»قبل أن أسمح لنفسي بنشر مذكراتي، فكرت في الامر كثيرا، لا لشيء الا لانني خلقت صريحا، لا اخشي اللوم في الحق، ولا أميل إلي المواربة والمداراة، فهل يا تري اظل فيما أكتب متحليا بهذه الخليقة؟، أم يدفعني ما درج عليه الناس من مجاملة إلي المواجهة والتهرب.. ذلك هو موضع التفكير الذي لازمني قبل أن أخط في مذكراتي حرفا واحدا، أما وقد ارتضيت، فقد آليت علي نفسي أن أملي الواقع مهما حاقت بي مرارته، واسجل الحقائق مهما كان فيها من الم ينالني قبل ان ينال غيري ممن جمعتني بهم أية جامعة،وربطتني بهم اقل رابطة، ومضيت في مذكراتي علي هذه الوتيرة، فاذا بي أشعر في دخيلة نفسي انني اؤدي واجبا مفروضا، هو في الحقيقة تسجيل صحيح لناحية من نواحي تاريخ الفن في بلادنا العزيزة، وأصارح القراء الافاضل بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يشعر بالاقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هاديء البال.. علي أنني في مذكراتي هذه تناولت الكثيرين بما قد لا يرضيهم، ولكن احدا لا يستطيع ان يناقضني في حرف واحد مما أثبت هنا، لأنه إن حاول ان يفعل، وقفت الحقائق حائلا بينه وبين ما يريد، فهناك الزميل القديم علي يوسف مثلا... لقد شرحت الكثير مما كان بيني وبينه من مواقع حربية في ميدان الغرام والهيام، وكذلك الحال مع السيدة (ص. ق ) -الريحاني يقصد الممثلة صالحة قاصين - التي بلغ تنازعنا عليها حد شك المقالب، وتدبير الفصول الساخنة.. كل ما ذكرته عنهما حقائق صادقة، ولعل بعض من تحدثت عنهن قد يسؤوهن ان اكشف عن حقيقة رابطتهن الاولي بالمسرح بعد أن أصبحن في سمائه كواكب لامعة، وقد سبق لهن ان تحدثن إلي الصحف كثيرا، وشرحن تاريخ حياتهن كثيرا، ودبجن المقالات كثيرا، فشرحت كل منهن كيف كانت تمثل امام المرآة، وكيف شغفت بالتمثيل منذ الصغر، وكيف عشقت الفن لذاته... وكيف، وكيف مما لست أذكره، ولكن هل ذكرت في أحاديثها ولو من باب تقرير الواقع (وبلاش المجاملة حتي ) شيئا عن كيف وقفت علي المسرح، ومن علمها نطق أبجديته؟، ابدا.. وكأنه من العار عليها اذا اعترفت بأنها كانت ممثلة في فرقة الريحاني.. وبلاش مبتدئات يا سيدي!!« نجيب الريحاني مع منيرة المهدية جاء الجمهور وارتفع الايراد لكنها انسحبت فعاد للريحاني غلب الزمان توقفنا في الحلقة السابقة عندما روي لنا الريحاني ان فرقة الكوميدي العربي التي بدأت ايراداتها في الهبوط، اخذت بفكرة الاستعانة بسلطانة الطرب منيرة المهدية، وقد تم تكليفه من ادارة الفرقة بأن يقوم بتدريبها علي الادوار التي تمثلها وتغنيها،لأنه يسكن بجوارها في مصر الجديدة، وقال لنا الريحاني انه عندما دخل بيتها لاول مرة وجدها تداعب حيوانا أليفا اثار دهشته، وقد اخبرنا ان هذا الحيوان هو " عرسة "، والعرسة لمن لا يعرف حيوان كل همه ارتكاب جرائم القتل خنقا ضد الطيور المنزلية المفيدة كالدجاج والحمام.. ولكن " عرسة " الست منيرة كما يقول الريحاني " كانت يا اخي شيئا الهيا محبوبة من الجميع في بيت الست، ويستطرد واصفا الموقف بقوله: " وجدت ان مراجعتي للست لا فائدة منها لان النظرة في وش " العرسة " خير لها الف مرة من التطلع للعبد لله.. وفي