كلمة الرئيس السيسي بمناسبة الاحتفال بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    رئيس جامعة المنوفية يهنئ السيسي والشعب المصري بعيد تحرير سيناء ال42    السيسي: سيناء شاهدة على قوة وصلابة شعب مصر في دحر المعتدين والغزاة    مع قرب تطبيق التوقيت الصيفي.. هل تتغير مواقيت الصلاة؟    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الخميس 25 أبريل 2024    ختام فعاليات مبادرة «خير مزارعنا لأهالينا» في الكاتدرائية المرقسية    قطع المياه عن عدة مناطق في القاهرة الكبرى.. اعرف الأماكن والموعد    «الإسكان» تسترد 9587 متر مربع من الأراضي المتعدى عليها بالسويس الجديدة    وزير النقل يشهد توقيع عقد تنفيذ أعمال البنية الفوقية لمشروع محطة الحاويات تحيا مصر 1 بميناء دمياط    الشرطة الأمريكية: توقيف 93 شخصا خلال تظاهرة داعمة لغزة في جامعة في لوس أنجليس    خبير شؤون أمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    منظمة التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    بعثة الزمالك تطير إلى غانا استعداداً لمواجهة دريمز في الكونفدرالية    باريس سان جيرمان يتحرك لضم نجم برشلونة في الميركاتو الصيفي    فرج عامر: لم نفكر في صفقات سموحة حتى الآن    «الأرصاد»: انكسار الموجة الحارة اليوم.. والعظمى على القاهرة الكبرى تسجل 36 درجة    نشرة مرور "الفجر ".. سيولة بمحاور القاهرة والجيزة    الشواطئ العامة تجذب العائلات في الغردقة هربا من الحر.. والدخول ب20 جنيها    مواعيد المترو بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. اعرف جدول تشغيل جميع الخطوط    بيع لوحة فنية للرسام النمساوي جوستاف كليمت بمبلغ 30 مليون يورو في مزاد بفيينا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس25-4-2024    الرئيس التنفيذي للاتحاد الدولي للمستشفيات: مصر تشهد تطورا في الرعاية الصحية    «الصحة»: تنفيذ 35 مشروعا بالقطاع الطبي في سيناء منذ 2014    لأول مرة .. أمريكا تعلن عن إرسالها صواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا    في حماية الاحتلال.. مستوطنون يقتحمون باحات المسجد الأقصى    احتجاجات طلابية في مدارس وجامعات أمريكا تندد بالعدوان الإسرائيلي على غزة    بينهم 3 أشقاء.. إصابة 9 أشخاص في حادث تصادم ميكروباص مع ربع نقل في أسيوط    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    الكنيسة الأرثوذكسية تحتفل بجمعة ختام الصوم غدا| تفاصيل وطقس اليوم    عيد تحرير سيناء.. جهود إقامة التنمية العمرانية لأهالي أرض الفيروز ومدن القناة    6 كلمات توقفك عن المعصية فورا .. علي جمعة يوضحها    حكم الحج بدون تصريح بعد أن تخلف من العمرة.. أمين الفتوى يجيب    تفاصيل اجتماع أمين صندوق الزمالك مع جوميز قبل السفر إلى غانا    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح    علماء بريطانيون: أكثر من نصف سكان العالم قد يكونون عرضة لخطر الإصابة بالأمراض التي ينقلها البعوض    «الجمهورية»: الرئيس السيسي عبر بسيناء عبورا جديدا    عائشة بن أحمد تتالق في أحدث ظهور عبر إنستجرام    جدول ترتيب الدوري الإنجليزي