نقابة الأطباء تكرم رموز المهنة والنقباء السابقين في احتفالية يوم الطبيب    استخراج 1023 شهادة بيانات للتصالحات بمراكز الشرقية    مواصفات وأسعار سيات إبيزا 2024 بعد انخفاضها 100 ألف جنيه    بعثة البنك الدولي تزور محطات رصد جودة الهواء ومركز الحد من المخاطر    محافظ شمال سيناء يستقبل نائبة رئيس الوزراء ووزيرة خارجية سلوفينيا    وزير التموين: مصر قدمت 80 ٪ من إجمالي الدعم المقدم لقطاع غزة    آخرها هجوم على الاونروا بالقدس.. حرب الاحتلال على منظمات الإغاثة بفلسطين    الدوري الإنجليزي، مانشستر سيتي يتقدم على فولهام بالشوط الأول    أخبار الأهلي : طلبات مفاجئه للشيبي للتنازل عن قضية الشحات    تفاصيل وفاة معلم اللغة العربية بمدرسة التربية الفكرية في الأقصر    مغني المهرجانات «عنبة» ينجو من الموت في حادث سير    وزير الصحة باحتفالية يوم الطبيب: الأطباء في عين وقلب الرئيس السيسي    تشغيل قسم الأطفال بمركز الأورام الجديد في كفر الشيخ (صور)    رئيس الوزراء: إطلاق أول خط لإنتاج السيارات في مصر العام المقبل    «الأرصاد» تكشف حقيقة وصول عاصفة بورسعيد الرملية إلى سماء القاهرة    افتتاح الملتقى الهندسي للأعمال والوظائف بجامعة الإسكندرية    نتائج منافسات الرجال في اليوم الثاني من بطولة العالم للإسكواش 2024    الدوماني يعلن تشكيل المنصورة أمام سبورتنج    عقوبة استخدام الموبايل.. تفاصيل استعدادات جامعة عين شمس لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    البابا تواضروس يدشن كنيسة "العذراء" بالرحاب    محافظ أسوان: توريد 137 ألف طن قمح من النسبة المستهدفة بمعدل 37.5%    الإمارات تهاجم نتنياهو: لا يتمتع بأي صفة شرعية ولن نشارك بمخطط للمحتل في غزة    بعد ثبوت هلال ذي القعدة.. موعد بداية أطول إجازة للموظفين بمناسبة عيد الأضحى    ضبط المتهمة بالنصب والاحتيال على المواطنين في سوهاج    رئيس حزب الاتحاد: مصر صمام الأمان للقضية الفلسطينية    تسلل شخص لمتحف الشمع في لندن ووضع مجسم طفل على جاستن بيبر (صور)    اللجنة العليا لمهرجان المسرح المصري تجتمع لمناقشة تفاصيل الدورة ال17    باسم سمرة يكشف سر إيفيهات «يلا بينا» و«باي من غير سلام» في «العتاولة»    اجتماع لغرفة الصناعات الهندسية يكشف توافر 35% من مستلزمات صناعات الكراكات بمصر    التنمية المحلية: استرداد 2.3 مليون متر مربع بعد إزالة 10.8 ألف مبنى مخالف خلال المراحل الثلاثة من الموجة ال22    استشاري تغذية علاجية يوضح علاقة التوتر بالوزن (فيديو)    إحالة العاملين بمركز طب الأسرة بقرية الروافع بسوهاج إلى التحقيق    المفتي يحسم الجدل بشأن حكم إيداع الأموال في البنوك    «صفاقة لا حدود لها».. يوسف زيدان عن أنباء غلق مؤسسة تكوين: لا تنوي الدخول في مهاترات    وزيرة التضامن تشهد عرض المدرسة العربية للسينما والتليفزيون فيلم «نور عيني»    تشكيل مانشستر سيتي – تغيير وحيد في مواجهة فولام    التنمية المحلية: تنفيذ 5 دورات تدريبية بمركز سقارة لرفع كفاءة 159 من العاملين بالمحليات    وزيرة التضامن: 171 مشرفًا لحج الجمعيات.. «استخدام التكنولوجيا والرقمنة»    جدول ترتيب الدوري الإنجليزي قبل مباريات اليوم.. فرصة مانشستر سيتي الذهبية للصدارة    وزير الأوقاف: هدفنا بناء جيل جديد من الأئمة المثقفين أكثر وعيًا بقضايا العصر    معسكر مغلق لمنتخب الشاطئية استعدادًا لكأس الأمم الأفريقية    تداول أسئلة امتحان الكيمياء للصف الأول الثانوي الخاصة ب3 إدارات في محافظة الدقهلية    بعد وصفه ل«الموظفين» ب«لعنة مصر».. كيف رد مستخدمي «السوشيال ميديا» على عمرو أديب؟    بسبب «البدايات».. بسمة بوسيل ترند «جوجل» بعد مفاجأة تامر حسني .. ما القصة؟    رئيس هيئة الرعاية الصحية يتفقد المستشفيات والوحدات الصحية بالأقصر    جهاز المنصورة الجديدة: بيع 7 محال تجارية بجلسة مزاد علني    توريد 164 ألفا و870 طن قمح بكفر الشيخ حتى الآن    شروط وأحكام حج الغير وفقًا لدار الإفتاء المصرية    مصرع مهندس في حادث تصادم مروع على كورنيش النيل ببني سويف    أحمد حسن دروجبا: "لا يمكن أن تكون أسطورة من مباراة أو اثنين.. وهذا رأيي في شيكابالا"    حادثة عصام صاصا على الدائري: تفاصيل الحادث والتطورات القانونية وظهوره الأخير في حفل بدبي    مجلس الأمن يدعو إلى إجراء تحقيق مستقل وفوري في المقابر الجماعية المكتشفة بغزة    كرم جبر: أمريكا دولة متخبطة ولم تذرف دمعة واحدة للمذابح التي يقوم بها نتنياهو    طائرات الاحتلال الإسرائيلي تقصف منزلًا في شارع القصاصيب بجباليا شمال قطاع غزة    عمرو دياب يحيى حفلا غنائيا فى بيروت 15 يونيو    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد بهاء الدين ‮ ‬صديقا
نشر في أخبار الحوادث يوم 20 - 08 - 2016

كان اسمه‮ ‬غاندي‮! ‬أطلق عليه هذا الاسم أهل بيت والده عبد العال أفندي شحاتة،‮ ‬فقد كان صغير الجسم أسمر نحيلاً‮ ‬وعلي وجهه نظارة تدل علي إمعانه في القراءة،‮ ‬فمنذ مطلع حياته كان‮ ‬يصرف الوقت منكمشاً‮ ‬في رأس سريره وحوله الكتب‮ ‬يلتهمها‮. ‬وواضح أن اسم‮ ‬غاندي كان اسم دعابة دلّ‮ ‬علي محبة أخواته،‮ ‬ناهد الأخت الكبري التي تولت العناية به وخففت عنه وطأة الحزن بعد وفاة والدته عندما كان في سن الثانية عشرة،‮ ‬هذا الحزن الذي بقي معه لم‮ ‬يبرحه أبداً،‮ ‬سوسن وزيزف وليلي‮ ‬ينشرن الطمأنينة حوله،‮ ‬كصوت المجموعة في أعمال سوفوكليس‮ ‬يدخلن الهدوء علي النفس‮ ‬غير المستقرة وبعثن الأمل في هذا الجو المأساوي الذي أحاط به بعد أن‮ ‬غادرت أمه الدنيا‮.‬
ولنظارته تجربة في حياته عندما اكتشف حكيم العين أن إحدي عينيه كانت سليمة تماماً‮ ‬بينما الأخري ضعيفة جداً‮ ‬تكاد تفقد البصر‮. ‬وكانت وسيلة الطبيب لإنقاذ العين وتنشيطها علي الرؤية هي أن‮ ‬يستر العين السليمة بقطعة من القماش الأسود ويترك العين الضعيفة تقوم بمهمة النظر حتي تقوي وتصل إلي مستوي العين السليمة‮. ‬ولم‮ ‬يفلح هذا العلاج الذي استمر حوالي السنة إلا بشكل محدود وانتهي الأمر بأن صنع الطبيب نظارة‮ ‬يتوازن بها النظر بين العينين،‮ ‬وترك بهاء‮ ‬يواصل كفاحه في عالم الكتب الذي بدأه عندما دخل المدرسة وهو لم‮ ‬يبلغ‮ ‬السابعة بعد‮.‬
ولم‮ ‬ينشأ اسم‮ ‬غاندي من مجرد تشابه في الجسم الصغير النحيل بل كان أيضا‮ ‬يدل علي ولعه الشديد بقراءة كل ما‮ ‬يقع في‮ ‬يده من كتابات المهاتما؛ كان‮ ‬يتأثر بوجوده الأسطوري،‮ ‬بزهده وقناعته في حياته الخاصة،‮ ‬وطموحه الشديد لتحرير الهند من الوجود البريطاني وأمله في وحدتها علي قواعد التسامح،‮ ‬وكان أكثر ما‮ ‬ينشده بهاء هو التعلم من إنسانيته وإيمانه بجودة البشر وحقهم في الحياة في كرامة وسعادة‮.‬
وكان من الطبيعي أن‮ ‬ينتقل إعجابه إلي تلميذ المهاتما وزميله في الكفاح لا سترجاع حرية الهند،‮ ‬جواهر لال نهرو،‮ ‬وقد أحضرت له عندما بدأت صداقتنا مجموعة رسائل نهرو التي كتبها عندما كان في السجن إلي ابنته أنديرا وكانت قد صدرت بعنوان ملامح من تاريخ العالم فكان‮ ‬يقرأ منها في كل حين،‮ ‬حتي عندما سنحت له الفرصة بعد ذلك ترجم بعضها في كتاب الثورات الكبري‮. ‬وكنت أظن أنه كان‮ ‬يشعر كأنه من أبناء نهرو وأن هذه الرسائل كانت موجهة إليه‮. ‬وكان‮ ‬يعلق في مكتبه في المنزل عند أطراف بساتين الجيزة صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود لنهرو التقطها الفنان‮ ‬يوسف كارش‮.‬