الحال اعتذرت للفرقة عن اداء هذه المهمة، والبركة في الاخوان، اللهم زد وبارك ". وقبل ان يأخذنا الريحاني لمنحي آخر متعلق بنتائج الارتباط الذي تم بين الفرقة والست منيرة، تفرض علينا الضرورة ان نقدم للقاريء سطورا قليلة يتعرف من خلالها علي منيرة المهدية التي ولدت عام 1885 في قرية المهدية بمحافظة الشرقية واسمها الحقيقي زكية حسن منصور، وهي تكبر الريحاني بأربع سنوات، وقد بدأت حياتها كمطربة تحيي الافراح في مدينة الزقازيق. وذات يوم شاهدها أحد أصحاب المقاهي فأعجب بصوتها ونجح في إقناعها بالسفر إلي القاهرة. كان ذلك في العام 1905. وقد ذاع صيتها ولقبت بسلطانة الطرب. وقد افتتحت ملهي أطلقت عليه اسم " نزهة النفوس" تحول إلي ملتقي لرجال الفكر والسياسة والصحافة، وفي صيف 1915 وقفت منيرة علي المسرح مع فرقة عزيزعيد، لتؤدي دور " حسن" في رواية للشيخ سلامة حجازي، فكانت أول سيدة مصرية تقف علي المسرح، وكانت تكتب علي الأفيشات "الممثلة الأولي " بالرغم من أنها كانت تقوم بدور رجل، ثم انفصلت عن فرقة عزيز عيد وكونت فرقة خاصة قدمت بها أشهر أعمال الشيخ سلامة حجازي، وانضمت لفرقة الكوميدي العربي كما يروي الريحاني، وقد اعتزلت المسرح بعد ان مثلت للسينما فيلمها الوحيد " الغندورة عام 1935 و في عام 1948 قررت العودة إلي المسرح بعد عشرين عاماً لكنها لم تلق القبول الذي كانت تنتظره، فاعتزلت الفن وتفرغت لهواية تربية الحيوانات الاليفة التي بدأتها ب " العرسة " التي حدثنا عنها الريحاني، وقد رحلت في 11 مارس 1965 عن عمر ناهز الثمانين عاما ".. والان نعود لمذكرات الريحاني لنعرف ماذا جري بعد ان انضمت الست منيرة للفرقة التي كان يعمل بها. عودة إلي الفلس يقول الريحاني : " قلت ان الجمهور تهافت علي مسرحنا، وارتفعت الايرادات ارتفاعا غير منتظر، ولكن لم تمض مدة طويلة حتي شعرت السيدة منيرة المهدية انها وحدها المقصودة بهذا الاقبال، وان اسمها هو الذي يجذب الناس إلي ارتياد التياترو، وأنه من الغبن لها ان نشاركها في الايراد نصفا بنصف، ومن ثم صممت علي فصم الارتباط، وانتم من هنا يا اولاد الناس وانا من هنا، ولقد صح تقدير " الست ".. فما كادت " تسلت " يدها من الفرقة، حتي انسحب علي اقدامها الخير الذي عمنا ردحا من الزمن، وعدنا إلي " غلب الزمان ". دخل النحس علينا بعد ان فارقتنا وما خلنا انه نسينا وعرف مضيفين غيرنا. ولكن لا، ما يمكنش نهرب منه. ولو كنا في بروج مشيدة ! ، وبعد مدة قضيناها. في تلطيش من اللي قلبك يحبه، جاء من يقترح علينا اقتراحا جديدا. كان اخوان عكاشة يعملون علي مسرح دار التمثيل العربي، وكان حالهم كحالنا. يعني كنا في الهوا سوا. بس احنا اميز منهم شوية. لانهم كانوا الله لا يوري عدو ولا حبيب، والاقتراح هو ان نعقد اتفاقا مع " العكاكشة " علي العمل في مسرحهم. مع بقاء الفرقتين مستقلتين الواحدة منهما عن الاخري، بمعني ان كلا منهما تمثل ليلة. والايراد يقسم مناصفة بين الفرقتين، عقد الاتفاق بالفعل، وانتقلنا من الشانزليزيه إلي دار التمثيل العربي بشارع الباب البحري لحديقة الازبكية. وكانت نتيجة هذا الاتفاق علي رأي المثل، كالمستجير من الرمضاء بالنار.