هل صحيح للصبر حدود؟!.. المؤكد نظرياً أن سقف الصبر مفتوح حتي لو أفضي إلي موت الإنسان صبرا.. والمؤكد عملياً أن للصبر حدوداً ومسافات وأرقاما قياسية.. كل »بني آدم» وجينات صبره.. أظن أن السقف المفتوح للصبر من »شيم» بعض الأنبياء وليس كلهم، بدليل أن منهم من دعا علي قومه حتي يتخلص منهم.. وهذا لا يعني أن من هم دون الأنبياء لا يملكون هذا السقف المفتوح لأسباب متنوعة وقاهرة أحيانا مثل أن يصبر الأب علي ابنه إلي آخر المدي ويظل جاهزا في أي وقت أن يموت في سبيله محطماً كل أسقف الصبر تحطيماً. وقد جربت وتعايشت مع نوعين من الصبر، قصير المدي وطويل المدي.. وهما ليسا من النوع الخطير أو المؤذي علي المستوي الشخصي، حتي لو خرجت منه ببعض الخسائر.. لكن أهميته وخطورته أنه يخرج من الخاص إلي العام.. أي أنه ليس شأناً شخصياً بقدر ما هو نموذج لحالة عامة شديدة الضرر علي بلدنا ومجتمعنا وأمننا القومي.. صحيح الصبر جميل.. لكن الجميل ألا يصبر القانون. ما بين قرية كفر نفرة بمحافظة المنوفية والعاصمة القطريةالدوحة حكايات من الصبر.. والرابط المشترك بينها، هو إرادة القانون ووزارة الداخلية.. والطابع العام الذي يجمعها، هو الغموض والطبائع الغريبة للمجتمعات العربية التي تغرق في تلال من القوانين المحشوة في الكتب والمحشورة في الأدراج، كأنها سرب من الأفيال النائمة.. تستيقظ عند استدعائها، وأنت وحظك.. إما أن تبتسم لك أو تكشر في وجهك.. حسب طريقة الاستدعاء وظروف المستدعَي من أجله ومزاج الحارس وهو يغمز الأفيال بالعصا.. أو مزاج من أمر الحارس بأن يغمز الأفيال.
ومنذ أن قامت ثورة 25 يناير وما تلاها من توابع، وأنا أسمع وأقرأ عن حكم المجتمع لنفسه.. ومادام سيحكم نفسه فإن الحكم للأقوي.. بلاش نجيب سيرة البلطجة مادام المجتمع أخذ »يكيف» نفسه للإدارة الذاتية لحياته، فربما أنت المحترم تضطر لأن تستقوي بالبلطجية لتكون قوياً.. ولا يصح أن ننعت دولة ذات حضارة وإدارة منذ 7 آلاف سنة بكلمات جارحة من عالم الانفلات الأخلاقي الذي تعيشه قبائل ومقاطعات تحكمها ميليشيات. حكيت قصة قرية كفر نفرة لكل من هب ودب، وفوجئت بأن رد فعل السامعين عادي خالص.. يقلبون أيديهم ويستغربون، إنني مندهش لحالتي الخاصة، رغم أنها حالة عامة.. قلت للسامعين إنني اقتربت من سنة كاملة وأنا أسأل لماذا قرر الجيران في القرية هدم حظيرة وجراج أملكهما بعد والدي وجدي من عشرات بل مئات السنين؟!.. ثم بعد الهدم وتسوية البناء بالأرض قالوا لنا ببساطة وبهدوء المطمئنين لقوانين الغابة الجديدة إن هذه الأرض التي كانت مبني ملك الدولة.. قلنا جايز ربما احنا افترينا زمان.. ذهبنا وسألنا الدولة فقالت لا، هذه أرضكم التي كانت مبنية لكم.. قلنا الحمد لله، نبني جداراً يحميها.. فقال المطمئنون لقوانين الغابة الجديدة: لا.. مفيش حد هيبني. ذهبنا في البداية وحررنا محضرا في مركز الشرطة بحرق وهدم المباني، وقلت للضباط الأفاضل: اعتبروا الشكوي من مجهول واذهبوا وتحروا الحقيقة واسألوا أهل القرية كلهم صغيرهم وكبيرهم عن الملكية وعن الذي حدث.. وبعد فترة عرفت أن التحريات جاءت مطابقة لما دوناه في المحضر الذي تحول إلي جنحة.. طيب وبعدين؟!.. إيه بقي بعد كده.. ولا