دعوة إلى القرّاء جميعًا.. هذه الصفحة بأقلام القراء، إذ يكتبها كل مَن يجد فى نفسه شيئا جديرا بالكتابة، ومن ثمّ القراءة، فكل منا صاحِب تجربة فى هذه الحياة، وكل منا له خبراته المتنوعة، ومن المؤكد أن ثمة قراء يملكون قدرة التعبير عن ذواتهم، وبداخلهم الرغبة فى نشر ما تعلّموه من تجاربهم الإنسانية، وما عانوه فى خبراتهم الحياتية، حتى يستفيد الآخرون منها، وهذه -كما تعلمون- هى رسالة الكتابة. بإشرف: الدكتور زكى سالم المراسلة على عنوان صحيفة «التحرير» البريد الإلكترونى: [email protected] لا شىء أرجو أن يتسع صدركم لكلماتى، وينفتح عقلكم لأفكارى، إذ أعترف من البداية أننى سأقول قولا -قد يبدو فى نظر بعضكم غريبا جدا- لكنها الحقيقة كما أراها بوضوح كامل. والموضوع بسيط للغاية، ولأبدأ معك بسؤال فى منتهى السهولة: هل تعلم-يا عزيزى-مَن أنت؟ بالتأكيد أنا لا أسألك عن اسمك، ولا اسم عائلتك، كما أنى لا أسألك عن نوعك ذكرا كنت أم أنثى، ولا أستفسر عن مستوى ذكائك، ولا عن درجة تعليمك، ولا عن شغلتك!! لكننى أسألك عن حقيقتك الذاتية، فهل تستطيع أن تقول لى: مَن أنت؟ لا تحتار فى الوصول إلى الإجابة، ولا تقل لى إن السؤال صعب، فالحقيقة أن السؤال فى غاية البساطة، والإجابة أيضا فى غاية الوضوح، لكنك -مع الأسف الشديد- لا تعرفها، أو لا تحبّ أن تعرفها! الإجابة بمنتهى البساطة، هى أن حقيقتك أنك لا شىء! نعم.. أنت لا شىء على الإطلاق! أنت مجرد خيال كما ترى نفسك فى المرايا المحيطة بك، فأنت من كثرة ما رأيت نفسك فى المرآة، ظننت أن لك وجودا حقيقيا راسخا فى كون هائل يتمدد -يا للعجب- إلى ما لا نهاية! بينما أنت تماما مثل صورتك فى المرآة، أنت مجرد صورة، أو خيال يظهر لبعض الوقت، فقط لبعض الوقت، ثم ينتهى إلى الأبد! معذرة.. لا تغضب منى، فأنا لا أريد أن أهينك، ولا أن أقلل من شأنك، ولا حتى أن أزعجك بكلماتى الخرقاء! ولكى أسهّل الأمر عليك، سأتكلم عن نفسى، فأنا بعد أن تعلمت لسنوات طويلة، ثم علمت هذه الحياة الفانية، وجدت أن حقيقة الإنسان (أى إنسان) فى هذا الوجود المراوغ، هى أنه لا شىء، لا شىء على الإطلاق! هل يبدو كلامى غامضا، أو غير واضح؟ أم أبدو لك كأننى أتكلم كمجنون من مجاذيب الحسين؟! طيب.. انظر إلى كل مَن عرفتهم من الناس الذين رحلوا عن هذا العالم، أين هم الآن؟! لا تقل لى الأشياء المحفوظة، ولكن قل لى هل تعلم عنهم شيئا يقينا؟ طبعا: لا. طيب، هل تعلم شيئا عن حقيقة ما هم فيه الآن من نعيم، أو عذاب، أو لا شىء، أو غير ذلك؟ إذن.. أنت لا تعلم أى شىء عنهم بطريقة يقينية، طيب، وإذا نظرت إلى كل ما صنعوه فى هذه الدنيا، وكل ما قالوه، وكل ما عانوه، وكل ما حلموا به، و.. و.. أين ذهب كل هذا؟! أنا لا أتحدث -هنا والآن- عن الثواب والعقاب، ولا عن الجنة والنار، ولا غير ذلك مما لا نعرفه عن مصير إنسان بعينه، رحل عن عالمنا بعد أن قضى معنا سنوات كثيرة أو قليلة، ثم ذهب فجأة، وكأنه مجرد خيال، أو ظِل مر على هذه الأرض لفترة من الزمن ثم اختفى إلى الأبد! طيب.. وماذا بعد؟! الآن من المحتمل أن ثمة من فهم ما أقوله، وهذا (القارئ الواعى) أطلب منه فقط أن يضع هذه الحقيقة المهمة أمام عينيه دائما، حتى يرتاح من تقلبات الحياة وقسوتها، وأما مَن لم يفهمنى -وهم بالتأكيد الأغلبية- فأنا أعذرهم، لأننا نربى أولادنا، ونعلمهم أنهم كائنات مميزة، أو كيانات لها وجود حقيقى، بل وشخصيات فريدة فى ذاتها! إننا -مع الأسف الشديد- لا نعلّم الأجيال الجديدة الحقيقة الأهم فى هذه الحياة، وإنما نخدعهم، كما خُدعنا من قبل، إذ نجعلهم يظنون أن وجودا راسخا ودائما لهم فى هذا العالم المؤقت! بينما هم فى الحقيقة مجرد خيالات وظلال.. تمر على هذه الأرض مر السحاب! هل سبق لك أن رأيت إنسانا صاحب سلطة وجاه؟ أو عرفت شخصا يملك أموالا ونفوذا؟ ثم هل رأيت أمثال هؤلاء حين يفقدون قوتهم وسلطانهم؟ هل شاهدت إنسانا سليما ثم أصيب فجأة بمرض، وأصبح -فى لحظة واحدة- لا حول له ولا قوة؟ لقد عشنا جميعا -فى مصر- تجربة رائعة، تساعدنا على فهم حقيقتنا، ومن المؤكد أن ثمة آخرين عاشوا على هذه الأرض على مدى قرون وعصور دون أن يروا مثلها، فقد شاهدنا بأنفسنا من كان يجلس على قمة السلطة، ويعتلى العرش، ويظن هو وغيره أنه يملك مصر ومن فيها، ومن ثَم يحق له أن يصنع ما يشاء، بما فى ذلك السعى، لأن يورث البلد لابنه من بعده، ثم شاهدناه -هو نفسه- ممددا بلا حول له ولا قوة داخل القفص مع ابنيه وبعض حاشيته، إذ يحاكمهم قضاة من أبناء الشعب! ورأينا أيضا من يهرب من السجن بملابسه الداخلية، ثم تقوده تقلبات الأحداث، وتغير الظروف إلى قصر الحكم، فيجلس على العرش بسذاجة منقطعة النظير، وما كاد يستقر فوقه، حتى يُلقى به فى غيابات السجون! ألا يمكن لنا أن نفهم الحقيقة بعد كل ما شاهدناه أمامنا من عجائب ومعجزات؟! إذا كنت لا تريد أن تدرك الواقع -يا أيها الإنسان– فلك بالتأكيد ما تشاء، لكننى سأقول لك مثالا أخيرا: ما رأيك فى امرئ يقول لك إنه رأى فيما يرى النائم أنه ملك عظيم الشأن، وأنه كان يرتدى ثياب الملك المواشاة بالذهب، وأن تاج المملكة المرصع بالجواهر كان فوق رأسه، ثم حين استيقظ من نومه، لم يجد العرش، ولم يجد التاج، ولم يجد شيئا على الإطلاق، فحزن حزنا شديدا؟! الناس -يا صديقى- نيام، فإذا ماتوا انتبهوا! البيت الجديد أكتب إليك من بعيد، من بعيد جدا، فمن داخل وحشة الغربة وقسوتها، أخط كلماتى المنتقاة لك بعناية، فهل يمكنك أن تستمع إلى ملخص قصة حياتى؟ أنا امرأة عادية، من ريف الدلتا، تعلّمت حتى صرت مُدرسة، وتزوجت جارا لنا وقريبا يكبرنى بأكثر من عشر سنوات، عشنا لبعض الوقت فى بيت عائلته، ثم انتقلنا إلى بيت عائلتى، إذ لا بيت له، فهو مجرد موظف صغير فى المجلس المحلى. لم نرتَح هنا، ولا هناك، خصوصا بعد أن أنجبت ابنتى الوحيدة، ثم عرفت أن زوجى مريض، ويحتاج إلى علاج مكلف جدا، وقد حثنى زوجى بشدة على السفر إلى الخليج، مثل كثير من أهل بلدتنا، إذ أخذ يؤكد لى أن عملى هناك لسنوات قليلة، هو الوسيلة الوحيدة لكى نبنى بيتنا المشترك، ونحسّن تعليم ابنتنا الصغيرة. فسافرتُ إلى هناك وحدى، وبدأتُ غربتى الحقيقية بعيدة عن أهلى، ووطنى الحبيب، فذقت معاناة الغربة، وعانيت الوحدة القاتلة، وبدأت أرسل لزوجى حصيلة عرقى وشقائى لكى يبنى بيتنا الجديد، وفى الشهور الأولى من غربتى، اكتشفت أننى يمكن أن أحتمل أى شىء إلا البعد عن ابنتى الحبيبة، فقررت أن آخذها معى مهما كلّفنى الأمر، كما قرر زوجى بعد زيارة قصيرة لى أن يعود إلى مصر، ولم يرجع إلى مرة أخرى! مرّ عام، وراء آخر، وأنا أشقى فى غربتى، وأتصبر بوجود ابنتى الصغيرة فى حضنى، وأرسل ثمن معاناتى إلى زوجى البعيد، على أمل أن أعود قريبا إلى بيت خاص بنا وحدنا، بيت يجمع شمل أسرتى الصغيرة، على تراب أرضنا الغالية. وقد دعانى أخو زوجى إلى مشاركته فى مشروعاته التجارية، حتى نربح أموالا تقلل من سنوات غربتى، وكان صعبا على أن أرفض طلبه، ومع مرور الزمن بدأت أعتاد غربتى، وهم يعتادون غيابى! وبعد سنوات من المعاناة، وتجرّع مرارة الغربة، أخذت أرتّب أمور عودتى إلى بلدى الحبيب، ففوجئت بزوجى وعائلته يعارضون فكرة عودتى بشدة أفزعتنى! فأردت الحصول على أموالى المستثمر لديهم، فتهرّبوا منى جميعا! وحتى لا أطيل عليك، تم تهديدى بأننى إذا ما عدت إلى مصر، سيطلقنى زوجى، ويتزوج بأخرى فى بيت بناه بسنوات غربتى وعذابى! بل وقالوا لى إننى إذا ما فكّرت فى السفر مرة أخرى إلى أرض الغربة، سيمنع ابنتى من السفر معى! لم يعد أمامى أى مخرج! وها أنا ذا أعيش مع ابنتى فى الغربة، وقد دعوت أخى الأصغر لكى يقيم معنا ويعمل هنا، ثم عرفت أن زوجى المريض أرسل لى ورقة طلاقى، وتزوج من شابة صغيرة فى البيت الجديد!