قبل مباراة مانشستر سيتي وبرايتون اليوم    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    الشرطة الأمريكية تعتقل عددًا من الطلاب المؤيدين لفلسطين بجامعة كاليفورنيا.. فيديو    بسبب روسيا والصين.. الأمم المتحدة تفشل في منع سباق التسلح النووي    المنيا.. السيطرة على حريق بمخزن أجهزة كهربائية بملوى دون خسائر في الأرواح    بالصور.. نجوم الفن يشاركون في تكريم «القومي للمسرح» للراحل أشرف عبد الغفور    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    عضو بالشيوخ يطالب بالمساهمة في إمداد مركز طب الأسرة بدمياط بالمستلزمات    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    "في العاصمة الإدارية".. مصر تستضيف كأس العالم للأندية لكرة اليد لمدة 3 سنوات    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعض من ذكرياتى
أحمد بهاء الدين ولامركزية الغناء
نشر في الأهرام اليومي يوم 18 - 09 - 2014

على جدران غرفتى بالطابق الثامن فى جريدة «الأهرام» تتجاور مجموعة من صور ورسوم شخصيات لها نفوذ وجدانى وعقلى على طريقتى فى الحياة والإبداع، منها بورتريه لأبى رسمه الفنان جمال كامل، وصورة لأم كلثوم تغنى الأطلال فى مسرح الاوليمبيا،
وصورة لى مع الأستاذ هيكل فى تمشية حول بحيرة «سربنتاين» بحديقة «الهايد بارك» فى لندن.. و.. صورة كاريكاتورية كبيرة للأستاذ أحمد بهاء الدين رسمها الفنان مصطفى حسين لترافق حوارا أجريته مع ذلك المفكر قليل الجسم، عملاق الموهبة والتأثير حول الفن، وكان الأول فى تاريخ الأستاذ بهاء فى ذلك المجال، وقد صور الرسام الأستاذ بهاء يضع يده فى جيبه ويطالع نوتة موسيقية أمامه باستغراق كبير.. والى جوار ذلك الكاريكاتير صورة فوتوغرافية ضخمة يعود تاريخها إلى 5 يناير 1984 فى مناقشة اطروحتى للدكتوراة فى كلية الإعلام بجامعة القاهرة، وقد كان الأستاذ بهاء عضوا فى لجنة مناقشتها كما رسالتى للماجستير.. وارتدى الأستاذ بهاء فى الصورة الروب الجامعى الأسود، وامسك بأحد مجلدى الرسالة (وقد وصفهما لى بأنهما زوج من الأفيال)، وظهر يصافحنى بنظرة كانت واحدة من أكثر العوامل باعثة الثقة فى نفسى على امتداد سنوات الأنواء والأعاصير التى امتهنت فيها شغلة الكتابة.
وحين احتجب الأستاذ بهاء ثم رحل، اختفت معه – على الجملة – حزمة من المعانى الراقية لم تستعوضها الحياة الصحفية والفكرية المصرية – بيقين – حتى اللحظة، أقلها كان البساطة المعجزة، وأهمها كان القدرة على تشكيل تيار من الوعى يقود الجماعة الثقافية فى موضوع بعينه إلى حيث يريد بالضبط، وبينهما كان ذلك التنوع المدهش فى ثقافته، ومعارفه، وأمزجته، وخصاله، حتى تخال الأستاذ أحمد بهاء الدين شعبا بأسره.
لا أذكر متى – بالضبط – سمعت اسمه للمرة الأولى فى حياتى حتى أكاد اجزم بأننى اعرفه من يوم وعيت، ولا أدرى متى – تحديدا – رأيته (طفلا) فى منزلنا وسط كوكبة من نجوم روز اليوسف الزاهرة (إحسان عبد القدوس ومحمد عودة وحسن فؤاد وكامل زهيرى وصلاح جاهين وأبو العينين).. ولكننى استطيع – وسط صور مغبشة استدعيها من جوف الماضى – تبين صوت صمته وسط أعاصير من القهقهات والضجيج اكتسحت الفراغ الصوتى فى ذلك المشهد القديم.
