60 حالة تعد على مساحة 37 ألف م2 وتنظيم حملة لإزالة الإشغالات بأسوان    إعلام عبرى: نقل طائرة رئيس الوزراء الإسرائيلى إلى أثينا مع بدء هجوم إيران    بعد توصية ميدو.. أزمة في الزمالك بسبب طارق حامد (خاص)    فايز فرحات: مفاوضات إيران وإسرائيل تواجه أزمة والمواجهة أنهت "حروب الوكالة"    خبير اقتصادي: الدولة المصرية تتعامل بمرونة واستباقية مع أي تطورات جيوسياسية    «التعليم العالي» تنظم حفل تخرج للوافدين من المركز الثقافي المصري لتعليم اللغة العربية    السجن المؤبد ل5 متهمين بقضية داعش سوهاج وإدراجهم بقوائم الإرهاب    فضل صيام أول أيام العام الهجري الجديد    أهم أخبار الكويت اليوم السبت 14 يونيو 2025    ثقافة الإسماعيلية تنفذ أنشطة متنوعة لتعزيز الوعي البيئي وتنمية مهارات النشء    غدا.. بدء التقديم "لمسابقة الأزهر للسنة النبوية"    غدا .. انطلاق فعاليات مؤتمر التمويل التنموي لتمكين القطاع الخاص    "القومي للأشخاص ذوي الإعاقة" ومؤسسة "شجرة التوت" يطلقان فعاليات منصة "القدرة على الفن - Artability HUB"    مصرع شاب سقط من الطابق الرابع بكرداسة    باستخدام المنظار.. استئصال جذري لكلى مريض مصاب بورم خبيث في مستشفى المبرة بالمحلة    إجرام واستعلاء.. حزب النور يستنكر الهجمات الإسرائيلية على إيران    تأجيل محاكمة " أنوسة كوتة" فى قضية سيرك طنطا إلى جلسة يوم 21 من الشهر الحالي    إيران تؤكد وقوع أضرار في موقع فوردو النووي    طلب إحاطة يحذر من غش مواد البناء: تهديد لحياة المواطنين والمنشآت    " وزير الطاقة الأميركي " يراقب أي تطورات محتملة للتوترات علي إمدادات النفط العالمية    وكيل تعليم الإسماعيلية يجتمع برؤساء لجان الثانوية العامة    الطبيب الألماني يخطر أحمد حمدي بهذا الأمر    إحالة عامل بتهمة هتك عرض 3 أطفال بمدينة نصر للجنايات    الصحة: قافلة متخصصة في جراحات الجهاز الهضمي للأطفال ب«طنطا العام» بمشاركة الخبير العالمي الدكتور كريم أبوالمجد    حجاج مصر يودّعون النبي بقلوب عامرة بالدعاء.. سلامات على الحبيب ودموع أمام الروضة.. نهاية رحلة روحانية في المدينة المنورة يوثقوها بالصور.. سيلفي القبة الخضراء وساحات الحرم وحمام الحمى    «الإفتاء» توضح كيفية الطهارة عند وقوع نجاسة ولم يُعرَف موضعها؟    ما حكم أداء النافلة بين الصلاتين عند جمع التقديم؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأخبار تروي أسرار الضاحك الباكي نجيب الريحاني
ماذا قال عن مذگراته؟!
