قضية الهوية والانتماء من أهم القضايا التي إما أن تؤدي إلي الأمن والاستقرار، والازدهار والنماء، وإما أن تؤدي إلي التشرذم والتفكيك، وإثارة الاضطرابات والقلاقل والفتن، وربما العمالة أو الخيانة. وللهوية أركانها ومعالمها التي يقاس من خلالهما مدي انتماء المرء لوطنه وهويته، ولا شك أن جميع الدول والقوميات والأعراق والمذهبيات سواء تلاقت أم تداخلت أم توازت أم تناقضت، فإن كلا منها يسعي ويعمل علي تعميق الولاء والانتماء له لدي منتسبيه أو مستهدفيه، غير أن هناك صراعًا تاريخيًّا أو شبه تاريخي يقوي ويطفو علي السطح حينًا، ويخفت ويستتر حينا آخر، لكنه موجود بصورة أو بأخري علي أية حال، وهو ذلك الصراع بين الحريصين علي هوية الدولة الوطنية ومن يعملون أو يدينون بولاءات أخري. والفهم الخاطئ الذي أصلته ورسخته كثير من الجماعات المتطرفة لدي عناصرها هو أن الولاء للجماعة والتنظيم فوق الولاء للوطن، وهذا الفهم تتبناه جميع الجماعات الإرهابية والمتطرفة التي تري أن الدولة الوطنية بحدودها الراسخة المستقرة تقف صخرة وعقبة كئود في وجه مشروعاتهم السلطوية للقفز علي الدولة الوطنية. ونؤكد علي الآتي : أهمية تعميق وترسيخ الولاء والانتماء الوطني، والاعتزاز بالوطن والاستعداد لفدائه بالنفس والنفيس مع الشعور بفضله، والحفاظ علي ترابه وثراه، والتأكيد علي أن الوطنية ليست نقيضًا للدين أو مقابلا له، بل هي من صلب الدين، وهذا نبينا (صلي الله عليه وسلم) يقول مخاطبًا مكةالمكرمة : والله يا مكة إنك لأحب بلاد الله إلي الله وأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت، وظل (صلي الله عليه وسلم) يصوب نظره إلي السماء آملا أن يرده الله (عز وجل) إليها ردًا جميلا، ولو بالتحول تجاهها في صلاته، حتي نزل قول الله تعالي : »قَدْ نَرَي تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ». أن ترسيخ الهوية الوطنية له معالمه الظاهرة من احترام علم الدولة والعمل علي رفعه عاليًّا، وترسيخ نشيدها الوطني وكل ما يحفر اسمها في النفوس والقلوب، وله ما يدعمه مضمونًا وجوهرًا من العمل والإنتاج، وإيثار المصلحة العامة للوطن علي أي مصالح أخري، وإدراك أن مصلحة الوطن هي مصلحة لجميع أفراده وأبنائه، وأن رجلا فقيرًا في دولة غنية قوية خير مائة مرة ومرة من رجل غني قوي في دولة فقيرة ضعيفة مهددة في كيانها وأصل وجودها. أن الهوية الوطنية قد تتلاقي مع هويات أخري عربية، أو إسلامية، أو أفريقية، أو أسيوية، حسب ظروف وموقع كل دولة، علي ألا يكون ذلك توجه أفراد أو جماعات أو أحزاب أو قبائل بمعزل عن التوجه الوطني، فيذهب هذا إلي الشرق وذاك إلي الغرب وآخر إلي الشمال ورابع إلي الجنوب، مما يؤدي إلي تمزق الدول وتفككها وتشتيت كيانها بل ربما تشرذمها، بل أن تكون الدولة الوطنية علي قلب رجل واحد في توجهاتها بما يعطيها القوة في محيطها الإقليمي وفي علاقاتها الدولية. أننا مع اعتزازنا بهويتنا وحضارتنا وثقافتنا الإسلامية وإدراكنا لأهمية العمق الاستراتيجي الأفريقي، فإننا نري في بعدنا العربي بعدًا مهمًا يتطلب مزيدًا من العمل المشترك في ظل التحديات التي تواجه عالمنا العربي في وجوده وكيانه وتماسكه، متطلعين إلي دور أكبر وحركة دءوب لجامعة الدول العربية بما يحقق جمع الشمل العربي، إذ نري أن هذا الأمر صار ملحًا، وأن المصلحة العربية المشتركة تقتضي أقصي درجات التنسيق والمشاركة في كل المجالات بما يحفظ للأمة العربية هويتها، ويحقق لها مجتمعة أمنها واستقرارها، ويسهم في القضاء علي الإرهاب في المنطقة، ويخلصها ويسهم في تخليص العالم كله من شر التطرف والإرهاب، آملين أن يُشكل عملنا المشترك قوة ضاغطة في جميع المحافل الدولية بما يسمع صوتنا للعالم، ويبرز أننا ضحايا ولسنا جلادين، وأننا في مقدمة المواجهين للإرهاب لأننا أكثر من يكتوي بناره، وأننا دعاة سلام لا دعاة حرب، غير أنه سلام لا يمكن أن يكون ولن يكون أبدًا استسلامًا، وأن هذه الأمة لن تستسلم ولن تموت، وأن روح المقاومة فيها لاتزال وستظل حية قوية، وأنها لا يمكن أن تكون صيدًا سهلاً لأعدائها، وأنها علي قدر المسئولية والتحديات، غير أن الأمر يتطلب تحركًا سريعًا علي كل المستويات قبل فوات الأوان، لأن الخطر داهم، والخطب شديد، والعدو شرس لا يهدأ ولا ينام، ويجب أن تكون يقظتنا أشد وهمتنا أعلي، لأن الأمر يتعلق بأصل وجودنا، فإما أن نكون أو ألا نكون، مع التأكيد علي أننا معًا سنكون قادرين علي تجاوز التحديات، معًا علي المستوي الوطني، والمستوي العربي، والمستوي الإسلامي، والمستوي الأفريقي، والمستوي الدولي، معًا مع الدول الصديقة والمحبة للسلام، معًا وفي كل ميدان بحسبه وما يناسبه، وليس أي من هذه العلاقات علي حساب علاقة أخري تتساوق معها أو تتوازي، علي أننا إن أحسنا إدارة الأمر فستكون كل علاقة منها دعمًا للعلاقات الأخري، وبما يحقق مصالح الجميع، إذن ينبغي علي كل طرف أن يحمل الخير لنفسه ولغيره وللإنسانية لنحيا معًا حياة هادئة هانئة، لا أن تتحول الساحة الدولية إلي صراعات مختلفة لا تبقي ولا تذر، ولا تعود بالخير علي أحد، فالعاقل من يعمل للسلام له ولغيره، والأحمق من يسعي للهلاك والدمار والقلاقل والفتن، فإن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبي لمن جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وإنا لنرجو أن نكون منهم إن شاء الله تعالي.