وحدث بعد أن أصبح كاتباً‮ ‬معروفاً‮ ‬أن دعي لزيارة الهند في سنة‮ ‬1957‮ ‬وقضي فيها عدة أسابيع‮. ‬لقيته بعدها فسألته عن شعوره،‮ ‬وكنت أعلم كيف استولي علينا الاهتمام بالهند وغاندي ونهرو في شبابنا المبكر،‮ ‬فقال لي وعلي وجهه علامة الأسف‮: "‬لا شك أن استرجاع الحرية كان عملاً‮ ‬عظيما،‮ ‬فقد أكد نهرو استقلال الهند ونجاحها في تكوين حكم ديمقراطي برغم الصعوبات البالغة،‮ ‬التقسيم مثلا،‮ ‬لكن هناك أمر جعلني أشعر بخيبة الأمل وهو تعثر الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي،‮ ‬فما زال الفقر منتشراً‮ ‬ورؤية الناس علي هذه الحالة من البؤس الشديد تبعث علي الحزن‮".‬
وفي خريف سنة‮ ‬1948‮ ‬بدأت أقرأ مجلة شهرية محدودة التوزيع اسمها الفصول وصاحبها محمد زكي عبد القادر،‮ ‬وكان من الكتاب ذوي الفكر النزيه‮. ‬وقد أصبح هدف‮ ‬غضب السراي لأنه كان ممن‮ ‬يدافعون عن الدستور بحرارة‮. ‬ولما تولي إسماعيل صدقي رئاسة الوزارة بعد استقالة وزارة النقراشي عقب حادث كوبري عباس سنة‮ ‬1946،‮ ‬كان من بين أغراضه القضاء علي كل من هو صاحب فكر حر تحت ستار محاربة الشيوعية،‮ ‬واستهدف عدداً‮ ‬من الكتاب والمثقفين مثل محمد مندور ومحمد زكي عبد القادر وسلامة موسي بالرغم من أنه لم‮ ‬يكن لأي منهم صلة بالحركة الشيوعية،‮ ‬وكان من الواضح أن‮ ‬غاية الحملة هي إرهاب الفكر المصري الجديد الذي بدأ‮ ‬ينمو عقب الحرب العالمية الثانية في سنة‮ ‬1945.‬‮ ‬وكان محمد زكي عبد القادر بسمعته النظيفة قد استقطب عدداً‮ ‬من المفكرين من الشباب وغيرهم منهم مريت‮ ‬غالي أول من نادي بالإصلاح الزراعي ضمن إطار عقلاني منظم‮. ‬أما مجلة الفصول فكانت قد أخذت شكلاً‮ ‬حديثاً‮ ‬جذاباً‮ ‬مقروءاً،‮ ‬وذلك بفضل محرر جديد بدأ اسمه‮ ‬يظهر علي صفحاتها‮: ‬أحمد بهاء الدين‮. ‬وكنت وصديقي نعمان عاشور نرقب في ذلك الحين هذه الأسماء الجديدة ونناقش ما تكتب‮. ‬وسألت نعمان عما‮ ‬يظن في هذا الوجه الجديد،‮ ‬فأجاب بأنه‮ ‬يعتقد أن الكاتب الذي‮ ‬ينشر باسم أحمد بهاء الدين هو كاتب ذكي محنك،‮ ‬لابد وأنه من الشخصيات المجربة،‮ ‬وقد آثر أن‮ ‬يكتب باسم أحمد بهاء الدين‮: "‬هذا الاسم متماسك متكامل ولا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون اسماً‮ ‬طبيعياً،‮ ‬إنه دون شك اسم مستعار انتحله رجل مهم من السياسة أو الاقتصاد أو المحاماة‮". ‬وعلي أنني لم أقتنع تماماً‮ ‬بافتراض نعمان عاشور،‮ ‬لكنني وجدته مقبولاً‮. ‬كانت تلك الأيام مليئة بالأمور الغريبة،‮ ‬فيها مزيج عجيب من هول الحكم المتعسف وتجمع الفكر المتحرر من الجيل السابق الذي ظهر أولا سنة‮ ‬1919،‮ ‬كانت وزارات القصر تلاحق المثقفين حتي السجون وفي الوقت نفسه‮ ‬يكون بين أعضائها عبد الحميد بدوي ومحمد حسين هيكل وعبد الرزاق السنهوري وعلي عبد الرازق‮.‬
حتي وقعت مفاجأة،‮ ‬فقد جاءني نعمان ذات‮ ‬يوم‮ ‬يقول إن أحمد بهاء الدين ليس اسماً‮ ‬مستعاراً‮ ‬بل هو اسم حقيقي لمحام شاب‮ ‬يعمل بوزارة المعارف،‮ ‬وقد تبين له هذا من خلال شخص‮ ‬يعرفه علي صلة بمحرر مجلة الفصول‮. ‬قال نعمان إن صديقه،‮ ‬ليؤكد حقيقة قوله،‮ ‬علي استعداد ليأخذنا معاً‮ ‬إلي مجلة الفصول ويقدمنا إلي محررها‮.‬
وذهبنا إلي المجلة ذات‮ ‬يوم عند الساعة الخامسة بعد الظهر في مكتب محمد زكي عبد القادر للمحاماة في شارع شريف،‮ ‬في بناء قديم من القرن التاسع عشر في نقطة تواجه البنك الأهلي ومقهي الأنجلو،‮ ‬وفي‮ ‬غرفة صغيرة نظيفة قليلة الضوء مكتب جلس خلفه شاب في الواحد والعشرين من العمر‮.‬
قال لي نعمان عقب هذه الزيارة إن أول انطباع تكون لديه أن أحمد بهاء الدين هو صورة‮ "‬مخلق منطق‮" ‬للمصري أفندي كما كان‮ ‬يرسمه صاروخان في مجلة آخر ساعة‮. ‬كانت هذه الملاحظة في محلها‮. ‬وقد تأملت طويلاً‮ ‬صدق معناها بعد أو توثقت علاقتنا واتصلت مدي السنين‮: ‬الذكاء والصوت الهادي والطبع الدمث،‮ ‬بل أكثر من هذا كله صورة المصري الوديع الذي‮ ‬يحمل إرادة صلبة ونفساً‮ ‬أبيه‮. ‬وما زلت حتي اليوم أعجب كيف تتصل الأسماء بشخصيات أصحابها،‮ ‬فإن بهاء هو مزيج ساحر بين‮ ‬غاندي والمصري أفندي،‮ ‬وعندما أتذكر الاسم الثالث الذي أطلقه عليه زملاؤه وهو الأستاذ دهاء إعجاباً‮ ‬بالذكاء المتوهج أجدني أتمثل الشخصية كاملة‮.‬
بعد زيارة التعارف بدأت أزور بهاء في مجلة الفصول وأحياناً‮ ‬في مكتبه اليومي حيث كان منذ أواخر سنة‮ ‬1947‮ ‬موظفاً‮ ‬في إدارة التحقيقات بوزارة المعارف،‮ ‬وقد ذكر لي بصوت الفخر والاعتزاز أنها الإدارة التي كان‮ ‬يرأسها توفيق الحكيم في الماضي القريب‮.‬
في السنة الأخيرة من دراسته في كلية الحقوق‮ (‬1943‮-‬1947‮) ‬كان‮ ‬يتصور أنه سوف‮ ‬يتولي عملاً‮ ‬مثل هذا،‮ ‬فقد استهوته علاقة الإنسان بالقانون،‮ ‬وكان القانون في نظرته إلي الحاكم والمحكوم سواسية هو الحل لمشاكل الظلم والظلمة التي كانت تسود مصر‮. ‬وقد حدث وهو في السنة الثالثة أن وجد نفسه أمام الظلم وجهاً‮ ‬لوجه،‮ ‬إذ خرج‮ ‬يوم‮ ‬9‮ ‬فبراير سنة‮ ‬1946‮ ‬مع زملائه في مظاهرة احتجاجية سلمية،‮ ‬ومشي مع الجمع في شارع المدارس نحو ميدان الجيزة ثم اتجه إلي كوبري عباس،‮ ‬ولم‮ ‬يكن هناك جسر آخر‮ ‬يربط الجامعة بالجانب الثاني من النيل فقد كان هو الطريق المألوف،‮ ‬وكان هدف التجمع الالتقاء بطلبه كلية الطب في القصر العيني ثم السير نحو دار الحكومة في لاظوغلي‮. ‬عندما وصل المتظاهرون إلي ما قبل الكوبري وجدوا المدخل إليه خالياً‮ ‬وهادئاً‮ ‬فاستمروا حتي بدأوا العبور،‮ ‬وفجأة ظهر رجال البوليس وبعضهم من الفرسان وأوسعوا المتظاهرين ضرباً‮ ‬بالعصي الغليظة،‮ ‬وكأن هذا لم‮ ‬يكف بل قام البوليس بفتح الكوبري ليمنع الذين حاولوا اللجوء إلي الطرف الآخر من الوصول إليه فوقع الكثير منهم في الماء وانحصر الآخرون بين الكوبري المفتوح والبوليس وحدثت معركة دامية‮. ‬قال بهاء‮: "‬إن وصف ما حدث بالمعركة مبالغة فلم‮ ‬يكن لدي المتظاهرين عصي أو أسلحة لمجابهة البوليس،‮ ‬كان البطش والضرب من جانب واحد،‮ ‬لقد كانت مجزرة‮". ‬وأصيب بهاء بعصا علي رأسه فتقت له جرحا كبيراً‮ ‬وسال الدم علي وجهه وتعذرت عليه الرؤية ثم فقد صوابه بعض الوقت‮. ‬ولا‮ ‬يذكر كيف انتهي الأمر‮. ‬قبض البوليس علي كثير من المتظاهرين وترك الجرحي لأمرهم،‮ ‬بعضهم التجأ إلي مستشفي الرمد القريب من مدخل الكوبري،‮ ‬والبعض عاد مترنحاً‮ ‬إلي سكنه إذ كانت البيوت حول ميدان الجيزة تمتلئ بمساكن الطلبة‮. ‬وعاد بهاء إلي بيته ولم‮ ‬يكن بعيداً،‮ ‬بعد أن تلقي‮ ‬إسعافا سريعاً‮ ‬والتزم الفراش في شبه‮ ‬غيبوبة استمرت عدة أيام‮.‬
لم تكن أيام الجامعة كلها مفزعة علي هذا النحو‮. ‬كان‮ ‬يعرف عن بهاء ولعه الشديد بالقراءة،‮ ‬كما بدت تظهر معالم الأسلوب الرائق في كتابته،‮ ‬وكان‮ ‬يحفظ صفحات من كتب طه حسين‮ ‬يرددها بين زملائه من الأيام ودعاء الكروان‮.‬
