عندما كنت في مرحلة الصبا كانت شهيّتي للمعرفة بلا حدود، وقد كانت (المصطبة) التي تقع أمام بيت العائلة الكبير في قرية (إخطاب) بمحافظة الدقهلية هي المقرّ المُبهر لأول صالون ثقافي ( أتعرّف عليْه) يجمع كِبار العائلة من العلماء والمُتعلّمين، الذين يعملون في المنصورة أو القاهرة ويلتقون في بعض أيام السنة والمناسبات العائلية والأعياد، وبعد صلاة العصر يجتمعون في الزيّ الريفي البديع (الجلاّبية) بدرجة بياضها الناصع ويفترشون حصير المصطبة، ونرْقب نحن الشباب والصبية أبناء وأحفاد هؤلاء الكِبار هذا اللّقاء الذي يفيض بالثّراء المعْرفي في شتي العلوم الإنسانية والدينية والفلسفية، ولاحظ أحد هؤلاء الكِبار وهو (خال والدي رحمهما الله) حُسن الإنصات والانتباه الشديد الذي رآه علي ملامحي (وأنا مازلت في السابعة من عمري ) وهم يتحدثون عن (أصل الإنسان منذ نشأة الكون) فسألني: ما الذي تُحب أن تعرفه في هذا الموضوع ؟ فقلت له بلا تردّد: (أحبّ أعْرف أصْل عِيلْتي) فابتسم الحضور لتساؤلي الذي بدا بعيدا عن الموضوع.. ولكنه أجابني بما لم أكن أعلمه : كان تكوين عائلتك من أب سوري وأم مصرية، فالجد السّادس لك هو ابن صاحب أحد مصانع الحلويات الشامية في حلب، وكان يأتي إلي مصر مرّتين كل عام ليجوب فيها بعض المدن والقري لتسويق منتجات مصْنعه، وكان صاحب الوكالة التي أمامنا (الوكالة : محل كبير يبيع كل شيء يماثل ال Super Market في أيّامنا)، لديه ابنة فائقة الجمال رآها الضيف عندما أتت لوالدها لتُخبره أن طعام الغذاء قد تم إعداده، فانبْهر صاحب المصنع السّوري بجمالها وطلب من أبيها _ أثناء تناولهما الطعام _ أن يتكرم بالموافقة علي خطبتها لابنه الذي يبلغ من العمر 17 سنة، وسوْف يحضره معه في المرة القادمة من سوريا ليراه وتتعرف الأسرة عليه وبإذن الله.. نبدأ في إجراءات الزواج إذا أكرمتني بالموافقة علي ذلك الشرف الكبير، فأجابه والدها: إذا حضر ابنك وأقام في قريتنا فسأوافق علي هذا الزواج وأعدُك أن يكون شريكاً لنا في الوكالة ليصبح ماله وعمله الدائم في مصر، وأمام جمال الفتاة الصغيرة والصداقة الحميمة التي تجمع بينهما.. وافق الرّجل السّوري علي كل شيء، وفي العام التالي تمت مراسم الزواج ليبدأ أصْل عائلتك !!. لقد تذكّرت قصّة جدّيَ السادس الذي هجر (حلب الشّهباء) من أجل الحُب والشراكة مع عائلة مصرية أصيلة.. وأنا أستمع إلي الأغنية التي اهْتزت لها مشاعري (عيش سكر وطن) التي غنّتها المطربة أصالة بمشاركة الفنان أحمد فهمي من ألحان إيهاب عبد الواحد، أحسست بآلام جدّي السادس تعتصرُني وكأن روحه مازالت تعيش وترقب ما يحدث في سوريا.. لم أكن أعلم أن الغباء السياسي سيكون فريسة لشياطين الشر والفساد علي المستوي العربي والمستوي الدولي.. لم أعلم أن غُربة جدّي السّادس التي حققت صورة متكررة من النموذج الراقي للوحدة العربية لم تكن غُربة مثل التي عبّر عنها الشاعر محمود طلعت في تلك الأغنية : في نَاس الغُربة كسْراها ونَاس الغُربة كرهاها ونَاس مُضْطرة فَبْتِبْعِدْ وشَايْلة بَلَدْها جُوّاها ولكنها كانت ايماناً بمراده سبحانه وتعالي : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾.. ( سورة الحجرات )، وقوله عز وجل: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾.. (سورة آل عمران). لم أكن أعلم أن جدّيَ السّادس سَيُسائلني عبْر مشاعري الوراثية، ماذا أنتم فاعلون وأبناء وأحفاد أحفاد إخوتي وأخواتي في سوريا يتساقطون موتي تحت أنقاض بيوتِنا.. أو يتساقطون أحياء في مقابر الغُربة وقساوة الهجران ؟. معذرة يا جدّيَ السّادس (والخجل يغْمُرني) فلستُ أدري.. ماذا نحن فاعلون !!.