كيف كانت حياة نهى يحيى حقى؟ نهى يحيى حقى هى شخصية غير عادية ولدت فى ظروف غير عادية وعاشت حياة غير عادية لأب غير عادى فأنا ابنة أعظم روائى وكاتب قصة قصيرة فى العالم العربى..ماتت والدتى وأنا عمرى ستة أشهر أى أننى لم أرها، ولذلك تولت جدتى تربيتى وكنت أتصور أنها أمى. فى ذلك الوقت كان والدى يعيش فى الخارج بحكم عمله وكان يرسل لى ملابس فى غاية الجمال، وعندما عاد ورأيته وقالوا لى إنه أبى تصورت أن جدتى متزوجة من رجلين فى آن واحد : جدى الذى أتصور أنه أبى ووالدى الحقيقى. أتذكر أن المرة الأولى التى رأيت فيها أبى خفت منه بشدة ولكن كان سحره أقوى من هذا الخوف فإذا به يذيب كل جبال الجليد بيننا لنصبح أصدقاء لا أخفى عنه أى شىء إلى أن توفى. ماذا ورثتِ منه؟ ورثت منه حب التعرف على الأشياء. كان دائما يسألنى: ما أول صورة انطبعت فى ذاكرتك وأنتِ صغيرة؟ فأجبته بأنها صورة أشعة الشمس الملونة التى كانت تغطى وجهى وأنا نائمة فى سريرى الصغير... ورثت منه أيضا القدرة على قراءة الشخصيات. الغريب أننى ورثت ذلك عنه برغم أننى لم أعش فى بيته ولكننى عشت فيما هو أقوى وأهم..لقد عشت فى حياته ولذلك فإننى أشعر بحالة شديدة من اليتم. فاليتم فى الكبر هو من أصعب الأشياء. لقد افتقدت الحائط الذى أضع عليه رأسى. ألم ترث منه الكتابة؟ سبق وكتبت قصة اللقاء الثانى التى تحولت لمسلسل تليفزيونى حمل نفس الاسم، وحقق نجاحا كبيرا ولكن والدى رحمه الله كان يصرخ حين يقرأ كتاباتى لأن لغتى العربية للأسف لم تكن صحيحة ودقيقة مثله. ولكن ذلك لم يمنعنى من عشقى للكتابة ولكن هل يمكن للإنسان أن يرث موهبة الكتابة من والده؟ أشك فى ذلك فمهما كتبت لن أصبح أبدا يحيى حقى. هل يؤلمك هذا أم يشعرك بالفخر من كونك ابنة كاتب عظيم اسمه يحيى حقى؟ الاثنان معا ..فكونى ابنته يجعلنى أشعر دائما بالفخر وأشكر الله أننى جئت للحياة كابنة لهذا الرجل المعجزة الذى كلما ازداد قدما ازداد عبقا كعبق التاريخ ولكن من كونى ابنته أننى لا أمتلك شخصية مستقلة على الإطلاق. فعندما أكتب أى شىء لا يقال سوى أنى ابنة يحيى حقى. اسمه يسبقى دائما فى كل مكان. حتى عندما أكون فى حفل أو مناسبة يتم تقديمى للجميع بأننى ابنة يحيى حقى. كنت أريد أن يعرفنى الناس لشخصى ...لأن كتاباتى أعجبتهم..وليس فقط -برغم افتخارى به- لا أنى ابنة يحيى حقى. هل كان يصطحبك معه أثناء لقائه بكبار الأدباء؟ بالطبع وكنت لا أزال شابة وكنت أشعر بالملل والضجر لأننى أريد أن ينهى هذه الجلسات لنتنزه سويا أو نذهب إلى السينما أو المسرح أو الملاهى أو أى شىء من هذا القبيل لا أن نجلس لنستمع إلى هذا الكلام المعقد. ولكن فيما بعد استفدت جدا من علاقتى بهؤلاء العظماء لأننى عقب تخرجى من الجامعة كنت أقدم برنامج فى إذاعة الإسكندرية اسمه «رحلة مع كتاب» وكنت الوحيدة القادرة على استضافة كل كبار الكتاب بحكم صداقتى لهم من خلال والدى. هل قرأتِ كل أعمال والدك؟ للأسف لا وإن كنت اكتشفته بعد مماته. وبدأت من فترة طويلة فى قراءة كل أعماله وآخر كتاب قرأته هو «صفحات من تاريخ مصر» الذى أؤكد أنه قطعة ثمينة لابد أن يتم تدريسه فى المدارس لأنه يروى التاريخ بصورة قصصية رائعة فالتاري بالنسبة لأبى هو قصص وليس معاهدات. لقد وجدت أبى وجدى وجدتى فى هذا الكتاب وكذلك الكثير من الشخصيات التى نعرفها. إنه يحمل نماذج من أول الفراعنة وحتى النكسة. كيف ترين يحيى حقى...هل هو الأديب أم القاص أم الناقد؟ إنه كل هؤلاء دفعة واحدة وأزيد عليهم إنه فنان تشكيلى أيضا وصاحب مدرسة عصرية وأسلوب علمى فى الكتابة.إنه أديب شامل وصاحب مزاج شعبى غريب جدا. ماذا تعلمتِ منه؟ تعلمت التواضع والبساطة. هل يصدق أحد أنه كان يحضر حفل زفاف البواب مثلا...تعلمت منه أيضا ألا أفعل أى شئ أخجل منه. كنت أسأله فى كل شىء وفى أى شىء دون خجل أو خوف وكان يجيبنى بنتهى البساطة..لم ينهرنى أبدا على أى سؤال ولم يغضب منى على أى تصرف. حتى عندما يغضب فإنه لا يصرخ ولا ينفعل بشدة مثلما يفعل الباقون ولكنه ينظر لى مليا بمنتهى الحزن وفى لحظة واحدة أشعر أن الدنيا انهارت من حولى وسرعان ما اعدل عما أفعله أو أقوله. فى حالات أخرى كان يقول لى « سألقى بنفسى من البلكونة». من المرأة التى يكرهها يحيى حقى؟ إنها التى توصف بأنها «تتمسكن لحد ما تتمكن» وهذه المرأة يمكن أن نجدها فى قصته الشهيرة «كنا ثلاثة أيتام» التى يحكى فيها قصة المرأة المسكينة التى تتمسك بمظهر الضعف والسكينة حتى تصل إلى ما تريده وهو أخطر نموذج للمرأة من وجهة نظر يحيى حقى، لأن المرأة بالنسبة له لا تمثل جنسها ولكنها تمثل إنسانيتها مثل الرجل. هل ترين أن قيامك بإحياء ذكراه عن طريق تجميع أصدقائه يعد كافيا للاحتفال به؟ لا ليس كافيا على الإطلاق لأننا نجتمع ونعيد ما قلناه سابقا ليصبح مجرد كلام ثم تأخذنا مشاغل الدنيا مرة أخرى . لهذا فأنا أطالب بوجود تمثال له على الأقل فى الأوبرا وأطالب أيضا المجلس الاعلى للثقافة بأن يوفيه قيمته وأنا شخصيا أفكر جديا فى إنشاء جائزة باسمه يتم إهداؤها للمؤلفين الشبان. أحلم أيضا أن يتم تصوير فيلم تسجيلى عن حياته وأتمنى كذلك أن ترى أعماله النور. ما عاداته فى الكتابة وفى الحياة العامة؟ هو يعشق الاستيقاظ مبكرا لأنه ينام مبكرا أيضا ولذلك فهو يكتب بعد الفجر مباشرة وكنت ألاحظ أنه ينزوى عنا فى ركن بعيد وكأنه طلع من عالمنا إلى عالم آخر لا يشعر فيه بأحد ثم تبدأ حالة الولادة المتعثرة للكتابة. ويستحيل أن يكتب دون أن يكون بجواره معجم لغة عربية. ودائما يكتب بقلم ذى سن عريض جدا سرعان ما يطبع على الورق مثل الفلوماستر فتضيع الحروف من تحته والأهم من كل ذلك أنه يستحيل أن يضع نقاط فوق الحروف! لذلك كنت أشفق دائما على من سيتولى جمع هذه الكلمات أو قراءتها. أما فى حياته العامة فهو أبسط ما يمكن.مزاجه فى الأكل شعبى جدا يعشق الفول الطعمية والأكلات الشعبية أو حتى العادية المهم أنها تكون من صنع زوجته جان الفرنسية وهو يعشق كذلك ارتداء الجلابية طالما كان فى المنزل ولكن عندما ندعى لحفل فإنه يكون أكثر الرجال أناقة. كيف كانت علاقتك بزوجة أبيكِ؟ فى طفولتى كنت أكرهها ودائما كنت أقول له «طلقها فأنا لا أحبها لأنها تأخذك منى ولكنه كان يضحك ويقول إنها المرأة الوحيدة التى تستطيع تحمله فهو غير منظم على الإطلاق ويلقى بأشيائه فى كل مكان، وكانت هى تتولى ترتيب كل حياته فضلا عن قوة شخصيتها التى انعكست عليه بالإيجاب خصوصا فى مرضه. فى البداية كنت أفرح بشدة عندما كانت تسافر وحدها إلى أولادها فى فرنسا لأنى أشعر أنه أخيرا أصبح ملكا لى وكنت أطالبه بالخروج والتنزه يوميا وعندما كبرت وتزوجت أصبحت أنا أيضا زوجة أب وجل ما أخشاه أن يشعر أبناء زوجى بما كنت أشعر به تجاه زوجة أبى وأنا صغيرة. أعترف أنى أحببتها من كل قلبى بعد ذلك لما رأيت من حبها الشديد له بالإضافة لكونها فنانة وذات مشاعر مرهفة مثله ولا أنكر أنها كانت تحبنى جدا. الغريب أنها أصيبت بمرض السرطان قبل وفاة أبى بعدة سنوات ولكنها بفضل حبها لأبى استطاعت التغلب عليه وشفيت منه تماما وعندما مات والدى عادت إلى فرنسا وقبل أن يمر عام على رحيله كانت قد رحلت يوم عيد ميلاده. ما أكثر شىء أغضبه؟ عندما طلبت منه سفارة قطر شراء مكتبته فخرجت بعض الصحف لتقول إن يحيى حقى يتضور جوعا لدرجة أنه ينوى بيع مكتبته. أتذكر يومها أنه ثار ثورة عارمة لم أرها فى حياتى وتفتق ذهنه أن يتبرع بها لجامعة المنيا وبعد ذلك تمت دعوته لحضور معرض الكتاب ولكنه أرسلنى بدلا منه وكانت جلسة مغلقة مع الرئيس السابق حسنى مبارك فإذا بإحدى الحاضرات التى لا أعرفها تطلب من الرئيس أن يوفر تأمينا صحيا للكتاب كى لا يشحذون مثل يحيى حقى الذى باع مكتبته لأنه يتضور جوعا فإذا بى أنتفض وأقول لها إننى ابنته وإنه لا يتضور جوعا ولا يشحذ ولا أى شىء من هذا القبيل وأن المكتبة المشؤمة تبرع بها للجامعة ولم يبعها كما يشاع. وعندما عدت قصصت عليه ما حدث فحزن أشد الحزن. هل شعر أنه أخذ حقه؟ كان يرى أن أهم حق حصل عليه هو حب الناس له ويكفى أنه لا يزال يذكر إلى اليوم والدليل هو الحوار الذى تجريه معى. شىء آخر أريد أن أقوله إنه كانت له مقولة مأثورة.. وهى إن الكاتب يموت مرتين.. الميتة الأولى عندما يقابل وجه ربه. وهذه هى الميتة الحقيقية. أما الميتة الثانية وهى الأصعب فهى عندما يسدل الستار على ذكراه». والحمد لله إنه بذلك لايزال حيا ولايزال قنديله يضيئ ولا يزال هناك من يكتب عنه وهذا هو أصدق دليل على حب الناس له. من وجهة نظرك ما وجه الشبه بين يحيى حقى ورواياته؟ أنا لا أرى سوى وجه شبه واحد فقط وهو شبه مؤلم بالنسبة لى...فى روايته قنديل أم هاشم نجد الحدث الرئيسى الذى تدور حوله الرواية هو عيون فاطمة المريضة...الغريب أن يحيى حقى مات بمرض فى عينيه هو الآخر. لقد أصابه سرطان فى العين ولم تفلح معه الأدوية ولا أى شىء ومات بنفس المرض الذى كان سببا فى شهرة أعظم رواياته. ألا تنوين أن تكتبى كتابا عنه؟ لقد انتهيت بالفعل من كتابته وإن كنت أضع عليه الرتوش الأخيرة وهو أقل ما يمكن أن أقدمه لقامة عظيمة اسمها يحيى حقى .