وصادقه مرة طالب كان‮ ‬يواجه الدراسة بصعوبة،‮ ‬فكان‮ ‬يقصد مشورة بهاء بعد كل محاضرة ويسأله أن‮ ‬يشرح له بعضها أو بعض النصوص في الكتب القانونية،‮ ‬ولم‮ ‬يكن بهاء‮ ‬يبخل علي أحد بما لديه،‮ ‬غير أن هذا الطالب لزم جانبه زمناً‮ ‬حتي جاءه مرة بطلب‮ ‬غريب وهو أن‮ ‬يكتب له قصيدة ليرسلها باسمه‮ (‬أي اسم الطالب‮) ‬إلي فتاة وقع في‮ ‬غرامها ويرغب أن‮ ‬يعبر لها عن حبه‮. ‬في أول الأمر اعتذر له بهاء بأنه لم‮ ‬يتقن كتابه الشعر حتي‮ ‬يلبي مثل هذا الطلب،‮ ‬لكن العاشق الولهان لم‮ ‬يصدق،‮ ‬هل هذا معقول؟ أحمد بهاء الدين لا‮ ‬يقدر علي كتابة قصيدة؟ وألح في طلبه‮ ‬يوماً‮ ‬بعد‮ ‬يوم،‮ ‬ولم‮ ‬يستطع بهاء أن‮ ‬يقنعه بأن‮ ‬يتوقف،‮ ‬وأصبح الإلحاح شديداً‮ ‬أكثر من مرة كل‮ ‬يوم حتي قال له بهاء‮: "‬هذه قصيدتك وهي ليست باللغة الفصحي تماماً‮ ‬ولكنها ستصل إلي قلب حبيبتك بدون تعب‮".‬
‮"‬ليه‮ ‬يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين‮/ ‬والعين تتابعك وطبعك محتشم ورزين‮/ ‬ملفوف وزاهي‮ ‬يا ساهي لم تبوح للعين‮/ ‬بكلمة منك كأنك سر بين اتنين‮/ ‬حسنك في كونك بلونك تبهج المقهور‮/ ‬اللي‮ ‬يزوره سميره في الظلام مستور‮/ ‬حطوك خميلة جميلة فوق صدور الغيد‮/ ‬تسمع وتسرق‮ ‬يا أزرق همسه التنهيد‮/ ‬اسمع وقوللي مين اللي قال معايا آه‮/ ‬بقولها وحدي لوحدي والأسي هواه‮"‬
واختطف العاشق الملح القصيدة وطار بها،‮ ‬ولم‮ ‬يعد ليسأل عن قصيدة أخري‮. ‬وكانت هذه آخر تجربة لبهاء في شخصية سيرانو‮ ‬يتوجه بشعره إلي روكسان من خلف القناع‮. ‬كانت القصيدة كلمات دور البنفسج الشهير لصالح عبد الحي من شعر محمود بيرم التونسي‮.‬
في الأسابيع الأولي من معرفتنا أخذت أدرك الجوانب الأصيلة في شخصية صديقي الجديد،‮ ‬أولها الصدق والأمانة في المعرفة الذاتية،‮ ‬وكنت أظن أن تعلم القانون قد طوع نفسه ليصبح دائماً‮ ‬قاضياً‮ ‬يدرك ما له وما عليه،‮ ‬لكنني بعد حين تبينت أن هذه خصلة مصرية قد افتقدتها لدي الآخرين وهي الآن تظهر في شخص بهاء‮.‬
قال لي إنه‮ ‬يفكر منذ حين في إصدار عدد خاص من مجلة الفصول ليكون معداً‮ ‬للطبع في أواخر سنة‮ ‬1949‮ ‬عن مصر في النصف الأول من القرن العشرين،‮ ‬وطلب مني أن أفكر في موضوع أساهم به في هذا العدد،‮ ‬وقال إن الغرض ألا‮ ‬يمتدح العدد ما أنجزه المصريون في هذه الفترة لأن هذا شائع بل لينظر إلي مصر من الداخل ويعرّف معالم المسؤولية العامة،‮ ‬وسمعت منه في ذلك الحين قبل أن تطرح مسألة العمل السياسي واختلافها عن الشعارات،‮ ‬أن تقبل النقد من الداخل هو أول ما‮ ‬ينبغي أن‮ ‬يتعلمه الناس حتي لا‮ ‬يقع أحد في أحبولة الكذب،‮ ‬وأن الحاكم الذي‮ ‬يصيغ‮ ‬الكلمات لإغراء المحكوم وتغطية عينيه بالوهم إنما هو الذي‮ ‬يبسط الطريق إلي الفساد وعبادة العجز‮.‬
من أول الأمر أدركت أنني عثرت علي الصديق المتعقل‮. ‬كان الجو حولي‮ ‬يكتظ بالعقائديات والعبارات الكبيرة والتباري بين الشعارات،‮ ‬كل‮ ‬يزعم أنها وحدها تحمل إشارات الحق والعدالة‮.‬
‮-‬2‮-‬
لا بد لي هنا أن أقف أمام هذه العبارة‮: "‬الصديق المتعقل‮". ‬كنا معاً‮ ‬في مطلع العشرين من عمرينا،‮ ‬وكانت أيام التكوين بالنسبة إليّ‮ ‬تتأجّج بالانطباعات الحارة،‮ ‬فقد فارقت أسرتي قبل ذلك بسنوات،‮ ‬وأصبحت أكثر حاجة إلي تقويم هذا الدليل الداخلي وشذب تفكيري وضبطه بسلاح الصدق‮. ‬كل هذا وجدته لدي بهاء،‮ ‬كان كريماً‮ ‬في النصح،‮ ‬لا‮ ‬يقرأ شيئاً‮ ‬إلا ويسرع في مشاركته‮. ‬ولعل أعجب ما وجدت أن أحاديثه كانت كالنص المكتوب متسقة جيدة البناء،‮ ‬واكتشفت أن الساعات التي أجده فيها صامتاً‮ ‬يفرك أصابع‮ ‬يده الواحدة كأنه‮ ‬يعاني القلق والوسوسة مما كانت إلا ساعات التفكير المتصل،‮ ‬حتي إذا انطلقت أفكاره إلي أحاديثه ثم إلي مقالاته تبين لي هذا الجهد الذي بذله العقل في تكوين الفكر بعد أن مر بمراحل التشكيل والإعداد‮. ‬منذ أن عرفت بهاء لم‮ ‬يفارقني هذا الانطباع المبكر وهو هيمنة العقل‮.‬
لقد كنت وما زلت قليل الثقة بالتحليل النفسي،‮ ‬ومع ذلك أذكر أنني في السنة الأولي من معرفتي بهاء أطلقت لخيالي المجال في سبر شخصيته المتكاثفة؛ علمت منه أنه من أسرة أتت من الصعيد فتصورت أن رأس الأسرة إنسان صارم خلق من حول بهاء الصغير النحيل أسواراً‮ ‬من القيود والتقاليد‮. ‬من أجل هذا ظنت أنه لا‮ ‬يقدر علي إطلاق مشاعره إلي آخرها،‮ ‬فهو دائماً‮ ‬يكتم نفسه ويتركها تغلي من الداخل‮. ‬وأظن أن الكثيرين ممن عرفوه في ما بعد توصلوا إلي هذا التخمين،‮ ‬بل إن بعضهم عزا أزمته الصحية ‮ ‬الأخيرة إلي تراكم الشعور الذي أدي إلي الانفجار‮.‬
كتبت لعدد الفصول الخاص مقالاً‮ ‬مطولاً‮ ‬عن الصحافة في مصر في نصف قرن وكان مطابقاً‮ ‬لمعرفتي مصر وتربيتي علي أرضها لأنني بدأتها عن طريق قراءة الصحف ويظهر أن المقال نال قبول محمد زكي عبد القادر الذي طلب أن أقابله،‮ ‬وبعد ذلك أصبحت عضواً‮ ‬في أسرة الفصول أحضر ندوتها مساء كل خميس في منتصف الشهر‮.‬
قال لي بهاء بعد أن أصبحت من كتاب المجلة أن أضع في حسابي أنه ليست هناك أجور تدفع للمحررين،‮ ‬حتي هو كمسئول عن التحرير لا‮ ‬يتقاضي أجراً‮ ‬عن عمله،‮ ‬ولم أناقش هذا الأمر معه كثيراً‮ ‬لأنني اقتنعت برأيه وهو أن المجلة لها سمعة جيدة بين المثقفين،‮ ‬والكتابة فيها تتيح مجالاً‮ ‬لتعلم المهنة،‮ ‬ودار في خاطري أن هذا ما جعل بهاء‮ ‬يعطي جهده ووقته دون أجر،‮ ‬فقد كان دؤوبا في كتابته ومجدّاً‮ ‬في إدارة التحرير كي‮ ‬يتعلم المهنة‮.‬
لكن هذا لم‮ ‬يرض صديقي نعمان عاشور وأخذ‮ ‬يسلط نكتته اللاذعة علي المجلة وصاحبها‮. ‬في رأيه إنها مسألة مبدأ،‮ ‬إذ‮ ‬يشترط في احتراف أية مهنة أن‮ ‬يدفع أجر للممتهنين‮. ‬وكان‮ ‬يقول إن هذه محاولة لبعث تقليد من القرون الوسطي وهو تغطيه استغلال الأكبر للأصغر بعباءة التعليم‮. ‬وعندما كان‮ ‬يحضر ندوة الفصول في مساء الخميس كان‮ ‬يكثر من أكل الكنافة التي‮ ‬يأتي بها زكي عبد القادر معتقداً‮ ‬أنه‮ ‬يأخذ شيئاً‮ ‬من حقه لو أكل أكثر من‮ ‬غيره‮.‬
في أواخر سنة‮ ‬1949‮ ‬تزوجت وطفة فهمي عبده وهي فتاة من عائلة مصرية،‮ ‬أقامت حيناً‮ ‬في لبنان ثم عادت إلي مصر،‮ ‬وبدأت حياتي تتكيف حول هذا التطور الجديد،‮ ‬وكان نعمان عاشور الصديق الوحيد الذي‮ ‬يزورنا دائماً‮.‬
حتي جاء‮ ‬يوم قال لي بهاء إنه‮ ‬يرغب في دعوتي للعشاء في منزل عائلته في الجيزة،‮ ‬وحدد لي‮ ‬يوماً‮ ‬تبينت أنه نفس اليوم الذي كان علي أن أزوره لأعرض عليه بعض ما كتبت،‮ ‬فاقترح أن نذهب أنا ووطفة في الساعة الرابعة بعد الظهر إلي منزله وتبقي وطفة مع أخواته بينما نذهب نحن الاثنان إلي مكتب الفصول،‮ ‬وبعد أن‮ ‬ينتهي عملنا نعود إلي الجيزة حيث‮ ‬يكون العشاء جاهزاً‮ ‬ويكون والده قد وصل ليكون معنا‮.‬