نشر في الأخبار يوم 25 - 08 - 2010

»قبل أن أسمح لنفسي بنشر مذكراتي، فكرت في الامر كثيرا، لا لشيء الا لانني خلقت صريحا، لا اخشي اللوم في الحق، ولا أميل إلي المواربة والمداراة، فهل يا تري اظل فيما أكتب متحليا بهذه الخليقة؟، أم يدفعني ما درج عليه الناس من مجاملة إلي المواجهة والتهرب.. ذلك هو موضع التفكير الذي لازمني قبل أن أخط في مذكراتي حرفا واحدا، أما وقد ارتضيت، فقد آليت علي نفسي أن أملي الواقع مهما حاقت بي مرارته، واسجل الحقائق مهما كان فيها من الم ينالني قبل ان ينال غيري ممن جمعتني بهم أية جامعة،وربطتني بهم اقل رابطة، ومضيت في مذكراتي علي هذه الوتيرة، فاذا بي أشعر في دخيلة نفسي انني اؤدي واجبا مفروضا، هو في الحقيقة تسجيل صحيح لناحية من نواحي تاريخ الفن في بلادنا العزيزة، وأصارح القراء الافاضل بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يشعر بالاقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هاديء البال.. علي أنني في مذكراتي هذه تناولت الكثيرين بما قد لا يرضيهم، ولكن احدا لا يستطيع ان يناقضني في حرف واحد مما أثبت هنا، لأنه إن حاول ان يفعل، وقفت الحقائق حائلا بينه وبين ما يريد، فهناك الزميل القديم علي يوسف مثلا... لقد شرحت الكثير مما كان بيني وبينه من مواقع حربية في ميدان الغرام والهيام، وكذلك الحال مع السيدة (ص. ق ) -الريحاني يقصد الممثلة صالحة قاصين - التي بلغ تنازعنا عليها حد شك المقالب، وتدبير الفصول الساخنة.. كل ما ذكرته عنهما حقائق صادقة، ولعل بعض من تحدثت عنهن قد يسوؤهن ان اكشف عن حقيقة رابطتهن الاولي بالمسرح بعد أن أصبحن في سمائه كواكب لامعة، وقد سبق لهن ان تحدثن إلي الصحف كثيرا، وشرحن تاريخ حياتهن كثيرا، ودبجن المقالات كثيرا، فشرحت كل منهن كيف كانت تمثل امام المرآة، وكيف شغفت بالتمثيل منذ الصغر، وكيف عشقت الفن لذاته... وكيف، وكيف مما لست أذكره، ولكن هل ذكرت في أحاديثها ولو من باب تقرير الواقع (وبلاش المجاملة حتي ) شيئا عن كيف وقفت علي المسرح، ومن علمها نطق أبجديته؟، ابدا.. وكأنه من العار عليها اذا اعترفت بأنها كانت ممثلة في فرقة الريحاني.. وبلاش مبتدئات يا سيدي!!«
نجيب الريحاني
حدثنا نجيب الريحاني في الحلقة السابقة عن رحلته مع فرقة الشيخ احمد الشامي التي عمل بها ممثلا ومعربا بأربعة جنيهات في الشهر، وتطرق بنا إلي وصول الفرقة لمدينة طنطا بعد ان شطبت علي محافظات الوجه القبلي وانتقلت لغزو محافظات الوجه البحري ، وعلمنا منه انه فوجيء بطرق علي باب الادارة ذاي البيت الذي يسكن فيه افراد الفرقة - ووجد والدته التي طردته من بيتها بسبب عمله بالفن تقف امامه حاملة له خطاب اتاه علي عنوان المنزل بالقاهرة من شركة السكر بنجع حمادي التي تم فصله منها لضبطه متلبسا بالتسلل داخل بيت رئيسه المسن بعد منتصف الليل في غيبة صاحبه وباتفاق مع زوجته الشابة الجميلة ، وبناء عليه خرج من الشركة بفضيحة تمس الشرف والسلوك ، فلماذا ارسلت له الشركة بخطاب لاستلام العمل من جديد ؟ .
