هاجرت هند منذ سنوات للإقامة في إيطاليا، وبين الحين والآخر تزور بلدها مصر في إجازة تستغرق أياماً معدودات. هذه المرة قررت أن تصطحب ابنيها الصغيرين في جولة إلي أماكن تعرِّفهم من خلالها تاريخهم وثقافتهم. الجولة شملت متاحف وأحياء تاريخية قديمة ومساجد، لكنها صُدمت وهي تتجول بصغيريها داخل مسجد السيدة نفيسة في القاهرة، مما رأته قرب مكان الضريح وعند المنبر وفي موضع القبلة. وقفت مجموعة غالبيتها فتيات تجاوزن العشرين من العمر بقليل، وبحركات تغلب عليها الميوعة يلتقطن الصور»السيلفي» إلي جانب الضريح. الأكثر إثارة للدهشة أنهن لم يلتزمن بالزي الشرعي، فهذه واحدة ترتدي الجينز الضيق وتقف بكل بلاهة لتصورها صديقتها وهي تضم شفتيها للأمام في حركة يسميها الشباب »بوز البطة»، وتلك أخري تتجمع مع صديقاتها عند مكان قبلة الصلاة، لترفع إحداهن عصا السيلفي وتلتقط صورة تذكارية جماعية، وسط حالة من الهرج والضحك، تعكس استهانة بجلال بيوت الله، وما يجب أن يكون عليه زوار المساجد من وقار. المشهد الذي رصدته هند أحمد في مسجد السيدة نفيسة (رضي الله عنها)، ليس فريداً من نوعه، بل يكاد يكون ظاهرة في العديد من مساجد مصر، وبخاصة مساجد الأولياء وآل البيت، والمساجد الأثرية والتاريخية. تقول هند ل»آخرساعة»: »لم يكن الأمر هيناً علي النفس، فمشاهد الفوضي تخدش بيوت الرحمن، وتهز معها كل ثابت تعلمناه في الصغر عن احترام دور العبادة، التي تحولت علي يد هؤلاء الفتيات والصبية إلي ستديو للتصوير، أو (ديفيليه) لعرض الأزياء أو حديقة عامة، بكل ما فيها من لعب ولهو وضجيج لا يتناسب مع الأجواء الروحية التي يجب أن تتسم بها المساجد». تتابع: في إيطاليا يهمس الناس لبعضهم البعض بصوت خافت داخل المسجد أو الكنيسة، بينما هنا رأيت ما لم أكن أتصوره، فليس ثمة اكتراث بحرمة المساجد، حتي أنني فوجئت بمجموعة من النساء يأكلن ويشربن داخل المسجد، وحين انتهت إحداهن من تناول الطعام تركت كيساً به ما تبقي من الطعام إلي جانب أحد أعمدة الجامع، وحين طلب منها الشيخ مغادرة المسجد، قالت له بأسلوب غير لائق: »أنا سايباهولك وماشية»! انطلاقاً من الصور التي التقطتها هند بكاميرا هاتفها المحمول، وخصت بها »آخرساعة» قبل أن تعاود السفر إلي إيطاليا حاملة في ذاكرتها صدمة كبيرة، بدأنا في رصد الظاهرة بشكل أكثر احترافية. تجولنا بين عدد من المساجد التي تشهد إقبالاً، والتي يعد أبرزها مساجد الأولياء وآل البيت، حيث يرتبط بها المصريون، وتعتبر قبلة لهم وبخاصة البسطاء الذين يعتقدون في كرامات آل البيت وأن منهم من يحل المشاكل ويفرج الكروب ويصلح الأمور. وبغض النظر عن مدي شرعية هذا الاعتقاد، تعج هذه المساجد بتصرفات سيئة من جانب بعض الزائرين والمتبركين أو »المريدين» كما يسمون أنفسهم، حيث يفترشون أرضية المسجد مع أطفالهم الصغار.. يأكلون ويشربون، ويتسببون في عدم نظافة المكان، بينما يتعامل آخرون مع المسجد باعتباره استراحة للاسترخاء والسُبات العميق وكأنه في غرفة نوم! علي مدار أيام، قصدنا العديد من المساجد. النساء والفتيات الصغيرات يفضلن زيارة هذه المساجد في كل أيام الأسبوع أكثر من يوم الجمعة الذي تزدحم فيه الجوامع بالرجال. في الجمعة الماضية، ذهبنا إلي مسجد الإمام الحسين (رضي الله عنه) في القاهرة القديمة (شُيد في عهد الفاطميين عام 1154). كان عدد النساء أقل بكثير، بينما انتشر الشباب في أرجاء المسجد بعد انتهاء الصلاة لالتقاط الصور السيلفي. لا يخلو المشهد العبثي من ضحكات عالية وهرولة الأصدقاء يميناً