من ميدان الإسماعيلية‮ (‬التحرير‮) ‬حيث كنا نقيم في بانسيون تملكه عائلة مجرية في شارع‮ ‬يوسف الجندي بالقرب من مكان عملي في مبني الجامعة العربية القديم،‮ ‬بدأنا طريقنا بالأوتوبيس إلي الجيزة التي كانت مألوفة لدي،‮ ‬إذ مكثت السنوات الأولي من إقامتي في مصر بين الجيزة والدقي،‮ ‬وعند ميدان الجيزة نزلنا وسرنا علي الأقدام إلي المنطقة الشمالية المحاذية لأراضي الجامعة،‮ ‬ومررنا في طريقنا في مبني شركة السجاير الكبير،‮ ‬قم قطعنا الخط الحديدي الذي‮ ‬يمر عليه القطار القادم من الصعيد إلي الوجه البحري،‮ ‬وسرنا علي سكة زراعية قصيرة حتي وصلنا بيتاً‮ ‬وصعدنا إلي الطابق الثالث ودخلنا عالم عبد العال أفندي شحاتة‮.‬
قرأت الآن الجملة الأخيرة التي كتبتها،‮ ‬وتساءلت لماذا أشير إلي والد بهاء مع لقب‮ "‬أفندي‮"‬؟ من المعروف أنه قبل سنة‮ ‬1952‮ ‬كانت هناك ألقاب في مصر،‮ ‬لكن لقب الأفندي لم‮ ‬يكن لقباً‮ ‬رسمياً‮ ‬يأتي بأمر ملكي،‮ ‬كان لقباً‮ ‬يطلق عامة علي الإنسان المتعلم وقد ازدادت أهميته بعد ثورة‮ ‬1919‮ ‬عندما التقي أفنديّو مصطفي كامل بالشباب المتعلم الذي التفّ‮ ‬حول سعد زغلول وكان بديهياً‮ ‬أن‮ ‬يصبح معظمهم من موظفي الحكومة،‮ ‬وكان‮ ‬يدفعهم الطموح لرفع المستوي الاقتصادي والرغبة في التعلم والروح الجانحة بحب مصر‮. ‬جاء عبد العال أفندي من الجنوب،‮ ‬من قرية الدوير بجانب أسيوط،‮ ‬وتعلم والتحق بوزارة الأوقاف واستقر بعائلته في الإسكندرية حيث ولد بهاء سنة‮ ‬1927،‮ ‬انتقل إلي القاهرة ومكث فيها بعد وفاة زوجته التي لم‮ ‬يتزوج بعدها عاكفاً‮ ‬علي تربية أولاده‮.‬
كانت الشقة في آخر الطريق الزراعي فسيحة مضيئة من جوانبها الأربعة في وسطها‮ ‬غرفة الجلوس التي تحيط بها‮ ‬غرف النوم وغرفة الضيوف والمنافع‮. ‬كانت ناهد سيدة البيت وهي تكبر بهاء بسبع سنوات،‮ ‬وهي بالنسبة إلي الجميع كالأم الشابة تشرف علي تربية سوسن التي تشرق بابتسامتها،‮ ‬وزيزف الدائبة الجادة،‮ ‬وليلي البنت الصغري الحالمة،‮ ‬وكانت زيزف وليلي في الوقت الذي بدأت حياتنا معهن في المدارس الثانوية‮. ‬في آخر‮ ‬غرفة الجلوس نحو الشمال كانت‮ ‬غرفة بهاء بها سرير ومكتب صغير وكتب تملأ الحائط خلف المكتب‮. ‬وكانت الغرفة نقطة المركز تمتلئ بالأخوات عندما‮ ‬يقتضي الأمر عقد مؤتمر عائلي‮. ‬ولا أظن أن الغرفة‮ ‬استقبلت زائراً‮ ‬غريبا من الخارج قبل زيارتي‮. ‬ولم‮ ‬يكن عبد العال أفندي في البيت وأذكر أنني حتي ذلك اليوم كنت أتصوره رجلا صعيدياً‮ ‬متشدداً‮. ‬خلال دقائق بدت وطفة وكأنها واحدة من أهل البيت فتركتها وذهبت مع بهاء‮.‬
عندما عدنا كان البيت‮ ‬يمتلئ بالضحك ولقيت عبد العال أفندي لأول مرة‮. ‬كان تصوري له معكوساً؛ إذا كان هناك من هو أكثر دماثة ووداعة من بهاء فهو عبد العال أفندي‮. ‬في حديثه عجالة وعباراته تتفاوت بين الملاحظة الجادة والنكتة،‮ ‬لا‮ ‬يخفي عليك شيئاً‮ ‬فهو وفدي من أول شبابه ويؤمن بأن حرية مصر ودستورها كائن واحد،‮ ‬وإنك لتلمس منبع الزهو في حياته،‮ ‬والشعور بالإنجاز والطمأنينة‮: ‬بهاء‮. ‬لقد تعلم بهاء علي النحو الذي‮ ‬يرغب فيه عبد العال أفندي لنفسه،‮ ‬وها هو الآن في عمل مبشر‮ ‬يفتح الطريق لعالم القضاء‮. ‬هذا الصعيدي الذي كافح ليقتلع نفسه وعائلته من أرض الفقر وتقاليد الثأر والانتقام‮ ‬يؤمن بالقانون‮.‬
بعد ذلك أصبحنا من الأسرة،‮ ‬كان عبد العال أفندي إذا رغب شيئاً‮ ‬لبناته لابد أن‮ ‬يشرك وطفة‮. ‬وكان أحب‮ ‬يوم لنا في السنة هو عيد ميلاد بهاء‮ ‬يوم‮ ‬11‮ ‬فبراير‮. (‬ولد بهاء‮ ‬يوم‮ ‬10‮ ‬فبراير‮ ‬1927‮ ‬لكن الأسرة فضلت الاحتفال به‮ ‬يوم‮ ‬11‮ ‬فبراير لأنه كان‮ ‬يوم عطلة‮).‬
أكتب هذا بعد مضي ما‮ ‬يقرب من نصف قرن،‮ ‬وكأن الأيام كانت تمر من‮ ‬غير ضيق أو عذاب‮. ‬لم تكن الصورة دائماً‮ ‬زاهية مزهرة‮. ‬ولعل المرة التي رأيت فيها عبد العال أفندي في حالة لا رجعة منها من خيبة الأمل هي‮ ‬يوم قرر بهاء التفرغ‮ ‬للعمل الصحفي‮. ‬فبعد زمن في إدارة التحقيقات في وزارة المعارف انتقل بهاء إلي مجلس الدولة ووجد أبوه في ذلك انتصاراً‮ ‬بالغاً،‮ ‬ثم بدأ‮ ‬ينشر بعض القطع في مجلة روز اليوسف،‮ ‬كان‮ ‬يأخذها بيده ويتركها مع بواب المجلة وأخذت تلفت الأنظار حتي استقر رأيه علي ترك العمل الحكومي والانصراف إلي الكتابة الصحفية بكليته‮. ‬أذكر أن عبد العال أفندي لم‮ ‬يعجبه الأمر وظهر عليه الألم واضحاً‮. ‬كان‮ ‬يظن أن الوظيفة في القضاء هي تحقيق لقمة آماله وأن الحقل الصحفي لا‮ ‬يحمل معه مثل هذا الاحترام والاستقرار‮.‬
كنت أزور بهاء في مكتبة بمجلس الدولة وكانت تبدو عليه علائم السعادة،‮ ‬ها هو‮ ‬يعمل في مؤسسة‮ ‬يرأسها أستاذه الروحي عبد الرزاق السنهوري،‮ ‬وتحت قيادته اكتسبت سمعة كبيرة لوقوفها في جانب الفرد أمام الدولة،‮ ‬وكأن بهاء قد تطلع طول حياته ليكون في صحبة أهل القضاء‮. ‬وأذكر بعد ذلك سنة‮ ‬1954‮ ‬عندما أُقصي السنهوري عن منصبه عنوة،‮ ‬لم‮ ‬يجد بهاء لهذا العمل عذراً‮ ‬مقنعاً،‮ ‬وظل هذا الحادث من الأمور التي عابها علي رجال الثورة وكان‮ ‬يذكره بألم وأسف‮.‬
قبل أن‮ ‬ينتقل بهاء إلي مجلس الدولة من إدارة التحقيقات كانت الحياة في مصر ما برحت متآكلة مضطربة وكانت حلول المشاكل منعدمة والسبيل مسدودة،‮ ‬مع هذا كان‮ ‬يبدو عليه أنه كان مكتفياً‮ ‬فقد كانت مشاركته في الوصول إلي الرأي العام متواضعة لكنها كانت تقنعه بأنه‮ ‬يساهم في التنوير في الأيام التي سادها الظلام المحدق‮.‬
كانت إدارة التحقيقات تضم شباباً‮ ‬تتوقد مواهبهم وأرواحهم مثل عبد الرحمن الشرقاوي وفتحي‮ ‬غانم،‮ ‬وكانت علاقة بهاء بفتحي‮ ‬غانم وثيقة فقد قدمني إليه وجعلني أشارك في الجلسات الفكرية التي كانت تعقد في بيته خلف دار العلوم عند شارع إسماعيل سري،‮ ‬وكان كل منهما‮ ‬يكمّل الآخر من جوانب عدة‮. ‬لفتحي‮ ‬غانم ولع شديد بالموسيقي الكلاسيكية الغربية،‮ ‬وفي طبعه شعلة رومانتيكية ظاهرة‮. ‬ولن أنسي إحدي هذه الجلسات حيث كان الغرض الاستماع إلي موسيقي ديميتري شوستاكوفيتش والمقارنة بين سيمفونيته الخامسة التي كتبها بعد النقد الشديد الذي ظهر في جريدة البرافدا والموسيقي التي كتبها بعد الحرب العالمية الثانية،‮ ‬وأكاد أظن حتي الآن أن فتحي‮ ‬غانم،‮ ‬وكان عنده حب شديد للمعاكسة،‮ ‬أراد أن‮ ‬يستجلب أصدقاءنا اليساريين إلي جدل حول هذا الموضوع‮. ‬أما بهاء فقد التزم الصمت،‮ ‬كان‮ ‬يحب الموسيقي وبالذات الموسيقي العربية الكلاسيكية ولم تكن تهمه دخائل الموسيقي الكلاسيكية الغربية وإن كان‮ ‬يحب سماعها،‮ ‬لذلك تفادي المناقشة كعادته ألا‮ ‬يناقش ما لا‮ ‬يعرفه‮.‬
في تلك الأيام أتيح لعبد الرحمن الشرقاوي السفر إلي باريس،‮ ‬وظن الكثيرون أنه ذهب ولن‮ ‬يعود،‮ ‬حتي وصلت منه ذات‮ ‬يوم رسالة كتبها علي شكل قصيدة،‮ ‬وجلس فتحي‮ ‬غانم علي أحد المكاتب‮ ‬يقرؤها بصوت عال وكان من حظي أن أكون حاضراً‮:‬
‮"‬الصديق الذي‮ ‬يكابد وحده أنا أدري بما تراكم عنده‮"‬ أنا أيضا في ذات‮ ‬يوم تمزقت ولم أدر كيف أبدأ بعده
غير أني عرفت أن حياتي موجة في اندفاق موجة الحياة
فإذا ما اعتزلت وحدي جفت قطراتي وأفلست ممكناتي
فالدم الحر في عروقي‮ ‬يجري ساخناً‮ ‬من تلاصقي بالجميع
فإذا ما اعتزلت وحدي في ضيقي تجمدت في صحاري الصقيع‮".‬
وأخذت الرسالة تتصاعد وصوت فتحي‮ ‬غانم‮ ‬يرتفع حتي بلغت ذروة النهاية‮:‬
‮"‬ها هي الأرض كلها تشهد الروع وفي مصر فتية‮ ‬يسأمون
عربدت ضيعة الفراغ‮ ‬عليهم فتشاكوا بأنهم مرهفون