بالطبع لم يكن يعرف الريحاني وقت استلامه للخطاب من والدته ابعاد هذا اللغز الغريب ، لكنه اكتشف فيما بعد اجابة السؤال الذي اثار استغرابه ودهشته فيقول :
" طلبتني الشركة بعد استغنائها عني علي اثر الحادث المؤسف المخجل اياه ، عندما حدث بين بعض موظفي الشركة وبين العم " ت " خلاف استحكمت حلقاته ، ولكنهم لم يتمكنوا منه ، ولم يجدوا سببا كافيا لفصله من عمله ، فهداهم تفكيرهم الي استعمال الحيلة كي يحملوه علي الاستقالة ، والحيلة هي ان يعيدوني الي عملي بالشركة ، واذ ذاك لا يجد غريمي العم " ت " مناصا من هجر الشركة ، لا بل من هجر البلدة بما فيها . ان لم يكن اتقاء للفضيحة ، فخشية تجدد الماضي بين روميو " الذي هو انا " وبين " جوليت " وهي الحرم المصون ،قلت ان والدتي حملت الي خطاب الشركة ، وذلك بعد ان اضناها البحث عن مقر الفرقة التي اعمل بها . فكم وجهت السؤال الي هنا وهناك ، وكم نقبت عن اسر الممثلين تسائلهم عن اخبار ابنائهم ، واين يحطون الرحال . وخيرا اهتدت الي اننا نقيم اذ ذاك في طنطا ، فجاءت علي عجل .
عودة للوظيفة ، لم اتوان بعد الاطلاع علي خطاب الشركة في جمع عزالي وهو عبارة عن المرتبة واللحاف والمخدة والكام هدمة ، والعودة سريعا إلي القاهرة ، تاركا الجمل بما حمل ومنها إلي نجع حمادي حيث استلمت عملي ، وانا اقسم جهد ايماني أنني لن اعود إلي التمثيل مهما حدث ، ومهما كانت الاسباب !! فهل بررت بقسمي هذا ام حنثت ؟ !
تطهيق العم ت
قلت ان السبب في استدعاء الشركة لي هو " تطهيق " العم " ت " ليأخذها من " قصيرها " ويولي الادبار ! ولذلك رأي الرؤساء من باب النكاية فيه ، ان يجعلوه تحت رياستي ، وان يكون من اختصاصي ان اراقب اعماله ! ، ومع ذلك لم ييأس العم " ت " ، ولم يتبرم بهذه التصرفات ، بل لم يحرك ساكنا ... واخوك تقيل ! ، وقد رأيت ان " اتلم " شوية والايمها ، فعاملته احسن معاملة ، وصرنا من هذا الحين اصدقاء اعزاء . واتجهت بكليتي إلي اتقان عملي ومراعاة الواجب فارتفعت باخلاقي إلي مستوي لا بأس به ، وفضلت فيما يختص بعلاقاتي بالجنس اللطيف ان اترك ما لقيصر لقيصر ، وان اخليني لطيف ، وبلاش " المسخرة " بتاعة زمان ، وقد كان ! ، ولم يمض وقت طويل حتي حزت ثقة مدير الشركة وغيره من الرؤساء ، فأرتفع بذلك مرتبي إلي اربعة عشر جنيها في الشهر . وظللت قرابة العامين هانئا بعيشي راضيا بما كتب لي في سجل الحياة ، ونظرت فاذا بي اقتصد من هذا المرتب في تلك المدة مبلغا يزيد علي مائتي جنيه ، ولما كان عام 1912 تسلمت ذ وانا في نجع حمادي ذ خطابا من الاستاذ عزيز عيد ( وكان في القاهرة طبعا ) يخبرني فيه ان التمثيل قد ارتفع شأنه ، وان الاستاذ جورج ابيض عاد من اوروبا ، وهو ينوي تأليف فرقة بعد ان تلقي الفن في الخارج علي نفقة صاحب السمو الخديوي .. وان .. وان .. وبعد تلاوة الخطاب اقول الحق ، لقد " زقزق عقلي " . وازنت بين ما يحويه الخطاب من مزخرفات ومشوقات ، وبين ما انا فيه من نعمة شاملة وراحة كاملة . واخيرا فضلت البقاء في نجع حمادي ، ولتفعل فرقة جورج ابيض بالممثلين ما تشاء . ومر بعد ذلك وقت بدأت اري فيه الصحافة تهتم بالتمثيل ، والجرائد اليومية تكتب عن فلان وفلان من زملائي ، وتأتي علي ملخصات للروايات التي تعرض ، وكيف ان فلانا اجاد دوره ، وان السيدة فلانة بلغت في دورها حدا بعيدا من الاتقان . اقول كنت اقرأ هذه الاشياء وانا قابع في نجع حمادي ، فخارت قوة المقاومة في نفسة ولم اعد احتمل البقاء في اقاصي الصعيد ، تاركا هذا العالم الجديد يفتح ذراعيه لزملائي الاقدمين فعولت علي الحصول علي اجازة اقضيها في القاهرة لأري عن كثب هذا الفن الذي ازدهرت ايامه ، وارتفعت اعلامه . وجئت إلي القاهرة باجازة شهرين ، وكنت احمل في جيوبي اذ ذاك مائتين من الجنيهات الذهبية الصفراء ، كانت كل ما ادخرته من مرتبة في السنوات الماضية . ورحت اشاهد تمثيل جورج ابيض ، واتوسع في الانفاق هنا وهناك كمن ينتقم من ايام " الجفاف " التي امضيتها في الصعيد . ولم تأتي نهاية الاجازة إلا بعد ان اتت عن آخر قرش ابيض من قروشي المدخرة للأيام السوداء . واخيرا اقترضت اجرة القطار إلي نجع حمادي في الدرجة الثالثة يعني "ترسو". وكان الله بالسر عليما .
حنين إلي الفن
في العودة لنجع حمادي ساءت احوال نجيب الريحاني النفسية ، وبدأت غيي التمثيل تترأي امام عينيه فلم يهنأ له بال ولم يرتاح له فؤاد إلي وجد له صديق هو الدكتورة جودة " طبيب الاسنان " الذي كان الريحاني يجبره علي الانصات له حين كان يقف امامه ليلقي عليه قطعة تمثيلية من العروض التي شاهدها اثناء زيارته الاخيرة للقاهرة ، فمرة يقلد له جورج ابيض ووفي مرة اخري يقلد عزيز عيد أو احمد فهيم ، وغيرهم من كبار الممثلين !! ، ويستكمل الريحاني حكايته مع الدكتور جودة قائلا " وكم ضاق بي الدكتور جودة ذرعا ، وعمل علي التهرب مني حين كنت اجبره علي سهر الليالي ، لا في طلب المعالي ، بلا في وجع دماغه بأقوال لويس الحادي عشر ، وصرخات القائد المغربي عطيل ، وتأوهات الملك اوديب وغيرهم من بقية الشلة المحترمة التي يتزعمها استاذنا الكبير جورج ابيض . وهكذا كان صديقي الدكتور جودة بمثابة " الجمهور " الذي ألقي عليه ما اقتبسته من قطع تمثيلية ، علقت بذهني حين كنت اشاهد روايات فرقة الاستاذ جورج ابيض الاولي . ولم يكن حظ " جمهوري " المسكين " وهو الدكتور جودة " مقصورا علي سماع مقتطفاتي " الابيضية " ، بل كنت اعمد ايضا إلي تأليف منولوجات وازجال مثل معي فيها ، واغاني ومنثورات فنية كنت أحمله " بالعافية " علي سماعها ، فإذا " زعل " فإن نهر النيل يمر بنجع حمادي ، وماؤه ولله الحمد غزير فليشرب منه من يشاء .. ! وشاء الله بعد فترة من الزمن ان يزداد " جمهوري " ، وان يجد الدكتور من يحمل العبء عنه والصعب دونه ، اذ وفد علي نجع حمادي المهندس الظريف الاستاذ محمد عبد القدوس منقولا إلي مدرسة الصنايع هناك .