ويساراً ليعلن أحدهم أنه اكتشف زاوية تصوير مميزة، تُظهر المقام خلفهم في الصورة. يمسك بعصا السيلفي ويضغط علي زر التصوير، وبعد التقاط عشرات الصور يتكومون في أحد أركان المسجد لتبادل الصور عبر تطبيق »واتساب»، أو رفعها علي موقع »فيسبوك»، وربما تحمل إحدي الصور تعليقاً من نوعية: »الشلة الحلوة في حضرة الحسين»! مشاهد الاستهتار بجلال بيوت الله، تكررت في زيارة أخري، لمسجد السلطان حسن بمنطقة القلعة، وهو المسجد التاريخي الذي شيده السلطان حسن بن محمد بن قلاوون، إبان فترة حكم المماليك البحرية عام 1363. إلي جانب القبلة مباشرة مجلس خشبي مخصص للخطيب. وقفت ثلاث فتيات عليه، بينما كانت رابعتهم تتخذ موضعاً مناسباً في المواجهة لتلتقط لهن صوراً تذكارية، وكأنهم في رحلة ترفيهية داخل حديقة، بينما رصدت عدسة »آخرساعة» صوراً للقاءات ثنائية بين شباب وفتيات في ساحة المسجد. أحد رواد المسجد نظر إلي فتاة وشاب يجلسن علي مقربة من بعضهما. قال بنبرة صوت عكست استياءه: »استغفر الله العظيم.. اللقاءات الغرامية دي مش في المسجد»، بينما ابتسم آخر وقال متهكماً: »حتي الجوامع مش راحمينها، وعاوزين ربنا يرحمكم؟»، في حين دافعت سيدة عن الشاب والفتاة: »المنظر ده مايصحش في مسجد.. لكن حرام نقول إن دي غراميات في المسجد». اقتفاء أثر الظاهرة في الفضاء الإلكتروني حمل مزيداً من المفاجآت، فصور السيلفي من داخل مساجد مصر المختلفة تملأ صفحات موقع التواصل »فيسبوك»، وتظهر في هذه الصور أحياناً تجمعات لشباب وأطفال يتكومون في »كادر» واحد وكل منهم يحاول الظهور بتقليعة مختلفة، وترتسم علي وجوههم ضحكات بلهاء، غير مكترثين بقدسية المسجد. أما المصور الفوتوغرافي خالد رفقي، فقد دشن مشروعاً لرصد أجواء المساجد بالصور، وعلي مدار نحو عامين، التقط مئات الصور المميزة، لكنه عدسته لم تغفل السلبيات والتصرفات الصادمة، حيث يقول ل»آخرساعة»: بدأت فكرة المشروع بتوثيق السلوكيات الاجتماعية للمصريين في بيوت الله، بهدف تكوين أرشيف فوتوغرافي من داخل المساجد»، مضيفاً: »خلال عامين هما الفترة التي عملت فيها علي المشروع التقطت صوراً عظيمة تعكس الأجواء الإيمانية والروحية في الجوامع، لكن في مرات عديدة كانت بعض السلوكيات غير المستحبة تلفت نظري فأسجلها أيضاً بعدستي، وأكثر الصور التي صدمتني هو وقوف بعض الفتيات للتصوير كأنهن في عرض أزياء ويظهر من خلفهم عدد من المصلين في ساحة مسجد الحاكم بأمر الله». الصور التي يلتقطها البعض بطريقة السيلفي، ظهرت أيضاً في أرشيف »رفقي»، وإن كانت بشكل محدود، حيث يقول: »لم أنتبه لهذا الأمر بشكل كافٍ أثناء عملي، لكن ذات مرة وجدتُ فتاتين يلتقطان صوراً سيلفي أمام مقام سيدي حسن الذوق عند بوابة الفتوح في مدخل شارع المعز، وعلي الرغم من أن المقام في الشارع ويمر من أمامه مئات الناس يومياً لكن المشهد لم يرق لي، فما بالك بمن يفعلون ذلك داخل المساجد»! (عبث) الشيخ محمد عيد كيلاني مدير عام المساجد الحكومية بوزارة الأوقاف، اعترف بوجود بعض السلوكيات غير المرضية في المساجد، وخصوصاً تلك التي تضم أضرحة، واعتبر أنها تجرؤ علي علي أماكن العبادة، مثل الأكل والشرب والكلام الدنيوي، مؤكداً ضرورة أن تُجنب المساجد هذه الأمور الدنيوية، واصفاً ما يقوم به البعض من سلوكيات من هذا النوع بأنها »عبث». وتابع كيلاني في تصريحات ل»آخرساعة»: وزارة الأوقاف تتصدي بقوة لهذه السلبيات، وفي هذا الصدد نعقد دروساً دينية للنساء كل يوم اثنين أسبوعياً، إلي جانب قوافل التوعية، كما أن هناك