كان من الصعب على أى عربى مثلى أن يشعر بالغربة فى دمشق، فهى المدينة الحنون التى تشعر معها بدفء الأمومة ، ومؤازرة الصديق ، هى الارتواء بعد العطش، وهى الطمأنة حين القلق. ورغم ذلك لم يكن يشغل بالى فيها أكثر من الحاجة إلى الحب والاستقرار .. ربما كانت هى الحاجة إلى الاندماج فى هذا المجتمع الذى يدعوك إلى التوحد به، والانغماس فيه، ولم يكن أمامك من سبيل إلى ذلك غير الزواج به أو منه .. أن تختار فتاة تربطك به ومعه وفيه، رباط الجزء بالكل، وقد أصبحت الآن مهيأ لقبول فكرة الزواج التى ألح علىّ بها معظم أصدقائى هنا، بعد أن بلغت الثلاثين من عمرى فأصبحت الزوجة – رفيقة الدرب – الشىء الأكثر ضرورة لحياتى .. لم تقع عينى على فتاة بعينها ، فكل من قابلت منهن كان يصلح لتحقيق الحلم، فتركت الأمر للقدر الذى لم أكن أدرى أنه قريب منى إلى هذا الحد . ففى إحدى الأمسيات- وبينما كنت خارجا لتوى من ندوة كنت ضيفها للحديث فيها عن الوضع فى مصر- اقتربت منى إحداهن لتشاركنى الطريق سيرا إلى موقف السيارات .. لم تحدثنى فى السياسة- كما توقعت-، بل سألتنى عن اسم ابنى الأكبر لتنادينى به- كما جرت العادة عند أهل الشام الذين كانوا يتنادون بأسماء أبنائهم وليس بأسمائهم المجردة . فأنت " ابو فلان " دائما حتى وإن لم يكن لديك أولاد أو لم تكن قد تزوجت أصلا- فهمت من سؤالها أنها بطريقة ذكية تسأل عما إن كنت متزوجا أم لا؟ ثم توالت أسئلتها عن حياتى الخاصة، وكيف تسير فى الغربة؟ وكيف أدبر معيشتى وحيدا ؟ وهكذا، ثم كان السؤال المفاجئ الذى فسر لى بقية أسئلتها السابقة، أليس لك علاقة بإحدى العائلات السورية؟ أقصد: ألم يدعك أحد أصدقائك لزيارته فى منزله لتناول الطعام ببيته؟ فقلت لها: لقد دعانى كثيرون، ولكنى رفضت دخول أى بيت لأنى مازلت أعزب، وفى اعتقادى أنه لا يصح أن أدخل بيتا دون زوجة ترافقنى، فقالت: وهل ترفض إذا دعوتك أنا إلى بيتنا للغداء مع عائلتى ؟ فقلت لها: لا يصح أن يقبل رجل دعوة من فتاة ليعرضها لسوء الفهم والحرج من عائلتها، هل تقبلين الزواج منى إذا طلبت يدك؟ سكتت واعتراها الخجل ، ثم أضافت: إن بنات الناس ما بينخطبوا بالشارع ، فقلت لها: أنا لا أخطبك الآن، ولكنى أسألك هل تقبلين ؟ فقالت: تفضل، وقابل إخوتى بالبيت، وستلقى الإجابة التى ترضيك ! لم أكن حتى هذه اللحظة قد عرفت اسمها، ولا أى شىء عنها أو عن عائلتها، وحين لاحظت ارتباكى قالت لى: على فكرة أنا اسمى نوال وأعمل مديرة لمكتب وزير العمل- وكان اسمه يوسف جعيدانى- كنت أعرفه لأنه ناصرى من الأحزاب المشاركة للجبهة الحاكمة بقيادة حزب البعث .. قالت زرنى بمكتبى بالوزارة يوم الخميس لأعطيك عنوان منزلنا . لم أنم ليلتها .. أخذت أفكر فيما حدث . هل تسرعت ؟ هل هذا وقته ؟ هل هو النصيب ينادينى ؟ هل هى التى كنت أتمنى ؟ عشرات الأسئلة بدأت تلوح أمامى آتية من عالم الإفاقة ، وفى الصباح ذهبت من فورى إلى السيد جمال الاتاسى، وهو من وزراء الوحدة أيام عبدالناصر، وكنت أعتبره والدى أو ولى أ مرى فى سوريا، وكان أكثر الناس إلحاحا على بفكرة الزواج .. سألنى: من أى عائلة هى ؟ كان السؤال مفاجئا لى، فلم أكن أعلم أن المجتمع الدمشقى لا يزال يقوم على نظام العائلات كما هو الحال عندنا فى الريف المصرى . فاندهش الرجل لأنى عزمت على الزواج من فتاة لا أعرف إلى أى العائلات تنتمى، وكاد الرجل أن يقذفنى بالجنون، فكرت أن أتصل بأحد أصدقائى الذين كانوا معى بالندوة لأسأله عن هذه الفتاة المجهولة .. فقال لى: إنه يعرفها حق المعرفة فهى من عائلة عريقة بدمشق " بيت حسون "، وهى حاصلة على ليسانس حقوق، وأنها رفضت الزواج من شاب دبلوماسى سبق أن تقدم لخطبتها بسبب عمله فى إحدى البلاد الإفريقية، وحين أخبرت السيد جمال الأتاسى بتلك المعلومات ، قال: أنه يعرفها شخصيا فهى فتاة شديدة التعصب لعروبتها ، كما أنه يعرف عائلتها العريقة ، ويعرف أخوالها، وهم من كبار التجار بدمشق ، وبعد أن ذكر لى ذلك، قال لى العبارة التى قلبت كل شىء رأسا على عقب : " هو احنا قد بيت حسون " ؟! إذن هى عائلة كبيرة وعريقة ولابد أن ترفضنى !