»كندس« عبد القدوس
نتوقف لحظة لنتعرف علي محمد عبد القدوس الذي تحدث عنه الريحاني بايجاز شديد لا يعطي الرجل التعريف المستحق ، فالمهندس محمد عبد القدوس هو نجل الشيخ أحمد رضوان باشكاتب المحكمة الشرعية ، تربي في اسرة محافظة لكن والده كان يعشق الغناء والعزف علي العود ومرتبطا بصداقات مع كبار المنشدين في ذلك الوقت من الزمن ، وقد نبغ محمد عبد القدوس في رواية الحكايات التي كان يؤلفها وكتابة فن الزجل والمنولوج ، وقد كون فرقة مسرحية بالنادي الاهلي كان من اعضائها فكري اباظة وحسن فايق ، عين في نجع حمادي ناظرا لمدرسة الصنايع لكنه لم يطق الحياة هناك وعاد للقاهرة عشقا لمناخ الفن ، وقد تزوج من السيدة روزاليوسف التي عمل معها بالمسرح وانجب منها الكاتب والروائي الكبير احسان عبد القدوس ، وقد سافر إلي ايطاليا عام 1924 لدراسة المسرح والسينما ، وهو ممثل ظريف يتسم بخفة الظل وقد لعب دور والد لبني عبد العزيز في فيلم " أنا حرة " ، وجسد شخصية الباشا العثمانلي.. في أغنية عبدالحليم حافظ " يا سيدي أمرك أمرك يا سيدي " .
يكفي هذا ، ونستكمل مع الريحاني الذي يقول " أأتلفنا اذاك أأتلافا تاما، وتسلينا بكل ما في هذه الكلمة من معني ، وتباحثنا كثيرا في فنون " الدردحة " . ولست ادري اكنت اتلقي هذه الفنون علي يد " كندس " الذي هو العزيز محمد عبد القدوس ، ام كنت القنه اياها ولكنني اعترف علي كل حال انه كان " مدردح " جاهز قبل ان ينزل ركابه في بلد نجع حمادي . كان عبد القدوس من هواة التمثيل ، وكان حاله كحالي في جنون الفن . ولذلك كانت اجتماعاتنا جنانا في جنان ! ، فهو يلقي علي منولوجا مثلا ، بينما انا كنت اجلس منه في مكان " الشعب " من الممثل ، ثم يأتي دوري فألقي قطعة تمثيلية يحتل هو في اثناء القائي مكاني بصفته " متفرج " وهكذا ،إلي ان يأذن الليل بالرحيل . وكم من سهرات لطيفة ونزه ظريفة ليس من حقي " وحدي " ان اغامر بوصفها . ولم يطل مقام " كندس ، الذي هو " محمد عبد القدوس " في نجع حمادي ، بل غادرها منقولا أو مرفوتا لست ادري ، وانما الذي ادريه انه ترك وحشة وفراغا لم اكن اتوقعهما.