راقبته وراقبتهم – من فرجة باب أو من خلف ستار – بانبهار – لا اعرف مبرراته وقتها ولكنه حدث على أية حال.. كنت اعمد إلى الاختلاء بنفسى – فى غرفتى – بعد انصراف الضيوف فى ساعة متأخرة من الليل، وأقلد أصدقاء أبى، ورفاق مسيرته المهنية والوطنية فى «روز اليوسف»، فألبس «انسيال» امى فى رسغى وامسك بقلم تخين بين اصبعين فى كفى كمثل سيجار، وأتحدث بحماسة وبلدغة فى الراء مثل إحسان عبد القدوس، واشعلق عينى إلى أعلى مثل محمد عودة، واسحب نفسا كأنه كل هواء الغرفة، وأتنهد مثل حسن فؤاد، واخرج سترة صغيرة من دولاب ملابسى واضعها على ذراعى مثل معطف كامل زهيرى، ولكننى حين أصل إلى أحمد بهاء الدين احتار فى صمته، والتعبير نصف الساخر على شفتيه، وحديثه الهادئ الذى متى بدأه يسكت الجميع.. لم اعرف كيف أقلده – طفلا – ولكنه كان أحد اثنين قلدتهما شابا، على الأقل فى نهاية مرحلة التكوين.. هو وأبى.
لا بل رأيت الحوار إليه ضرورة فى بدايات كل تجربة أمر بها، ليعيننى على صياغتها وصناعتها على النحو الذى تخيلته وحومت حوله.. كان حوارى معه هو الأول فى سلسلة الحوارات الاقتصادية الكبرى التى أجريتها مع كل رموز الفكر والإبداع فى مصر بمجلة «الأهرام الاقتصادى» بين 1986 - 1989، وكان حوارى معه هو الأول فى سلسلة حوارات عن الفن أجريتها مع رموز السياسة والثقافة فى مجلة فنية كنت على وشك إصدارها فى لندن عام 1984، وقد جمعت تلك الحوارات فى كتاب لى بعنوان: (حوارات الفن والحب والحرية).
كان – دائما – اقترابى المفضل الأول ليضبط حضوره إيقاع كل تجربة أمر بها.
غرقت – شابا – حتى الشواشى فى آلاف من رسوم أبى الكاريكاتورية وأنا أتصفح مجلدات مجلة (روز اليوسف)، وجريدة (الأخبار)، وجريدة (الشعب) وجريدة (الجمهورية) ومجلة (المصور) وبعض أعداد جريدة الأهالى، ووجدتنى جزءا من أبطال تلك الرسوم ومتفاعلا معهم: الملك فاروق، ومصطفى باشا النحاس، وفؤاد باشا سراج الدين، وعلى باشا ماهر، وأم كلثوم، وحيدر باشا، وزينب الوكيل، ودرية شفيق، واللواء عبد الله النجومى، والزعيم جمال عبد الناصر، وصلاح سالم، وتحية كاريوكا، ومحمد نجيب، وعبد اللطيف البغدادى، ومنزيس فرانس، ونورى السعيد، وعبد العزيز محمود، وماكميلان، وأيدن، والشاه محمد رضا بهلوى، والملك فيصل بن عبد العزيز، ومحمد عبد الوهاب، وروزفلت، ودوايت ايزنهاور، ونيكيتا خروشوف، وكينيدى، وماوتسى تونج، وليلى مراد وأحمد سوكارنو، وكميل شمعون، وعبد الحليم حافظ..
وبين تلك الرسوم واحدة لم افهم معناها، إلا حين شرحها لى الأستاذ بهاء (إذ كان أبى – وقتها – يكابد مرضه الأخير).