حاجة.. استدعوا المشكو الذي اتهمته أكثر من مرة ولم يذهب، فذهبوا له ولم يعثروا عليه.. طيب وبعدين؟!.. ولا حاجة.. قالوا لي أكمل الأوراق في المحكمة وفي مجلس المدينة والوحدة المحلية.. وأكملت الأوراق.. طيب وبعدين؟!.. ولا حاجة.. وبهدوء المطمئنين لقوانين الغابة فتح المعتدون باباً في منزلهم يطل علي الأرض التي كانت مبني منذ أشهر فقط.. حررنا أكثر من محضر وأجرينا أكثر من اتصال لمنع العدوان واستعادة الحقوق، حتي خجلنا من كثرة الاتصالات وخجلنا أن نواجه البلطجة ببلطجة.. وزاد المطمئنون لقوانين الغابة اطمئناناً وتوغلاً وابتكاراً للأذي.. ففوجئت يوماً باتصال هاتفي من القرية يقول إن استدعاء من الشرطة لي بناء علي بلاغ مقدم من شقيقة المتهمين المعتدين بأنني أستغل وظيفتي وأحرض الشرطة عليهم وأنني اتصلت بهم وهددتهم، رغم أن الشاكية لم أرها منذ أكثر من 20 سنة ولا أتذكر شكلها ولا أملك لها رقم هاتف ولا أعرف ما إذا كانت الشرطة ذهبت إليها أو لم تذهب بناء علي شكواي.. وعرفت بعد ذلك أن المحامي اقترح عليهم هذا الاختراع حتي يتمكنوا من »كلبشة» يد العدالة والتوقف عن ملاحقتهم بالقانون ليواصلوا العدوان وهم مطمئنون من ترسيخ مبادئ قانون الغابة الجديد. أروح لمين يا وزير الداخلية ؟ كلما حكيت القصة قوبلت بقصة مشابهة.. واكتشفت أن حالتي الخاصة جزء من حالة عامة.. وهنا مكمن الخطورة أن يتزعزع السلام الاجتماعي بهذا الشكل المريع، وألا يأمن الناس علي ممتلكاتهم.. تضاعفت مخاوفي وزاد حزني لأن الأيدي مازالت مرتعشة في مواجهة غول البلطجة.. رغم أنني علي يقين من أن الشرطة تعمل ليل نهار لتمكين المجتمع من الاستقرار ولديها الإرادة لأن تستعيد زمام المبادرة.. وقد تحدثت كثيراً وطويلاً مع قيادات مديرية أمن المنوفية عن حق المجتمع في الأمن والاطمئنان والحماية.. وهم مؤمنون بهذه الحقوق، لكن يترددون في ظل »فوبيا» البلاغات الكيدية أحيانا، التي تورط الشرطة في اتهامات ليست كلها صحيحة.. إنها قضية عامة خطيرة تتعاظم أمام مشكلتي الخاصة، وإن أصبح من حقي الآن أن أسأل سعادة وزير الداخلية: قل لي ماذا أفعل يا معالي الوزير؟.. وأروح لمين؟. فيش وتشبيه والحكاية الثانية من ملعب العاصمة القطريةالدوحة، وباختصار في عام 1985 سافرت إليها لرئاسة القسم الرياضي بجريدة الشرق، وقضيت قرابة التسعة أعوام، وفوجئت بقرار ترحيلي أنا ومجموعة من زملائي صادر من الدولة القطرية.. كان ذلك عام 1994 وحتي هذه اللحظة التي أكتب فيها، لا أعرف سبب الإبعاد، وطوال هذه الفترة ظلت قطر ترفض منحي تأشيرة عندما يتم ترشيحي لتغطية بطولة رياضية هناك، إلي أن التقيت مع د.حسن مصطفي رئيس الاتحاد الدولي لكرة اليد خلال أوليمبياد الشباب في الصين، وسألني إن كنت مستعداً لحضور كأس العالم لليد في الدوحة؟.. فقلت له: أنا لا أحصل علي تأشيرة.. فقال لي: سوف أتحدث معهم في الدوحة، وبالفعل حصلت علي التأشيرة ودخلت قطر وخرجت منها.. ثم تكررت دعوتي لبطولة القارات للأندية منذ أيام وحصلت علي تأشيرة ودخلت بدون ممانعة، واعتقدت أن الأمر انتهي، لكن ظل الفضول الصحفي عندي يلح أن أعرف لماذا كان قرار الإبعاد،وهو نفس فضول زملاء لي مروا بنفس التجربة.. لم يكن هناك