منوم مغناطيسي
تدافعت الايام متشابهة ، إلي ان وصل نجع حمادي رجل اجنبي ومعه زوجة " فرنسية " وكان الرجل منوما مغناطيسيا ، اتي يحيي بعض حفلات " البندر " . كنا نشاهده فيها يقوم ويؤدي بعض تجارب مستغربة من النوع الذي نراه من " الحواة " وغيرهم . علي ان موضع الدهشة من الامر هو تمكن زوجته من علم الكف ، اذ كانت حين تتفرس في كف انسان ، تقرأ ما فيها وكأنها تتلو من كتاب بين يديها . وكم تمنيت ان اريها كفي ولكن المبلغ المحدد لذلك كان مبالغا فيه . ولذلك فضلت التريث عسي ان يبعث الله بالفرج ! ، وفي احدي الليالي ذهبت في " شلة " كبيرة من الاصدقاء إلي حضور حفلة لذلك " المنوم " ، وبعد انتهائها تقدم الزوج يعلن انه سيوزع تذاكر " لوتارية " ثمن الواحدة عشرون مليما بينها تذكرة واحدة تكسب . فما هو المكسب .. ! ، المكسب هو ان يزور صاحب الجائزة عصر اليوم التالي مقر هذا الزائر كي تقرأ المدام كفه ، وتطلعه علي ما خفي من امره . وقد اشتريت كغيري تذكرة ، وانا ادعو الله ان اكون الفائز ، لأنني كنت في شوق زائد إلي هذه " العملية ، ولما انتهي توزيع التذاكر ، وتدافع الاصدقاء وغيرهم لحضور عملية السحب ، بقيت في مكاني مشفقا . وظهرت النتيجة فإذا الفائز زميل لي في الشركة اسمه عبد الكريم افندي صدقي . وبعد ان قمت بعملية " لعن " سلسفيل ابو الدهر القاسي والحظ العاثر ، لم اجد بدا من الذهاب إلي عملي في الشركة كالمعتاد . فلقيني زميلي عبد الكريم صدقي ينعي حظه الذي " مش ولا بد " ، " الله ازاي يا سي عبد الكريم ؟ وانت امبارح كسبان " لوتارية " تسوي الشيء الفلاني ، وانهارده العصر عندك " رندفوا " . الله اكبر ناقصك ايه يا خويا " واجابني الصديق قائلا " ماهو ده اللي مجنني . لانه صدر لي امر دلوقتي حالا لمأمورية لا تنتهي إلا بعد اسبوع ، والراجل وامرأته يغادران نجع حمادي غدا . ولم يبق علي القطار الذي استقله غير دقائق معدودة !! " ، وما ان سمعت هذه "البشري" حتي قلت في نفسي " جاك الفرج يا ابو النجب !! " ، وقبل ان انبث ببنت شفة . واصل الصديق حديثه قائلا " بما انني مش رايح استفيد من التذكرة دي فخذها انت وروح شوف بختك عند الوليه وجوزها"!!
عند العرافة
تناولت التذكرة التي " عليها العين " وقبل الموعد المحدد كنت بين يدي الرجل وجلست المدام تقرأ كفي ويا لغرابة والدهشة ! ، من المعروف عني انني لم اتعود في حياتي ان القي القول جزافا ، كما انني لست بمن يصورون من الحبة قبة ، بل ولا اميل إلي التهويل والمبالغة في الوصف ، فهل تصدقني اذا قلت ان هذه السيدة اخبرتني باشياء حدثت لي في الماضي كما لو كانت معي ، وانها قصت علي ظروفا خاصة اجتزتها بنفس النمط الذي ذكرته ، حقا لقد خبلت عقلي بما القت علي من تاريخ حياتي الماضية ، وتركتني ذاهلا أفكر كيف يمكن لأمرئ مهما بلغ عمله ان يقف علي مثل هذه التفاصيل الدقيقة المدهشة ؟ !! . وبعد ذلك تنبأت لي بما سيكون عليه مستقبلي ! . كان ذلك عام 1913؟ واقسم بالله غير حانث انني مازلت طيلة هذه الاعوام التالية حتي كتابة هذه المذكرات اجتاز من ادوار حياتي مراحل سبق ان تنبأت لي بها هذه السيدة ! . كنت ايامها موظفا بسيطا في شركة السكر اتقاضي مرتبا لا يزيد علي اربعة عشر جنيها ، ولم يكن امامي ما يبشر بصلاح الاحوال او تبدل الايام ، ومع ذلك فقد قالت لي ان حياتي عبارة عن ضجة صاخبة ، وان اموالا وفيرة ستتداولها يدي ، وانني سوف انتقل من فقر إلي غني ، ومن غني إلي فقر ، ثم يعود الغني ، ثم ... وهنا خانتني الذاكرة بكل اسف ، اذ لست اعي تماما ما انتهي اليه تنبؤها ، وهل اوصلتني في اخرياتي إلي هضاب الفقر المدقع ، ام إلي وديان الثراء الممتع؟!! وقد رحت اجول بالذاكرة في تأويل هذه التنبوءات ، فمن حيث الفقر .. فهذا شيء متوفر والحمد لله الذي لا يحمد علي مكروه سواه ، ومن حيث الغني ، فمن اين يأتيني يا تري ؟ ، لقد فتشت عن قريب لي من ذوي الثراء ، ورحت ابحث عن شجرة العائلة ، وادرس اصولها وفروعها ، لعلي اعثر علي واحد بينهم لا وريث له قائلا " يمكن يا واد يشوفك في وصيته بحسبة كام الف مصري يبحبحوك " .. امال بس منين راح يجيني الغني يا اخواتي ان ما جاش بالطريقة دي ، هل يأتي من التمثيل ؟ ، اسم الله .. دا اخوانا بسم اللله ماشاء الله مكانش يلف الشهر إلا والجعيص فيهم يستلف قدر ماهيته مرتين !!