كانت الرقابة فُرضت على الصحف بواسطة اسطفان باسيلى عام 1951، فكتب الأستاذ بهاء – متحايلا على الرقيب المقيم فى المجلة – مقالا بعنوان: «وفصل فى الرقيب» بدا وكأنه شرح ادبى لكتاب: (طوق الحمامة فى الألفة والإيلاف لابن حزم الاندلسى) إذ يحتوى ذلك الكتاب فصولا بعضها فى الغزل وأحدها فى (الرقيب) أو العزول، وكان أن أسر الأستاذ بهاء لعبد السميع رسام روز اليوسف الوحيد – وقتها – بفكرته للسخرية من الرقيب، فرسم عبد السميع سيدة تنشر الملابس على سطوح بيتها، فيما ببغاء يقف فى ركن من الرسم يردد فى تكرار سمج: (ينشر.. لا ينشر.. ينشر.. لا ينشر) فلما نشر المقال والرسم – معا – اضحكا طوب الأرض على رقيب الحكومة الذى يسيطر على الصحافة، فيما جعله الكاتب والرسام مسخرة وعبرة لمن يعتبر!
علمنى أحمد بهاء الدين جسارة طرح الأفكار الجديدة، وحكى لى كيف ذكر كلمة (التخطيط) للمرة الأولى فى مصر باحد مقالاته فواجه عاصفة من اعتراض رجال الدين باعتبار أن التخطيط فيه نوع من التحكم فى صياغة المستقبل وهو أمر من اختصاص الإرادة الإلهية!
وكلمنى الأستاذ بهاء عن حلم الصناعة الوطنية، وكيف دمعت عيناه ورفاق جيله حين رأوا للمرة الأولى عبارة: (صنع فى مصر) مكتوبة فى المعرض الصناعى على معدات وجرارات بالحديد والمطاط وليست – كما تعودوها – بالحبر على ورق.
وصفنى ووصف عملى – فى مناقشته الموسوعية لاطروحتى للدكتوراه – بعدة أوصاف رددها من بعده بعض كبار كتاب الصحف مثل: (البلدوزر) الذى لم يترك تفصيلة إلا درسها وهرسها.. و(رسالة غير قابلة للمناقشة) إشارة إلى شمول البحث كل التفاصيل الصغيرة.
كنت اذهب إليه – أحيانا – فى منزله لأتحدث إليه عما يجرى فى الشوارع الخلفية لساحات الثقافة والفن والصحافة فى مصر، ونظل فى منتهى الالتزام طالما زوجته الفاضلة (مدام ديزى) فى المنزل، فإذا خرجت لسبب أو آخر، يستيقظ داخلنا عفريت مخالفة الريجيم، والرغبة فى إطاحة كل الممنوعات على مرضى السكر أمثالنا، فنجرى على الثلاجة – فى لهفة – ونفتحها حيث أطباق العاشوراء الرائعة التى ترسلها ليلى شقيقة الأستاذ بهاء، فنلهط منها ما وسعنا اللهط، ثم نعود فى غرفة الاستقبال بترزن واحتشام وبراءة وانضباط، ونواصل أحاديث نحرص على أن نجعلها جادة طاردة لأى شكوك حول فعلتنا المخجلة.