يا صديقي ونحن من طينة أخري ستفني إن لم تعش في كفاح‮".‬
ونظرت إلي بهاء وكان‮ ‬يسمع الرسالة القصيدة،‮ ‬مطرق الرأس،‮ ‬فرأيت الدموع تتألق في عينيه‮.‬
وجاء‮ ‬يوم لا أظن أحداً‮ ‬ينساه وهو‮ ‬يوم السبت‮ ‬26‮ ‬يناير‮ ‬1952.‬‮ ‬لقد كنت طوال النصف الثاني من هذا اليوم المضطرب الحالك مع بهاء‮. ‬كنا قد اتفقنا قبل حين علي أن نخصص هذا اليوم للتجول علي المكتبات ثم العودة في المساء لتناول العشاء في بيت الجيزة،‮ ‬لذلك أخذت الأوتوبيس مع وطفة من الدقي إلي الجيزة‮ (‬بعد أن انتقلنا إلي شقة في شارع الجهيني في عمارة كانت ما تزال تحت الإنشاء وكنا قبلنا دعوة مصطفي سويف وفاطمة موسي للبقاء معهما عدة أيام حيث كانا‮ ‬يقيمان في عمارة مجاورة،‮ ‬وكانت ابنتهما أهداف ما زالت في شهور من العمر‮). ‬بعد ذلك ذهبت مع بهاء إلي ميدان الجيزة وأخذنا الأوتوبيس إلي ميدان الإسماعيلية‮ (‬التحرير‮). ‬أذكر هذا بشيء من التفصيل لأن اليوم الذي عُرف بحريق القاهرة قد ترك شعوراً‮ ‬بأن أحياء برمتها قد احترقت،‮ ‬وبسبب تحفظ راديو القاهرة في سرد الأخبار سرت إشاعات مهولة عن الحوادث‮.‬
كان الجو بارداً‮ ‬معتدلاً‮ ‬والشمس ساطعة،‮ ‬ومنذ أول شارع سليمان باشا‮ (‬طلعت حرب‮) ‬كانت رائحة الدخان تعبق في الجو،‮ ‬ولاحظنا أن الحريق قد نال بعض الأماكن في الميدان‮. ‬وبدأنا سيرنا في شارع قصر النيل،‮ ‬وكان‮ ‬غرض بهاء أن نسير حتي مكتب زكي عبد القادر الذي وجدناه محكم الإغلاق،‮ ‬فقد ظهر أن الساعي قد أترسه وذهب إلي بيته،‮ ‬وتابعنا السير بين الخرائب والحرائق حتي وصلنا إلي ميدان إبراهيم باشا‮ (‬الجمهورية‮) ‬بالقرب من كازينو بديعة وسينما أوبرا وقد أصابهما حريق كبير،‮ ‬ووصلنا إلي فندق الكونتيننتال ثم بعده فندق شبرد‮ (‬التاريخي‮) ‬الذي التهمه الحريق تماما،‮ ‬هناك حيث عسكر نابوليون وحيث قتل نائبه كليبر بيد سليمان الحلبي كان الجيش قد أخذ‮ ‬يحتل مواقعه في المدينة ويبعد الجموع القليلة عن أمكنة الحريق‮.‬
لا أذكر أن أحدنا قال شيئاً،‮ ‬فقد استولت علينا الدهشة والذهول،‮ ‬وأنا أسترجع هذه الذكريات لا أظن نفسي كنت كمثل بوزويل‮ ‬يمش إلي جانب جونسون‮ ‬يسجل ما‮ ‬يسمع أو أكرمان‮ ‬يلهث خلف جُوتِه ليدون أحاديثه وتعليقاته،‮ ‬كل ما‮ ‬يحضرني أن بهاء كان‮ ‬يحاول بطريقة العقلانية أن‮ ‬يصل إلي مفهوم لكل هذا التدمير،‮ ‬لقد لاحظ أن معظم الأمكنة كانت لها علاقة بالأجانب مثل المحلات التجارية والمقاهي والنوادي ودور السينما والفنادق والمكتبات أو بمعالم التغرّب كالمطاعم والمقاهي التي كان‮ ‬يقصدها المصريون إعجابا بالحضارة الغربية‮. ‬
أخذنا بالعودة إلي ميدان الإسماعيلية عن طريق شارع فؤاد‮ (‬26‮ ‬يوليو‮) ‬وبدأت تكثر المباني المحترقة وظننا أننا سنقف عند جروبي ونستريح بعد ثلاث ساعات من المشي البطيء وقد نستمع كما كانت العادة إلي الرباعية الوترية وهي تعزف ديبوسي أو موتسارت‮.‬
عندما وصلنا إلي المكان المقصود وجدنا أن جروبي قد احترق أيضا وقد أحاطت به قوات الجيش،‮ ‬والغريب أننا وجدنا الأتوبيس في مكانه في مدخل شارع القصر العيني فأخذناه إلي الجيزة‮. ‬وقال بهاء إن مصر‮ (‬القاهرة‮) ‬التي أصابتها الضربة الكبري هي مصر المتأوربة‮. ‬وحملت نفسي علي التفاؤل وقلت لابد بعد هذا كله أن تأتي أيام أحسن‮. ‬أتراني كنت خائفاً‮ ‬أقترب من الهذيان بعد أن رأيت أكثر ما كان‮ ‬يستهويني قد انحدر إلي هاوية العدم خلال ساعات من صباح هذا اليوم‮. ‬كان الخيط الذي‮ ‬يربط التأورب والمدنية رفيعاً‮ ‬جداً‮.‬
ذات‮ ‬يوم سنة‮ ‬1951،‮ ‬كنت أنتظر بهاء في مكتبه في مجلة الفصول حين جاء الساعي ووراءه رجل طويل القامة بدت عليه مظاهر الجدار،‮ ‬وأشار الساعي إليّ‮ ‬واختفي‮. ‬سألني الرجل المحترم‮: "‬هل أنت الأستاذ أحمد بهاء الدين"؟ وقبل أن أجيبه تابع‮ ‬يقول إنه من القرّاء المعجبين،‮ ‬فهو من بغداد حيث تصل الفصول في أعداد قليلة،‮ ‬أول شيء‮ ‬يقرؤه هو المقال الرئيس‮. ‬وبينما كنت أحاول أن أصحح له ظنه سارع بالقول بأنه محام اشترك كوزير للعدل سنة‮ ‬1949‮ ‬في وزارة علي جودة الأيوبي عن الحزب الوطني الديموقراطي التي جاءت بعد تزايد الاحتجاج علي محاولة تجديد المعاهدة مع بريطانيا وأنه الآن سكرتير عام الحزب‮. ‬إنه حسين جميل‮. ‬عند ذلك وجدت أنه لا بد لي أن أقطع حديثه بأي شكل،‮ ‬فقلت إنني لست أحمد بهاء الدين الذي لم‮ ‬يصل إلي مكتبه بعد‮. ‬وحاولت تمضية الوقت بالإجابة عن أسئلته،‮ ‬عن عمر بهاء ودراسته،‮ ‬وقد دهش عندما عرف أنه لم‮ ‬يبلغ‮ ‬الخامسة والعشرين من العمر بعد،‮ ‬وتوقعت أن‮ ‬يسألني شيئا عن مظهره وكنت أنوي أن أقول إنه‮ ‬يبدو وكأنه ما زال في سن السابعة عشرة‮. ‬بعد حين تساءل حسين جميل عما إذا كان‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يتركني بضع دقائق ليذهب إلي إحدي المكتبات القريبة حيث‮ ‬يتوقع كتاباً‮ ‬طلبه هذا الصباح‮.‬
بعد حين وصل بهاء فحدثته عن الزائر ثم ذكرت له أنه سأل عن سنه،‮ ‬وأضفت من عندي وطوله وعرضه وأنني عندما قلت إنه مازال شاباً‮ ‬أعرب عن دهشته‮. ‬وتوقفت لحظة فقال بهاء‮: "‬لعله دهش عندما عرف أنني صغير الحجم،‮ ‬عندما‮ ‬يعود قل له إن هذا الشخص ليس أحمد بهاء الدين بكامله وإن له بقية ستصل قبل آخر اليوم‮". ‬وكانت المقابلة بين بهاء وحسين جميل بداية صداقة وطيدة كما كانت أو خطوة نحو الصلة بينه وبين المثقفين العرب وبدء دخوله بمصريته العميقة إلي حلقة النور العربية التي أثرت في تفكيره السياسي تأثيراً‮ ‬بالغاً‮.‬
استرعت مقالات بهاء القصيرة التي أخذت تظهر في مجلة روز اليوسف اهتمام الكثيرين وتزايد قراؤه،‮ ‬وبديهي أن تكون‮ ‬روز‮ (‬فاطمة‮) ‬اليوسف نفسها أكثر هؤلاء مراقبة لظهور هذا الكاتب الجديد،‮ ‬وعندما انضم إلي أسرة تحرير المجلة بدأت تقرأ ما‮ ‬يكتب عن كثب وقرّبته من دائرتها‮. ‬أقول الآن إن روز اليوسف بدأت‮ "‬تقرأ‮" ‬بشيء من التحفّظ،‮ ‬فقد كان معروفاً‮ ‬عنها أنها تقرأ بصعوبة ولا تكتب أبداً،‮ ‬وقد لفت هذا نظر بهاء فقد كان في شخصية هذه السيدة إعجاز ساحر لمسه من أول مرة‮. ‬وأذكر أنه عاد من زيارته لها حيث تناول طعام الغداء في منزلها ولاحظ زوجها الذي كان‮ ‬يصغرها بسنوات عديدة‮ ‬يجلس هادئاً‮ ‬صامتاً،‮ ‬وقال لي بهاء بعد عودته من الغذاء‮: "‬لقد تبيّت بعد حين أن زوج روز اليوسف اسمه أحمد قاسم أمين وأنه حفيد رجل النهضة المصرية الكبير قاسم أمين الذي كان أول من دعا إلي حرية المرأة المصرية‮" ‬وكأنه لم‮ ‬يصدق أذنه عندما سمع الاسم وشعر بأنه‮ ‬يقترب فعلاً‮ ‬من عهد النهضة عندما وجد أحمد قاسم أمين‮ ‬يجلس أمامه‮.‬
تقرّبت روز اليوسف من بهاء كثيراً‮ ‬وكانت تصر عليه أن‮ ‬يمر عليها في مكتبها كل‮ ‬يوم،‮ ‬وعندما خُلع الملك فاروق وغادر البلاد في‮ ‬يوليو سنة‮ ‬1952‮ ‬سارعت روز اليوسف بتكليف بهاء بكتابة كتاب عن فاروق وعهده وقد صدر باسم فاروق ملكاً‮. ‬وكان القرار بتكليف بهاء دون إحسان عبد القدوس،‮ ‬رئيس تحرير المجلة،‮ ‬بكتابة هذا الكتاب اعترافاً‮ ‬بقدرة بهاء،‮ ‬وأن الكتاب ستكون له أهمية تاريخية لا صحفية آنية فحسب،‮ ‬وأن بهاء ككاتب جديد سيعطي الكتاب صوتاً‮ ‬موثوقاً‮.‬