نهايته .. لم يفيدني التفكير شيئا ، ولم يسعفني قاموس الاسرة ولا شجرتها المباركة ، بما يروي غليلي ، فتركت الامور تجري في اعنتها ونمت بعد ذلك خالي البال هاديء البلبال !
طيب البال وعرفناه ، ولكن " البلبال " ايه كمان ، والله ما انا عارف ، لم يقتصر ما افضت به إلي هذه العرافة علي موضوع الفقر والغني ، بل باحت لي باشياء سرية في حياتي الخاصة . واصارحكم يا سادتي ان هذه الاشياء وقعت بحذافيرها بعد سنوات من ذلك التاريخ !
أخاف السيارات
هذا . ولعل احدا يتساءل عن السر في عدم اقتنائي السيارة .. السبب ان هذه العرافة المدهشة تنبأت بأن هناك تصادما سيحدث لسيارة اكون فيها ! ، ومع انها ذكرت لي ان " ربنا ان شاء الله ها يجيب العواقب سليمة"، إلا انني خشيت من ذلك اليوم ، فامتنعت بتاتا عن اقتناء سيارة لنفسي . كما انني اذا دعيت لركوب احدي سيارات الغير أو حتي سيارة " تاكسي " اتوسل إلي السائق بكل عزيز لديه ان يرحم شباب العبد لله ، وان يسير علي اقل من مهله ، لأني مش مستعجل ابدا..! و"مش مستعجل هذه".. اقولها دائما كلما ركبت سيارة، حتي ولو كان باق علي القطار الذي سأسافر فيه دقيقة واحدة . وكلمة في اذنك ايها القاريء الحبيب لم اقلها لغيرك والله . تلك هي انني افضل دائما ركوب عربات الخيل ، لا رفقا بالعربجية بل حرصا علي حياتي الغالية ، والحنطور فوقك يا اتومبيل !
خطاب مستعجل
وغادرتنا العرافة . ثم مضت بعد ذلك فترة زاد فيها اعتقادي بصحة نبوءاتها لان الكثير منها كان قد تحقق في خلال تلك الفترة ، وفي صباح احد الايام من عام 1914 تسلمت وانا في مكتبي بادارة ركة السكر في نجع حمادي اشعارا بوصول خطاب مسجل " مسوكر " باسمي ، فوقعت بامضائي علي هذا الاشعار وقلبي يرقص فرحا ، لأنني تذكرت ما قالته لي قارئة الكف من انه سيأتي علي وقت ألعب فيه " بالفلوس " لعب . وهنا اتعبت فكري في البحث عن مصدر هذا الخطاب " المسوكر " واذا كانت فيه اموال فمن اين يا تري ؟ .اقول ان افكارا كثيرة دارت في رأسي دون ان اهتدي إلي حل هذا اللغز . واخيرا قلت في " نفسي ، اصبر يا واد حبتين ويكون الجواب في ايدك ، ويا خبر بفلوس بعد شوية ها يبقي ببلاش " ! ، وصبرت علي نار إلي ان اشرقت انوار ساعي البريد ، فخطفت منه الخطاب خطفا وفضضته استعدادا لاخراج الشيكات التي احتواها المظروف !!