وعرفنى الأستاذ بهاء بعدد من الشخصيات العامة الأقرب إلى قلبه وضمنهم السيدة فاتن حمامة، ورشحنى لإجراء حوار لا ينسى معها عام 1987.. وفى لندن كانت لنا تمشيات وأحاديث بديعة خلال تجربة عمل مررت بها عام 1984 - 1985، فقد كنت مديرا لمكتب الشركة السعودية للأبحاث والتسويق فى القاهرة (وهى التى كانت تصدر جريدة «الشرق الأوسط» ومجلات «المجلة» و»سيدتى» و»سعودى بيزنيس» و»المسلمون» وغيرهم) ووقتها طلب منى ناشرو تلك المجموعة المتنفذة سياسيا، التى كانت تقود عبور الصحافة والمجتمع السعودى نحو العصرية، أن أصبح رئيسا لتحرير مجلة الفنون والفيديو التى تزمع المجموعة إصدارها فى لندن.. واشتغلت – بجد – على ذلك الإصدار، الذى كان فريدا من نوعه (سعوديا) وأسميته (قمر 14)، وكان حديثى مع الأستاذ بهاء عن الفن هو حوار العدد الأول، ولكن ذلك العدد الذى تصدرته على الغلاف صورة الفنانة ليلى علوى كان صدمة لم يتحملها السوق أو المجتمع السعودى، إذ اعترض الشيخ بن باز أحد أئمة الرجعية على صدور المجلة، مؤكدا أنها تحرض البنات على الاتجاه للفن، وطالب أعلى السلطات بإيقاف صدورها، فأوقفت وطلب ناشرو المجلة منى أن تواصل المجلة الصدور ولكن بلا صور لفنانات، لا بل – وذلك هو المبهر والمضحك – بلا صور إناث من الأصل والأساس!.. وطبعا السعودية تغيرت – كثيرا – منذ ذلك التوقيت، وبات لديها من المطبوعات ما يفوق (قمر14) تحررا وعصرية، ولكن تلك – على أية حال – الضريبة التى يجب أن تدفعها الطلائع الأولى للتغيير فى المجتمعات المحافظة.. اليوم.. صارت المرأة السعودية عضوا فى مجلس الشورى ولا يجرؤ أحد على منع صورها من الظهور الاعلامى، واليوم أراقب نمو وازدهار حركة الفنون السعودية فى كل مجال، والتى أرعب الشيخ بن باز وأمثاله المجتمع السعودى من وصول مقدماتها فى مجلة (قمر 14).. ولقد كانت مهاتفة الأستاذ بهاء لى فى لندن هى الأولى بعد إيقاف المجلة، وحين شرحت له أسباب الإيقاف وحكاية ذلك الشيخ بن باز.. ضحك فى نفس نصف السخرية التى يتسلح به أمام الظواهر غير المعقولة وقال: «هل يعتقد ذلك الرجل أن الجزيرة العربية محاصرة بالمخرجين الذين يريدون خطف بنات السعودية ليصرن ممثلات؟!».. وفى لندن - أيضا – جاء صلاح جاهين ليمضى فترة استشفاء طويلة فى مصحة اسمها: (شنلى لودج) شمالى لندن، وهى التى قامت بتنحيفه وعلاجه، وكنت أزوره وقرينتى - يوميا – إذ تقع المصحة على بعد أميال بسيطة من حى (هامستد) الذى كنا نسكنه، وأردت ترتيب مفاجأة تسعد قلب صلاح، فاقترحت على الأستاذ بهاء أن اصحبه وزوجتى والسيدة ديزى ونجله (الدكتور زياد بهاء الدين الآن) إلى حيث يقيم صلاح ونمضى معه يوما فى ريف تلك المصحة الرائع، فوافق – متحمسا – وذهبنا، وكان صلاح جاهين فى واحدة من اسعد حالاته التى رأيته فيها إطلاقا، ودار حوار حول أدباء انجليز عاشوا فى الريف، وتغيير حكومى مصرى جرى يومها وتولى فيه السيد كمال حسن على رئاسة الوزارة، فضلا عن استرجاع ذكريات معركة كبرى دارت بين صلاح جاهين ود. مصطفى أبو زيد فهمى المدعى الاشتراكى نجم عملية 15 مايو مع السادات، وهى تلك المعركة التى دخلها أحمد بهاء الدين كرئيس لتحرير الأهرام (الجريدة التى هاجم فيها صلاح جاهين مصطفى أبو زيد) وقد ظل الأستاذ بهاء يكتب – يوميا – فى الصفحة الأولى للجريدة مدافعا عن صلاح جاهين، ومطالبا بالفصل بين منصبى وزير العدل والمدعى الاشتراكى، وهو ما حدث على أية حال فيما بعد.. قال لى صلاح جاهين إن الأستاذ بهاء هو الذى رشحه للأستاذ هيكل ليرسم فى «الأهرام» لان هيكل أراد إدخال الكاريكاتير للجريدة المحافظة المتزمتة.. وكان يعرف أن روز هى معقل الكاريكاتير، لا بل كانت من أدخلته إلى أخبار اليوم التى جاء منها هيكل، فقد خرج الأستاذ محمد التابعى من التحالف الثلاثى الذى كان يصدر روز (مع السيدة فاطمة اليوسف والأستاذ محمد على حماد) وراح ليؤسس «أخر ساعة» و»أخبار اليوم» عام 1944 مصطحبا معه الرسام الارمنى اليكس صاروخان، ومحمد عبد المنعم رخا، وليبدأ عصر عبد السميع فى روز اليوسف، ومن ثم طلب هيكل من بهاء أن يرشح له رساما كاريكاتوريا، وكان صلاح جاهين واحدا من ابرز رسامى ما بعد رحيل عبد السميع من روز إلى الأخبار ثم إلى جريدة الشعب، فدفع به بهاء إلى هيكل فى الأهرام، وهناك خاض معركتين إحداهما ضد الشيخ محمد الغزالى والرجعية الدينية إبان المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية، والثانية كانت معركة مصطفى أبو زيد فهمى.
