لم تكن «الصحافة» وعالمها المثير هي ما يشغل بال الشاب المصري «أحمد بهاء الدين» عندما كان لا يزال طالبا في كلية الحقوق !! كانت الكتابة الرصينة والجادة هي ما يسعي إليه الشاب «بهاء» عندما ذهب إلي مقر مجلة «الفصول» التي كاني يصدرها ويرأس تحريرها الكاتب الكبير «محمد زكي عبد القادر» - منذ منتصف الأربعينيات من القرن العشرين - وهو صاحب أشهر عمود صحفي هو «نحو النور». وعن تلك الأيام يقول «أحمد بهاء الدين» في حواره المنشور معي: «كانت مجلة الفصول مجلة مصرية الطابع والاهتمامات وقد ظهرت ردا علي مجلة «المختار» - ريدرز دايجست - وكانت مجلة «الفصول» لها طابع فكري جاد، وكنت من قرائها وأرسلت لها بعض المقالات كقارئ ونشرت لي، وذهبت إلي الأستاذ «محمد زكي عبد القادر» - بدون سابق معرفة - وعرفته بنفسي وقلت له : إنني أحب أن أكتب في المجلة... و.. و..». ويضيف بهاء : «أنا أعتز جدا بهذه الفترة فقد أصبحت مدير تحرير الفصول وعمري وقتها حوالي 21 أو 22 سنة، لأنه واقعيا كان الأستاذ «زكي عبد القادر» قد أصبح رئيسا لتحرير الأهرام ورغم أن الفصول كانت شهرية ومحدودة الانتشار، لكن سرعان ما أصبح لها مركز جذب للمثقفين، وأعتز أنني نشرت لأول مرة لعدد من الكتاب الذين أصبحوا فيما بعد من أصحاب الأسماء اللامعة، وكانوا يومها مغمورين، وكتبوا في الفصول لأول مرة بأسمائهم ومنهم «فتحي غانم» و«عبد الرحمن الشرقاوي»، و«أحمد رشدي صالح»، وكان وقتها مختفيا فقد كان مطلوبا القبض عليه ويكتب باسم مستعار، وأيضا نشرت للدكتور «علي الراعي» و«يوسف الشاروني» و«نعمان عاشور» و«بدر الدين أبو غازي» وعدد آخر غيرهم، إنها فترة مهمة وجميلة جدا من حياتي». وعندما كتب الأستاذ «محمد زكي عبد القادر» سيرته الذاتية وعنوانها «أقدام علي الطريق» قال عن تجربة «الفصول» : كانت مجالا لأقلام الكثيرين من أصحاب الفكر والرأي وكانت أيضا مجالا لأصحاب الأقلام من الشبان الجدد، وكنت أرحب بهم وأعطيهم فرصا متساوية، بعضهم، بل كلهم تقريبا لم تكن لي معرفة سابقة بهم، جاءوني علي غير معرفة وقدموا إنتاجهم وكنت أقرأه بإمعان، فإذا أجزته نشرته دون احتفال بما إذا كان الاسم معروفا أو غير معروف، وجرت أقلام عديدة علي صفحات الفصول، وأصبح للكثير منها اسم وذكر، وتألق فيما بعد «عثمان العنتبلي»، «سعد رضوان»، «حسين القباني»، «موسي صبري»، «أحمد حمروش»، «يحيي أبو بكر»، «يوسف الشاروني»، «عادل ثابت»، «أحمد بهاء الدين»، «فتحي غانم»، «نعمان عاشور»، «أنور المشري». ويعترف الأستاذ زكي عبد القادر قائلا : «وكان الأستاذ «أحمد بهاء الدين» أكثرهم مواظبة وتحمسا، وأنست له وأفسحت له الكثير من الصفحات، ثم حدث أن زادت مشغولياتي في «الأهرام» بعد وفاة المرحوم «أنطون الجميل باشا» فزادت مسئولياته في الفصول إذ أصبح يقوم بأكثر العمل فيها أو كله». وعلي صفحات الفصول كان الشاب أحمد بهاء الدين يكتب مقالات تثير العقل والفكر عند قارئها، ومنها : هذه الضرائب التي تدفعها !! دعاة النفوذ الأمريكي في مصر وبرنامج النقطة الرابعة، قبل إقرار الميزانية : الاقتصاد في خدمة السياسة، تأميم القطن يعود بالفائدة علي الدولة والفلاحين، النظم الرجعية في الشرق، ارحموا الاشتراكية !! لكن أغرب ما يلفت الانتباه أن «بهاء» كتب بعض القصائد الشعرية علي صفحات الفصول، وفي عدد أغسطس 1947 وعلي الصفحة الأخيرة نشر قصيدة بعنوان «وللصبر في يأسه مصرع» وتتكون من تسعة أبيات يقول في بعض أبياتها : فيا قلب رشدك إن الذي يمثله الظن لا ينفع ستحيا وتشفي وتشهد ما يميت النفوس وما يوجع! وعندما أعدت علي مسامع الأستاذ بهاء - في حواري معه - هذه الأبيات، ضحك في أعماق قلبه تلك الضحكة العميقة الصافية وقال: «من حسن حظ الناس وأيضا من حسن حظي أنني اعتزلت كتابة الشعر مبكرا جدا، فما كتبته كان رديئا بشكل لا نظير له، وسيئا بدرجة لا يتصورها أحد، وأذكر أن الشاعر الكبير الفنان «كامل الشناوي» كان قد عثر علي عدد مجلة الفصول المنشورة به هذه القصيدة البائسة، ومن حين لآخر كان يهددني بأنه سينشرها في «أخبار اليوم» التي كنت أرأس تحريرها وقتها، والحمد لله أنه لم يفعلها!». يكمل بابتسامة ساخرة : «في فترة المراهقة ظننت أنني سأكون شاعرا كبيرا «أحمد شوقي» مثلا، فقد كنت أعشق وأحفظ معظم القصائد والأشعار الوطنية والسياسية لشوقي وحافظ إبراهيم!!». ورغم غيابه منذ سنوات، فالمؤكد أن «حضوره» أقوي من ذلك الغياب الطويل !