أكثر من ذلك، لأنه ليس في حساباتي أن أترك مصر التي هي بكل متاعبها أجمل بلد في الدنيا في نظري علي الأقل لكني فوجئت أيضا وأنا أغادر من المطار بضابط الجوازات يستوقفني ويسألني: هل كانت لديك مشكلة سابقة في الدوحة؟.. فقلت له: لا.. ربما كانت هناك دعاوي قضائية معتادة بسبب النشر في الجريدة وكان معي رئيس التحرير القطري. كان موعد إقلاع الطائرة يقترب، وزملائي وباقي أعضاء البعثة اجتازوا حاجز الجوازات وتوجهوا إلي داخل المطار، ووجدت نفسي وحيدا أتنقل من مكتب لمكتب ثم أقف أحيانا وحيداً أحاول الاتصال بالزملاء أو بالدكتور حسن مصطفي أو بأي شخصية أعرفها في الدوحة، لكن بلا جدوي.. الهاتف لا ينطق.. غريبة.. لا توجد محاولة واحدة للاتصال تتم.. بمجرد طلب الرقم ينغلق الهاتف.. زادت شكوكي عما لو كان هناك تشويش علي هاتفي، وأصابني الخوف أن يتم احتجازي وأنا عاجز عن الاتصال، أو حتي تفوتني الطائرة وهناك في القاهرة من ينتظرني من الأسرة وما قد يسببه ذلك من قلق شديد. تنقلت من مكان لمكان، وفوجئت بإجراءات فيش وتشبيه وكأنني مجرم، وفي كل دقيقة أسأل عما لو كنت سأستطيع المغادرة.. فيأتي الرد: ستسافر.. طيب لماذا تفعلون ذلك وأنا أخرج من الدوحة، بينما دخلت بدون ممانعة؟!!.. لا أجد رداً ولا أجد جواباً.. هذا من نوعية الغموض الغريب المريب، لا تفسير لهذا التناقض.. أن أدخل مرتين وأخرج مرة ثم في الخروج الثاني تكون الممانعة.. هناك قرار بعدم دخولي قطر.. ماشي مش مشكلة حتي لو كنت أجهل الأسباب، هذا لا يعنيني كثيراً، لكن هل أصدق بعضا من التفسيرات.. أن يكون شخص فقط موظف أو ضابط في الداخلية القطرية هو الذي يمنح ويمنع، وأراد في الواقعة الأخيرة أن يقول لي لا تأت مرة أخري.. أم أن الدولة القطرية تنزل إلي مستوي فرد واحد مجرد صحفي كان يعمل في صحافتها.. وإن كانت غير ذلك كيف يلعب فرد واحد في عملية دخول وخروج زائرين؟!!.. ألا تصبح هذه عجيبة من عجائب مجتمعاتنا العربية، أن يختلط عندها العام بالخاص ويلعب الأفراد في إرادتها سرا؟!!.. أم أنها سياسة ولا تريد أن تفتح ذراعيها لمن غضبوا من الإخوان الذين أعطيناهم فرصة لأن يحكموا وهم الذين رفضوا الفرصة وفهموا مصر خطأ. هذا مختصر بسيط من سقف صبر بسيط في بلاد الصابرين. صبر الشعب.. وصبر الرئيس والصبر يلفت الأنظار عندما ينتج لأول مرة في تاريخ أم الدنيا حكاية استثنائية.. الشعب المصري »صابر» والرئيس عبدالفتاح السيسي »صابر».. والمعتاد أن يصبر شعب علي رئيسه أو يصبر رئيس علي شعبه، أو ألا يصبر الاثنان فتدخل البلاد في مطحنة التصادم وتفرمها رحي الخلافات فرماً. وصبر شعبنا لا يحتاج إلي خريطة توضيحية أو رسم بياني.. يصبر علي الأسعار وسعار التجار وجشع رجال الأعمال.. وعلي الخلاط الذي يدور به يومياً ليخرج منه عصير المعاناة.. وعلي صدمة التضاد والتناقض في الشارع.. سيارات فاخرة وفتيات جميلات وشباب روش يسيرون جنباً إلي جنب مع المتسولين والمشعوذين والذين لطشت الحياة الصعبة عقولهم فطالت وتفرقت خصلات شعرهم وأصبحت مثل أسلاك الأطباق الفضائية، وجميعهم يعيشون ويتعايشون مع تماثيل الزبالة الملقاة علي الطرق منها من قاوم »نبش» أطفال ورجال ونساء الشوارع واحتفظ بروائحه