توجيهات من الوزارة للأئمة بتكثيف النصح والإرشاد، مشدداً علي أن توقير أماكن العبادة والشعائر الدينية أمر قرآني، لقوله تعالي: »وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِر اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَي الْقُلُوبِ». (ارحموا المساجد) ولكون التوعية إحدي مهام الدعاة، استطلعنا رأي الداعية الإسلامي الشيخ السيد رشدي شلبي، حيث يقول ل»آخرساعة»: قال الله تعالي: »فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُه يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُو وَالآصَالِ*رِجَالٌ لاّتُلْهِيهِم تِجَارَةٌ وَلاَبَيْع عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَة وَإِيتَآءِ الزّكَاة يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّب فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ»، ويقول في الحديث القدسي: »إنّ بيوتي في الأرض المساجد وإنّ زُوّاري فيه عُمَّارها». يتابع: كان المسجد في حياة الرسول (صلي الله عليه وسلم) اللبنة الأولي التي قامت عليها شعائر الإسلام من عقيدة وشريعة وأخلاق، وكان عهد الصحابة والتابعين وتابعي التابعين الأدب مع بيوت الله، فكما أنهم يحافظون علي الصلوات في الجماعات فهم علي يقين أن المساجد بقدسيتها وتقديرها هي الطريق الأول للوصول إلي الله، لكن في الآونة الأخيرة وبالأخص في مصر ومع انتشار المساجد إلا أنه ينقص الناس معرفة قدسية المساجد فهي ليست مكاناً للطعام والشراب وليست استراحة فندقية لنوم الرجال والنساء، ولا نادياً رياضياً للعب الأطفال ولا ستديوهات لالتقاط الصور. ويضيف: أقول للمسؤولين في وزارة الأوقاف وأئمة المساجد، ارحموا المساجد وافتحوا أبوابها لساجد واجعلوا المسجد خلوة حقيقية بين العبد وربه يهمس في أذن الأرض فيجيبه من في السماء، وابحثوا عن الفقراء لإطعامهم في بيوتهم ولا تبحثوا عنهم في المساجد. (سوق تجاري) في السياق، يقول الدكتور أحمد كريمة أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، إن النبي (صلي الله عليه وسلم) بيَّن أحكام المساجد من أنها جُعلت لذكر الله، ولا يجوز فيها البيع ولا الشراء ولا إنشاد الضالة ولا رفع الأصوات للتشويش علي الآخرين، ولا مجرد البصق وإلقاء المخلفات فيها ولا الدخول بالأسلحة ولا الإشارة بها مهما كانت الظروف، لأن المساجد هي بيوت الله، وإجلالها تعظيم لله. يتابع كريمة في تصريحات ل»آخرساعة»: هكذا كان المسجد في التشريع الإسلامي يُحاط بهالة من التعظيم والإجلال والإكبار، للأسف في زماننا هذا أصبحت المساجد علي يد بعض الناس مسرحاً لكل العادات المرزولة، وهذا ليس في مصر فقط، فما يُؤسف له أنه في شعائر الحج والعمرة بدلاً من انشغال الحاج أو المعتمر بذكر الله تعالي صرنا نسمع ونري مَنْ يهاتف أقاربه وأصدقاءه بجوار الكعبة وعند قبر النبي (صلي الله عليه وسلم)، ويرسل لهم الصور ولا يلتفت إلي الشعائر ولا حرمة هذه المواضع الشريفة، وامتد هذا العبث إلي سائر المساجد، ففي الاعتكاف مثلاً تري الناس يتناولون الأطعمة علي فُرش المساجد، بينما المواضع المخصصة للنساء فحدث ولا حرج عن أمور يندي لها الجبين، وأكاد أجزم بأن الكثير من أماكن صلاة النساء عبارة عن سوق تجاري.. وللأسف فُقد الوقار والاحترام وصارت المساجد مظهراً لا يليق، لذا يجب تغيير المنظومة الدعوية، والاهتمام بالمساجد في المناطق النائية والريفية التي يسيطر عليها شيوخ التطرف والإرهاب وهو أمر خطير للغاية، يجب أن تنتبه إليه وزارة الأوقاف.