كما قلت سابقاً‮ ‬لا أحب أن أدخل في بحث جدوي أسلوب التحليل النفسي في كتابة الترجمة الشخصية وهذا أمر شائع في هذه الأيام‮ (‬1993‮) ‬ويعرف باسم السيكوبيوغرافي،‮ ‬لأني أظن أن هذا الأسلوب‮ ‬يقدم أجوبة سهلة لأسئلة صعبة،‮ ‬فمن السهولة أن نقول إن السبب في قبول بهاء مكاناً‮ ‬تحت جناح روز اليوسف أنه عثر علي الأم التي فقدها وما برح‮ ‬يذكرها‮. ‬إن الإعجاب المتبادل الذي نشأ بين روز اليوسف وبهاء أتي عن إدراك كل منهما لنوعية ذكاء الآخر،‮ ‬وقد تُوِّجت هذه العلاقة عندما طلبت إليه أن‮ ‬يكتب‮ "‬مذكراتها‮" ‬تحت اسمها مستنداً‮ ‬إلي أحاديثها الشفوية‮.‬
كانت روز اليوسف قبل أن تدخل حقل الصحافة في العشرينيات،‮ ‬بواسطة محمد التابعي الذي كان‮ ‬غرضه أن‮ ‬يصدر مجلة تستغل اسم الفنانة الكبيرة،‮ ‬ممثلة شهيرة في المسرحيات الهزلية الغنائية،‮ ‬ثم لفتت نظر عزيز عيد‮ (‬أكبر المخرجين المسرحيين وأكثرهم فنية‮) ‬فتزوجها ودرّبها للأدوار الجدية التي كان أشهرها دورها في‮ ‬غادة الكاميليا‮. ‬وكانت تحفظ أدوارها بالسمع،‮ ‬أي بعد أن تقرأ لها بواسطة المدربين‮. ‬وكان ومازال هذا التقليد شائعا بين المغنين والمغنيات الذين‮ ‬يتعلمون الأغاني بالسمع،‮ ‬حتي أيامنا هذه وفي الغرب أيضاً‮ ‬فمطرب الأوبرا الشهير لوتشيانو بافاروتي لا‮ ‬يقرأ الموسيقي ويتعلم أدواره بالأذن‮.‬
هذه الدربة ساعدت علي تنمية حساسية روز اليوسف نحو اللغة فأصبحت حادة ومميزة،‮ ‬والتي إلي جانب الذكاء الشديد استرعت نظر بهاء الذي كان صادقاً‮ ‬في إعجابه وتقديره‮. ‬وقد ‮ ‬آذتني ملاحظات الآخرين ففاتحت بهاء بالأمر‮. ‬هذا وإنني كنت أخشي أن تمعن روز اليوسف في نسج حياتها بنفسها مبتعدة عن الحقيقة لا سيما سنوات البداية في المسرح،‮ ‬وكنت أظن أنني أعرف شيئاً‮ ‬عن هذا بسبب دراستي لأدب وتاريخ المسرح،‮ ‬فقال لي إنه كان متردداً‮ ‬في أول الأمر وهو‮ ‬يعلم أن روز اليوسف كانت ترسم حياتها كما تريد،‮ ‬لكن النتيجة ستكون الحياة كما عاشتها وكما شكلتها والحقيقة بينهما،‮ ‬وأشار أنه لن تكون لديه القدرة ليحقق حياة روز اليوسف كما‮ ‬يفعل المؤرخ،‮ ‬ولو فعل هذا لقابلته بالمعارضة دون شك‮. ‬إنه‮ ‬يكتب حياة روز اليوسف كما سمعها منها‮.‬
عندما ظهر الكتاب باسم فاطمة اليوسف تبين أن الأجر كان متواضعاً،‮ ‬فإن روز اليوسف المعروفة بالشح في مكافأة محرريها رأت ألا تستثني أحداً،‮ ‬لكن الكتاب حمل في داخله بريق أسلوب بهاء ومعلومات هامة عن دخول روز اليوسف ميدان الصحافة ووقوفها في وجه المقاومة لأنها كانت من أهل الفن ولأنها امرأة وقد تحدثت بواسطة بهاء عن هذا كله بشجاعة وكرامة‮. ‬
إن كتاب روز اليوسف‮ ‬يذكرني اليوم بالسيرة‮ "‬الذاتية‮" ‬لمالكولم إكس التي كتبها ألكس هيلي والتي تعتبر من أهم الوثائق المعاصرة‮.‬
كانت مرحلة مجلة روز اليوسف‮ (‬1952‮-‬1958‮) ‬هامة وحاسمة في حياة بهاء فقد التزم خلالها تماماً‮ ‬بالكتابة الصحفية،‮ ‬وصدرت له كتب عدة‮ (‬أول كتاب نشره بهاء عندما كان محرراً‮ ‬لمجلة الفصول وموظفاً‮ ‬في الحكومة هو كتاب الاستعمار الأمريكي الجديد وهو نقد وتحليل اقتصادي سياسي لمشروع النقطة الرابعة الذي حاولت أمريكا تطبيقه كسباً‮ ‬لمصر إلي جانبها خلال حمي الحرب الباردة‮)‬،‮ ‬وأصبح اسمه ملء الأسماع،‮ ‬لا في مصر وحدها،‮ ‬بل في الوطن العربي،‮ ‬حيث ساهم بكتاباته في تنوير الرأي العام حول فكرة الوحدة العربية،‮ ‬وشهد قيام الوحدة بين سوريا ومصر التي وجد فيها من الناحية الإنسانية البحت‮ ‬انتصاراً‮ ‬شخصياً‮ ‬لكلينا،‮ ‬وقد كتب حول هذا مقالاً‮ ‬أثار مشاعري أكثر من أي شيء قرأته حتي ذلك الحين وبعده‮.‬
في هذه السنوات نمت علاقات بهاء العربية عن قناعة وتدبر،‮ ‬وأذكر في سنة‮ ‬1954‮ ‬عندما شاء إحسان عبد القدوس أن‮ ‬يضم إلي الفكرة الانعزالية التي كانت تنادي بفصل مصر عن الدول العربية‮ (‬ولابد لنا الآن أن ننظر إلي تلك الأيام نظرة موضوعية فقد جاءت بعد هزيمتي حرب فلسطين‮ ‬1948و‮ ‬1949‮ ‬ولقيت آذانا صاغية عند بعض الناس‮)‬،‮ ‬كتب إحسان عدة مقالات بعنوان‮ "‬مصر أولاً‮" ‬حتي ظهر مقال واحد بحجج حاسمة وأسلوب رائق بعنوان‮ "‬كلنا أولاً‮" ‬بقلم بهاء‮. ‬في هذا المقال ظهرت بذور الفكرة التي كنت أسمعها منه،‮ ‬وهي أن الأمة ذات الماضي الغني تتكون شخصيتها من الطبقات الحضارية التابعة التي مرت عليها،‮ ‬والنظرة إلي طبقة واحدة لابد أن تأتي من خلال الطبقات الأخري‮. ‬أخشي أن‮ ‬يكون عرضي لهذه الفكرة بشكل تجريدي جعلها تبدو معقدة ولكن أين لي من أسلوب بهاء وطلاقة فكره‮.‬
وأكثر ما أذكره عن نشاط بهاء في فترة روز اليوسف الوافرة هي حيويته التي انطلقت وفرشت ضوءاً‮ ‬باهراً،‮ ‬لا سيما حين تولي مهمة تأسيس وتحرير مجلة صباح الخير حيث أتيح له أن‮ ‬يجمع عدداً‮ ‬من الكفاءات الجديدة مثل عبد الغني أبو العينين وصلاح جاهين صاحب المواهب المتعددة‮ (‬كان كاتباً‮ ‬وشاعراً‮ ‬وفناناً‮ ‬وممثلاً‮) ‬والذي كان لبهاء فضل كبير في تطوره ونموه‮.‬
أظنني استطعت أن أصحح الآن صورة رسمتها عن‮ ‬غير قصد بأن بهاء هو رجل العقل فقط،‮ ‬فقد انطلق في هذه المدة بطاقة كالإعصار كما تأججت مشاعره العاطفية‮. ‬وسأركز علي قصتي حب في حياته ضمن هذه السنوات‮. ‬قدمني بهاء في أواخر سنة‮ ‬1954‮ ‬إلي آنسة صغيرة الحجم أنيسة الطبع فياضة النشاط،‮ ‬ومن حديثه ونظراتهما أدركت أن شيئاً‮ ‬هاماً‮ ‬قد أخذ‮ ‬يظهر في حياتهما ولقيتهما أنا وزوجتي عدة مرات حتي أعلنا علي‮ ‬يقين أن زواجهما سيتم خلال شهور الصيف،‮ ‬ثم جاءتني رسالة حزينة من بهاء‮ ‬يذكر لي أن الزواج لن‮ ‬يتم وأنهما اكتشفا تعارضاً‮ ‬في طباعهما‮. ‬وكنت أظن أن تعارض الطباع‮ ‬يكون أحيانا سبباً‮ ‬لحب دائم وزواج ناجح،‮ ‬وأدركت أن السبب الأهم هو تهيبهما من اتخاذ هذه الخطوة القاطعة‮.‬
عدت إلي القاهرة في صيف‮ ‬1958‮ ‬وأمضيت أكثر من شهر مع بهاء،‮ ‬حيث وجدته مبتهجاً‮ ‬يبدو عليه المرح وعذوبة الطبع برغم أعماله المتكاثرة،‮ ‬وذات‮ ‬يوم طلب مني أن ألتقي به بالقرب من سميراميس حيث سيمر عليّ‮ ‬بسيارته‮. ‬وفي الموعد توقفت السيارة ورأيت بجانب بهاء فتاة سمحة الوجه زكية الملامح،‮ ‬وبعد تعرفنا تنبهت إليه‮ ‬يرقب رد الفعل لدي،‮ ‬وكانت علي وجهه سيماء الفخر كلما قالت الفتاة شيئاً‮. ‬وأذكر حتي اليوم أن الحديث أخذ شكلاً‮ ‬غريباً‮ ‬إذ توجه نحو شكسبير ونزعته الثورية،‮ ‬كيف حدث هذا لا أدي‮. ‬كنت في ذلك الحين إذا دخلت حديثاً‮ ‬مثقفاً‮ ‬تظهر عليّ‮ ‬علائم الجدلية المشاكسة،‮ ‬وقد دهشت حين وجدت الحين إذا دخلت حديثاً‮ ‬مثقفاً‮ ‬تظهر علي علائم الجدلية المشاكسة‮. ‬وقد دهشت حين وجدت في الفتاة الذكية نداً‮ ‬قوياً‮ ‬فهي أيضا تملك قدرة جدلية شديدة البأس‮. ‬ولم‮ ‬يعلّق بهاء أهمية علي الحديث الذي كاد‮ ‬يشبه الخناقة حول شكسبير،‮ ‬وحاولت الالتجاء للصمت حتي لا‮ ‬يتجول اللقاء إلي كارثة،‮ ‬بينما ظل بهاء طول الوقت مبتسماً‮ ‬مما دل علي أنه‮ ‬يعرف طابع الفتاة كما كان‮ ‬يعرفني‮. ‬وأنا الآن أسال نفسي من‮ ‬غير جواب كيف تحول الحديث إلي أرض محايدة مسالمة؟ أذكر شيئاً‮ ‬قيل حول بيتهوفن وتكرار القوالب في موسيقاه،‮ ‬ولا شك أنني ازددت تقديراً‮ ‬لهذه الفتاة،‮ ‬وعندما نزلنا من السيارة تملكني الإعجاب بقوامها الفارع كأنها إيزيس‮. ‬ولم أكن قد دخلت مهنة التدريس الجامعي بعد حتي‮ ‬ينتظر مني بهاء أن أمنح الفتاة علامة النجاح في الامتحان،‮ ‬وأدركت بعد ذلك اللقاء أن ديزني روفائيل أرمانيوس هي في المكان الطبيعي،‮ ‬في قلب بهاء‮. ‬في المساء قال لي إنه تعرف بديزي في أواخر‮ ‬1956‮ ‬وإنه سائر نحو ارتباط حياتهما معاً‮. ‬بعد عودتنا إلي نيويورك في نهاية صيف‮ ‬1958‮ ‬أدركت من بهاء أن ديزي أصبحت حب حياته الكبير،‮ ‬وفي شهر مايو‮ ‬1959‮ ‬عُقد زواجهما الذي لم‮ ‬يخل من روح المغامرة،‮ ‬فقد اعترضت أسرتها،‮ ‬في أول الأمر لأسباب ظاهرة،‮ ‬فكان الزواج كما‮ ‬يسميه أهل الشام‮ "‬خطيفة‮" ‬ودخلت ديزي شقة الزوجية الخالية من العفش،‮ ‬بالملابس التي كانت عليها‮.‬