ولكن .. آه .. قاتل الله " لكن " هذه التي تقلب الاوضاع وتعكس القصد علي القاصد ! ، اتدرون يا سادتي من اين صدر هذا الخطاب المسجل ؟ !
الخطاب صدر من المكتب المجاور لمكتبي !!
من مدير الشركة !!
وهل تعلمون ماذا جري ؟
رفدت من خدمة الشركة بسبب كيت وكيت وكيت .. وهذه " الكيتات " ليس فيها بحمد الله ما يخل بالنزاهة والامانة ولكن فيها .. بكل اسف .. ما فيها والسلام ، وقد ابصرت امامي فاذا بساعي البريد واقفا ينتظر البقشيش ! ومفيش لزوم لشرح ما جري له بالتمام والكمال ! ، نهايته . نقدتني الشركة ماهية ثلاثة اشهر كمكافأة ، وقد بلغ جملة المستحقات بعد خصم الوفورات التي كنت اقتصدها من الماهية الشهرية مبلغ سبعين جنيها ، كانت كل زادي وعتادي الذي عدت به من نجع حمادي إلي القاهرة . وهو كما تري مبلغا لابأس به .
عودة للقاهرة
وصلت إلي القاهرة احمل هذا المبلغ فكان اول ما اتجه اليه فكري هو البحث عن الزملاء الاقدمين والصحب الاولين . وكانت ثروتي هذه ... وما لازمني من " الوجاهة " اياها سببا في ان يلتف حولي رهط منهم . قال يعني الواد وارث ! ، وهات يا بعزقة ، وهات يا صرف ، إلي ان صحوت فجأة فاذا ما بقي بعد الاسبوعين الاولين مبلغ وقدره ستة وعشرون جنيها فقط لا غير ! ، وبعدين اذا صرفتهم اعمل ايه واسوي ايه ؟ ، وآكل منين؟، وانا يا مولاي كما خلقتني ولا فيه شغلة ولا مشغلة ! ، وبناء عليه اصدرت فيما بيني وبين نفسي قرارا صممت علي تنفيذه . وهذا القرار هو ان ألايمها بالتي هي احسن، وألم ايدي شوية. وانقذ ما يمكن انقاذه من القرشين اللي فاضلين . وكفاية علي ريال في اليوم .. اكل وشرب ومصاريف نثرية . وبهذه الطريقة أأمن شر الدهر الخوان لغاية ما يحلها من لا يغفل ولا ينام ! .
وبعد اصدار هذا القرار بساعة وعشرين دقيقة تماما قصدت إلي حيث كانت تعمل فرقة الاستاذ جورج ابيض " وعلي فكرة" كان مصرحا لي بالدخول مجانا كأرتست ، فدخلت الصالة وجلست اشاهد رواية " اوديب ملكا " وبينما اذرف الدمع سخينا علي هذا الملك المنكوب اذ وفد الاستاذ سليم ابيض " شقيق" اوديب ومدير الفرقة وجلس بجانبي ، وحين رآني متأثرا ، فاتحني بحقيقة مرة كان اثرها في نفسي ابلغ من اثر الفكرة التي حلت بأوديب المسكين !
هذه الحقيقة هي ان ايراد الفرقة خسع خالص ، والليلة لازم الممثلين يقبضوا والادارة مش لاقيه تقبضهم . وعلشان كده قصدتك يا نجيب في حسبة خمسة وعشرين جنيها بس ، ندفع منهم قسط الممثلين وتاخدهم بعد يومين اتنين . يومين بالعدد . واخويا جورج ضامن يا نجيب !


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.