الكريهة لنفسه ومنها من تحررت الرائحة بفعل الباحثين عن بقايا أكل الأثرياء.. ولا تري أحدا يتأفف من الروائح وكأنها اتسقت مع كيمياء أجساد المصريين. ويصبر شعبنا علي كثرة الوعود الزائفة ويصبر أكثر علي اختلاط شرائحه ببعضها البعض.. فلم تعد تستطيع تحديد درجات الفقر لأن الخريطة تحددت بوضوح وجلاء.. المعدمون الغرقي في الجوع، في مواجهة المتخمين بالأموال السابحين فوق أمواج المليارات.. كل منهما لا يطيق الآخر ويعتبره سبب عذاب البلد، ويصبر المواطن علي المرض الذي يؤدي إلي الوفاة المؤكدة ولا يسأل عن العلاج لأن أحدا لن يجاوبه ويضطر إلي الاستسلام لفكرة أن العمر واحد والرب واحد.. لا يهم الألم المهم قدوم الأجل.. ويصبر علي الجوع لأن اللحمة تضر بالشرايين حسب نصائح الأغنياء الخائفين من غضب الفقراء.. ثم في النهاية يصبر علي رئيسه عندما يحبه وإن كانت نار الأسعار تحرق »حواف» هذا الحب. أما صبر الرئيس فهو من النوع النادر.. يصبر علي مزاجية شعب نصفه يحتاج إلي ثورة تصحيح وتغيير.. وشرائح عديدة منه تحتاج إلي توعية بقيمة العمل والإنتاج.. ويصبر علي رجال أعمال ملأوا خزائن البنوك في مصر وأوروبا بالمليارات ويؤسسون شركات وفضائيات وكيانات استثمارية إعلامية دعائية استفزازية في مصر تقاوم صبر المصريين.. ويصبر ويطول صبره علي المحتكرين والمتاجرين بقوت الشعب، وهو ألد أعداء الثراء الغامض الكاسح للأمن والاستقرار.. ويصبر علي جيوب المقاومة من جيش الاستبداد قبل 25 يناير.. ويصبر علي العواصف القادمة من الخارج ويطول أمله أن تهدأ وتندم. إذن يلتقي الشعب والرئيس في أنواع واضحة من الصبر.. الاثنان ينتظران شيئا من خزّان الأموال داخل مصر.. هذا الخزان المستفز الذي يمنح مذيعا تليفزيونيا مليون جنيه كل شهر بينما يترك مواطناً يبحث عن عضمة فرخة في الزبالة.. ويسأل المثقفون الفقراء: متي يلتقي صبر الرئيس والشعب معاً في العلن ويقرران مواجهة العدو المشترك؟.. وبالمناسبة كان المثقفون الشرفاء من الطبقة الوسطي، ولما ضاعت الطبقة الوسطي اتجهوا إلي الصبر، لكن الصبر أحياناً لا يصمد أمام عقولهم الشغالة ومقاومتهم للانزلاق إلي درجات الفقر المتنوعة.. وهنا يكمن الخطر، حيث يصعب أن يرتفع سقف الصبر إلي الحدود الآمنة. صبريات : الإيمان منبع الصبر.. ولولا الإيمان بالله ما كان في الدنيا صبر. الصبر مثل الإرادة والضمير وقوة التحمل.. أشياء لانراها ولا نشتريها.. هو هبة من الله وموهبة تحتاج إلي صقل. الصبر مثل بصمة الإصبع لا يتشابه ولا يتساوي عند كل البشر. الصبر مفتاح الفرج و»كلبش» التهور الصبار.. نبات يحرس صبر الموتي والأحياء في المقابر. الإنسان التافه لا يصبر.. لأن الصبر قوة شخصية. صبر نيلسون مانديلا 30 سنة ليعيش في قلوب البشر 30 قرناً. الصبر علي الإهانة وجرح الكرامة وهتك العرض والعدوان علي الوطن.. خيانة ونذالة. الصبر معاناة.. لكننا نصر علي أنه جميل. لكل صبر قمة مثل قمم الأهلي والزمالك .. صبر سوبر مثل اللاعب السوبر ميسي ورونالدو.. وهو الصبر الذي يواجه المرض العضال.. لأن المرض »قمة» المذلة والضعف والهوان.. المرض يلغي الإحساس بالحياة.. يلغي المتعة والشهوة والطموح والحلم ويركز علي أمل الافلات من الموت.