لم أعد إلي القاهرة حتي صيف‮ ‬1962،‮ ‬وكنت قد لقيت بهاء عندما أتي إلي نيويورك لحضور اجتماع الأمم المتحدة سنة‮ ‬1960،‮ ‬وقضينا جزءاً‮ ‬من الصيف في الإسكندرية مع ديزي وابنتهما ليلي التي ولدت في‮ ‬أكتوبر‮ ‬1960،‮ ‬حيث أخذنا بهاء في سيارته مع عائلته الصغيرة لزيارة توفيق الحكيم‮.‬
وقد آلمني أن أعود بعد حين من وفاة عبد العال أفندي فلا أجده هناك،‮ ‬فقد افتقدنا،‮ ‬بالذات زوجتي،‮ ‬حنانه الأبوي،‮ ‬وكان قد توفي بعد شهور من تقاعده من العمل الحكومي إثر نوبة قلبية حادة‮. ‬حتي اليوم لا أنسي نفسه الرحيمة وانفساح قلبه حين ضمنا إلي رحب أسرته‮. ‬وكانت هذه آخر زيارة لنا لمصر حتي أخر سنة‮ ‬1985.‬
من‮ ‬1962‮ ‬حتي‮ ‬1985‮ ‬كنت ألتقي ببهاء في نيويورك وواشنطن ومونتريال ولندن‮. ‬وعندما انتقلت إلي بتسبرغ‮ ‬كان بهاء‮ ‬ينتهز كل فرصة سانحة ليقضي بصحبة ديزي وقتاً‮ ‬معنا في هذه المدينة المنتحية عن نيويورك وواشنطن‮.‬
جاء بهاء وحده إلي نيويورك في صيف‮ ‬1964،‮ ‬وقال لنا عند وصوله‮ ‬يبدو أنه أتي في وقت‮ ‬غير ملائم فإن ديزي علي وشك الوضع ويظن أنه كان عليه تأجيل الرحلة‮. ‬في بذلك الحين اضطرت وطفة لدخول المستشفي لإجراء عملية جراحية صغيرة وكانت تعلم ما‮ ‬يحب بهاء من الطعام فأعدت لنا كل شيء ووضعته في الثلاجة،‮ ‬وكان بهاء الذواق‮ ‬يختار منه ما‮ ‬يشاء بين‮ ‬يوم وآخر‮. ‬في‮ ‬يوم من أيام أغسطس عدنا إلي البيت وكانت وطفة خرجت من المستشفي فأشارت إلي مظروف في‮ ‬يدها وقالت‮: "‬هذه برقية من ديزي مبروك إنه ولد‮" ‬واستولي الفرح علي بهاء وقال إنه جري الاتفاق مع ديزي علي تسميته زياد،‮ ‬ثم هرع إلي الثلاجة وسحب حلة الملوخية فوجدها متجمدة فأتي بها علي المائدة ومعه سكين حاد وأخذ‮ ‬ينشر من الحلة قطعة كبيرة ليضعها علي النار،‮ ‬واحتفلنا بمولد زياد بأكلة ملوخية شهية وبعد حين حضرت صافيناز كاظم وتابعنا الاحتفال حتي المساء‮.‬
أجدني الآن أعود إلي سنة‮ ‬1952.‬‮ ‬دلت الأيام التي تلت حريق القاهرة علي تفتت النظام في مصر واليأس من إصلاحه،‮ ‬فقد أقيلت وزارة الوفد بطريقة مهينة بعد أن صرف الحزب السنتين التي تولي فيهما الحكم آخر مرة في تملق الملك وحاشيته،‮ ‬وأدار فؤاد سراج الدين،‮ ‬سكرتير الوفد،‮ ‬دفة الأمور إرضاءً‮ ‬للقصر أو لميوله الشخصية بحيث وضع كل العناصر الجديدة في الحزب علي الهامش مثل محمد مندور وعبد العزيز فهمي وتبني مشروعات قوانين الصحافة القمعية،‮ ‬عندما تلقي من السراي أجر كل هذه الجهود بالإقالة لم‮ ‬يأسف الكثيرون علي مصير الوزارة التي خيبت الآمال،‮ ‬بالرغم من جهدها في إلغاء معاهدة‮ ‬1936‮ ‬وتشجيع المقاومة المسلحة ضد الإنجليز‮ (‬دون خطة واضحة‮) ‬والسياسة التعليمية التي قادها طه حسين‮. ‬وعجز القصر بعد هذا أن‮ ‬يثبت ‮ ‬وزارة في الحكم لمدة طويلة،‮ ‬وظهر أن عناد الإنجليز في المفاوضات كان دليلاً‮ ‬علي عدم الثقة بقدرة الملك علي الحكم وآخر وزارة استطاع القصر أن‮ ‬يجمعها قبل‮ ‬23‮ ‬يوليو‮ ‬1952‮ ‬كانت الوزارة التي ألفها أحمد نجيب الهلالي وترك القصر‮ ‬يعين فيها إسماعيل شيرين زوج أخت الملك وزيراً‮ ‬للدفاع‮. ‬وكانت وزارة حسين سري التي سبقت وزارة الهلالي قد أتت بالخلاف بين فريق كبير من ضباط الجيش والقصر إلي السطح‮. ‬
كان لبهاء صديق‮ ‬يقيم إلي جواره في بيت الجيزة هو الصاغ‮ ‬جمال حماد،‮ ‬وكنت ألقاه حين‮ ‬يأتي لزيارتي وأذكر أنه أتي مساء‮ ‬يوم‮ ‬21‮ ‬يوليو عقب تأليف وزارة الهلالي،‮ ‬وكان بهاء مشمئزاً‮ ‬ثائراً‮ ‬علي جرأة القصر في تحدي كرامة الناس،‮ ‬وتطرق الحديث الهادئ مع جمال حماد إلي لوم الجيش وقال بهاء‮: "‬لم‮ ‬يكن‮ ‬يستطيع الملك أن‮ ‬يتبرطع علي هذا النحو لولا حماية الجيش وتأييده له‮" ‬ووصل الحديث،‮ ‬علي‮ ‬غير عادة بهاء،‮ ‬إلي مستوي توبيخ جمال حماد الذي اعتبرناه في هذه الجلسة مسئولاً‮ ‬عن كل ما‮ ‬يحدث‮.‬
وفي مساء اليوم التالي وقعت حركة الجيش وكانت رأس الحربة الكتيبة‮ ‬13‮ ‬التي كان بين ضباطها البارزين الصاغ‮ ‬جمال حماد الذي اجتمعنا به بعد‮ ‬يوم‮ ‬26‮ ‬يوليو حيث قال‮: "‬ده انتم نزلتو علي قوي إلي الحد الذي كدت أفشي بسر الحركة‮"‬،‮ ‬وتبين أنه كظم‮ ‬غضبه وهو‮ ‬يعلم أن الحل أصبح قريباً‮.‬
استقبل المثقفون حركة الجيش بنشوة واغتباط،‮ ‬وكان بهاء‮ ‬يري في إزاحة الملك وانفتاح مصر نحو حياة جديدة تحقيقاً‮ ‬لآماله وآمال جيله،‮ ‬لكن مولد الحركة ترك في نفسه شعوراً‮ ‬غامضاً‮ ‬لازمه دائما حتي بعد أن تحولت إلي دولة وحكم‮.‬
في‮ ‬26‮ ‬يناير‮ ‬1953‮ ‬أقيم احتفال شعبي في ميدان التحرير ووزع المنظمون‮ (‬إدارة الشؤون العامة ذ القيادة العامة للقوات المسلحة‮) ‬علي الناس كتيباً‮ ‬بعنوان أيها المواطنون ذ كلمات للرئيس نجيب،‮ ‬وفيه البيان الذي أذيع صباح‮ ‬يوم‮ ‬23‮ ‬يوليو‮ ‬1952معلناً‮ ‬بدء الحركة،‮ ‬وكنت قد حضرت هذا الاحتفال وعدت ومعي نسخة من هذا الكتيب فأريته لبهاء وأشرت إلي أن البيان الأول قد أعيد نشره مقتضباً‮ ‬بعد أن أزليت منه الفقرة التي تقول‮: "‬وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح‮ ‬يعمل لصالح الوطن والدستور مجردا من أية‮ ‬غاية‮" (‬علمت أخيراً‮ ‬من كتاب أصدره جمال حماد أن كلمة‮ "‬الدستور‮" ‬أضيفت بخط محمد نجيب‮) ‬وأريت بهاء البيان كما صدر في الكتيِّب بعد ستة شهور،‮ ‬فنظر إليّ‮ ‬كأنه‮ ‬يظن أنه أصابني‮ "‬العبط‮"‬،‮ ‬بل ووصفني بالسذاجة‮.‬
ثم ظهر الخلاف بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر في مطلع سنة‮ ‬1954‮ ‬ولفترة قصيرة ساد الظن أن الأمر قد استتب لنجيب وأن عبد الناصر آثر الانسحاب،‮ ‬ونشرت مقالات تدل علي أن الحرية والديمقراطية علي الأبواب،‮ ‬وكتب إحسان عبد القدوس مقالاً‮ ‬جاء فيه ما معناه أن البلد لا تُحكم بواسطة جمعية سرية،‮ ‬مشيراً‮ ‬إلي أسلوب عبد الناصر وأعضاء القيادة من حوله،‮ ‬أما بهاء فكان مقاله‮ (‬وأنا أعتبره من أحسن ما ظهر في هذه الفترة‮) ‬يحتوي علي مخطط دقيق لمستقبل السياسة في مصر ودور المنظمات الديمقراطية وتكوينها‮. ‬
بعد أيام تبيّن أن تراجع عبد الناصر كان تكتيكياً،‮ ‬وأنه عاد ليقصي نجيب ثم‮ ‬يقيله،‮ ‬ونتج من هذا بالطبع تسوية حسابات،‮ ‬منها أن اعتقل إحسان عبد القدوس وأتي من قال لبهاء إن دوره قريب،‮ ‬فجاء إلي منزلنا في الدقي وأقام معنا‮ ‬يومين وليلتين،‮ ‬وكنا نحسب في كل دقيقة أن الباب سيطرق وأن بهاء سيساق إلي الاعتقال‮. ‬ولم‮ ‬يؤد هذا إلي شيء لكن الأمور لم تعد إلي ما كانت عليه‮.‬
عندما أقيمت في نادي الضباط بالزمالك في أواخر سنة‮ ‬1954‮ ‬حفلة لوداع شكري القوتلي قبل عودته من المنفي إلي سوريا كنت مع بهاء في هذا الاحتفال ولا‮ ‬يبرح ذهني حتي اليوم منظره وقد أدركه الضيق عندما وصل أعضاء القيادة بملابسهم العسكرية وهمَّ‮ ‬بترك المكان عدة مرات‮.‬
ومع ذلك كله كان‮ ‬يرقب الثورة وهي تأخذ شكلها في المجتمع المصري بعين العقل والنزاهة،‮ ‬وابتدأت الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية تدفئ صدره وتكسب قبوله حتي قال لي قبيل سفري إلي نيويورك في منتصف‮ ‬1955‮: "‬هذا هو التغيير الذي انتظرناه وقد لا‮ ‬يكون كاملاً‮ ‬أو عادلاً‮ ‬لكنه سيفيق مصر من سباتها ويدفعها إلي الأمام‮"‬،‮ ‬وكان‮ ‬يحلو له أن‮ ‬يقارن بين جمال عبد الناصر ومحمد علي بالنسبة إلي الحلول الجذرية إلي أدخلها كل منهما بالرغم من موقفه الحائر حولهما‮.‬
جاءت الخمسينيات بفوراتها بجانب جديد من تفكير بهاء وهو رؤية مصر في مركز القيادة في الوطن العربي،‮ ‬وقد حققت كتاباته مجالاً‮ ‬لفهم مشاكل مصر بين الدول العربية وتقديم جزئيات القضايا العربية إلي الرأي العام المصري‮. ‬واتسعت حلقة صداقاته العربية وشملت ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار والمهدي بن بركة ومحمد أحمد محجوب وساطع الحصري وأحمد بن بلة وغسان التويني وسامي الدروبي ومنيف الرزاز وعبد المحسن القطان وكمال الشاعر وغيرهما‮. ‬وكان لميشيل عفلق ونظرته اليوتوبية للمستقبل العربي مكان أنيس في قلب بهاء،‮ ‬واتصل الود بينهما حتي أقلق جمال عبد الناصر،‮ ‬فقد ذكر لي بهاء أنه تلقي زيارة من أحد المقربين الذي أبلغه أن عبد الناصر قال أنه لا‮ ‬يعرف سبب توثق العلاقة بينه وبين جماعة البعث‮ (‬هذا في الوقت الذي كان التعاون الرسمي قائماً‮) ‬وتساءل عمّا إذا أراد شيئاً‮ ‬من بهاء هل‮ ‬يمكنه أن‮ ‬يعتمد عليه لأنه لا‮ ‬يعرف كيف‮ ‬يتجه ولاؤه‮.‬
ثم جاءت الستينيات وبدأت المسيرة تتعثر،‮ ‬ففي سبتمبر‮ ‬1961‮ ‬وقع الانفصال بين سوريا ومصر وقد تأذي بهاء كثيراً‮ ‬في شعوره الشخصي،‮ ‬فهو ككاتب وإنسان عام كان قد علق آمالا علي هذا الطفل،‮ ‬وما كان سيقوم به في المستقبل‮. ‬وعندما لقيته سنة‮ ‬1962‮ ‬أدركت عمق الجرح في نفسه وشعرت أنه أخذ‮ ‬يكون أسئلة ثاقبة عن طراز الحكم،‮ ‬ولعل هذه أول مرة سمعته‮ ‬يطرح السؤال في حيرة بالغة وهو كيف‮ ‬يمكن لعبد الناصر أن‮ ‬يثق بقدرة عبد الحكيم عامر ويستمر في الاعتماد عليه؟ وقد ردد هذا السؤال فيما بعد وفي كتابته لا سيما بعد كارثة‮ ‬1967.‬‮ ‬وقد لقيته في مونتريال سنة‮ ‬1970‮ ‬وعرفت منه أنه لم‮ ‬يلتق بعبد الناصر لوحدهما علي انفراد مرة في حياته،‮ ‬وكان هذا أحد الأدلة علي الدور الهامشي الذي خصصه النظام للمثقفين الذين كانوا أداة في سياسة التلاعب كالمنع من الكتابة والنقل من مؤسسة إلي مؤسسة حتي الاعتقال،‮ ‬وهي السياسة التي كانت سائدة حتي وفاة عبد الناصر واستمرت بطريقة عشوائية في عهد أنور السادات‮.‬
لم‮ ‬يقبل بهاء الذهاب إلي الكويت سنة‮ ‬1976‮ ‬إلا بعد إلحاح شديد من ديزي فقد رأته‮ ‬يتعذب للتملص من هذا التلاعب الذي أصبح صارخاً‮. ‬كانا في بتسبرج‮ ‬1975عندما دق جرس التليفون وكان المتحدث‮ ‬غسان التويني لينقل إليه خبر حادث الأوتوبيس في لبنان الذي أشعل نار الحرب الأهلية،‮ ‬لأول مرة رأيت في عينيه نظرة العجز‮.‬
أنا لا أزعم أنني كنت علي علم بكل ما‮ ‬يحدث،‮ ‬فقد كنت أري بهاء كل سنتين أو ثلاث وهذا لا‮ ‬يكفي لأكون شاهدا علي الرغم من أن أحاديثنا كانت مشبعة‮. ‬في سنة‮ ‬1982،‮ ‬وكنا في لندن،‮ ‬حدثني مطولاً‮ ‬وبطريقة منظمة،‮ ‬كما كان‮ ‬يفعل دائما،‮ ‬عن تجربته ومحاوراته مع السادات التي ظهرت في ما بعد في كتاب‮: ‬صورة كاملة لحيرة المثقف أمام آلة السلطة الهادرة‮.‬
عاد بهاء من الكويت إلي أحضان مصر واتجه باهتمامه إلي مشاكلها الداخلية‮: ‬تبوير الأرض الزراعية،‮ ‬الفساد في الحكم وتدهور نوعيته،‮ ‬الحاجة لإدخال التكنولوجية الحديثة في ميدان التعليم،‮ ‬غياب العقلانية من النقاش الديني المعاصر،‮ ‬تفكك الإنجازات الإيجابية التي تمت وبالذات بالنسبة إلي مصير الفلاحين،‮ ‬الخمول الذهني الذي انتشر كالوباء‮. ‬وأهم ما أقلقه وأغضبه تصدع الوحدة الوطنية التي تكوّنت مع ثورة‮ ‬1919‮ ‬وكنت أراه وأقرؤه وأنا أفكر بسيزيف‮ ‬يرفع الصخرة ثانية إلي أعلي الجبل‮: ‬عناد الفكر علي الصمود في وجه اليأس والبدء من جديد‮.‬
أعتقد أنه من الممكن تسمية فترة الثمانينيات‮ (‬منذ انتهاء عهد السادات والعودة من الكويت‮) ‬في تطور بهاء الفكري بفترة استرجاع مصر‮. ‬فقد تخبط المجال العربي في بحر صاخب من التناقض وأصبحت الصورة التي بدأت تتشكل في الخمسينيات مهترئة وانبعثت في ذهن بهاء فكرة أساسية وهي أن عودة مصر إلي مركز القيادة لن تكون بالشعارات بل بالفعل الذي‮ ‬يُحتذي به‮. ‬وأنا أذكر عبارة كتبها في هذه الفترة‮ (‬لا‮ ‬يحضرني الآن تاريخ نشرها علي وجه الدقة‮) ‬وهي أن‮ "‬مسئولية الحكام هنا هي إعطاء القدرة الحقيقة التي تقنع المواطن،‮ ‬وليس مجرد المناداة بأي شعارات‮"‬،‮ ‬ولا شك أن هذا‮ ‬يعني بالتالي مسئولية الأمة‮. ‬من هنا أجد تركيزه في الثمانينيات علي مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية والمحافظة علي وحدتها الوطنية‮ (‬أي الوحدة الناشئة عن تجانس الأمة بحضارتها‮).‬
في مطلع سنة‮ ‬1950‮ ‬نشر بهاء مقالاً‮ ‬في جريدة الأهرام بعنوان‮ "‬حَمَلة مشاعل التقدم في كل حضارة‮" ‬عن الدور الهام الذي لعبته الطبقة الوسطي في تقدم الإنساني‮. ‬وقد كتب هذا المقال في وقت كانت فيه عبارة‮ "‬الطبقة الوسطي‮" ‬قد فقدت رونقها وأصبحت تسمي في معجم اليسار بالبرجوازية واشتمل معناها مع معانٍ‮ ‬أخري علي الأنانية والجشع،‮ ‬لكن بهاء‮ ‬يأبه بهذا التأويل العقائدي ونظر إلي العبارة نظرة مجردة والتمس منها ما عرفه عن مساهمة الطبقة الوسطي الإيجابية في وضع أسس العمل السياسي في مصر وتثبيت مجتمعها،‮ ‬ومن‮ ‬يقرأ بهاء منذ مطلع نصف القرن الحالي‮ ‬يدرك إيمانه العميق باندفاعية ثورة‮ ‬1919‮ ‬التي قام بها أبناء هذه الطبقة‮.‬
لقد تعوّد الناس علي المسارعة بإلباس المفكر رداء عقائدياً‮ ‬أو حزبياً،‮ ‬فمنذ عرفتُ‮ ‬بهاء وأنا أجد نفسي مشتبكاً‮ ‬في مناقشات حول موضوع انتمائه،‮ ‬هل هو وفدي أم‮ ‬يساري أم بعثي أم ناصري؟ وإجابتي كانت دائما أنه ليس من أي من هذه التجمعات،‮ ‬بل من الخطأ أن نناقش آراءه من منطلق الالتزام الضيق،‮ ‬فهو من حملة مشاعل التقدم ومن تقليد فكري كان من بين أشخاصه طه حسين ومحمود عزمي وتوفيق الحكيم وحسين فوزي ومحمد زكي عبد القادر وسلامة موسي،‮ ‬هذه ليست حيدة أو انتهازاً‮ ‬أو انعزالاً‮ ‬بل درس في الحرية‮ ‬يعطي بممارستها‮.‬
من كتاب‮ »‬‬احمد بهاء الدين‮: ‬من حملة مشاعل التقدم العربي‮» ‬ مركز دراسات الوحدة بيروت‮ ‬1994


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.