وفى لندن – كذلك – سجلت موقفا غريبا جمعنى والأستاذ أحمد بهاء الدين، إذ دعانا الكاتب الصحفى السورى عرفان نظام الدين إلى حفل وداع للسفير المصرى فى لندن – وقتها – وهو السفير حسن أبو سعدة، وكان الحضور – جميعهم – من رموز ونجوم الجاليات العربية فى العاصمة البريطانية، وبدأ السفير أبو سعدة فى إلقاء كلمته، وإذا به – لدهشتنا – يتحدث عن الضربة العسكرية التى قادها ضد ليبيا قبل سنوات، ويوجه إلى العرب – عموما – تهديدات بمواجهة نفس المصير إذا مس اى طرف مصر.. وبدا الحديث غريبا جدا فى حضور سفراء العرب، ووجهاء ومثقفين من كل مكان فى العالم العربى، وشعرت بنظرات الأستاذ بهاء تلسعنى وتطلب منى الذهاب إليه، فلما فعلت، قال لى مخنوقا لا يكظم غيظه: (أنا عايز اخرج من هنا حالا)، وحرت لا اعرف ماذا افعل، حتى وجدتنى إلى جوار صاحب الدار فهمست إليه باننى فى إعياء شديد، ولابد من انصرافي وزوجتى، وسنصطحب الأستاذ بهاء الذى جاء معنا فى سيارتنا لأنه يريد الاطمئنان على حالتى، وانصرفنا من باب الحديقة الخلفية حتى لا نلفت نظر الضيوف.
وكان آخر ما جمعنى بالأستاذ بهاء مكالمة تليفون.. إذ اتصل بى فى مكتبى وقت كنت مديرا لمكتب جريدة «الحياة» الدولية فى القاهرة، ووجدت صوته متعبا وحزينا، فلما ساءلته عما به، اجابنى أن «الأهرام» رفض نشر إعلان من صفحة كاملة تقدم به (وبتمويل عربى) ضد هجرة اليهود السوفيت إلى فلسطين، وكان ما آلمه – أيضا – فى ذلك اليوم امتناع بعض كبار المثقفين من أصدقائه عن التوقيع على بيان كتبه حول القضية، ومنهم: كاتب صحفى كبير وأديب عالمى وممثلة من اصدق صديقاته.. ويومها – عند العصر – أصيب الأستاذ بهاء بالجلطة التى غيبته عنا لسنوات، أمضى جزءا منها فى بيته الساحلى بأبى تلات فى العجمى، وقد دعانى د. زياد بهاء الدين أن أراه، ولكننى لم اقو على مواجهة تلك اللحظة، فاعتذرت محتفظا للرجل فى ذاكرتى بصورته التى عرفته عليها لسنوات.
........................
وفى مشوار جمعنا إلى مدينة برايتون الساحلية (100 ميل جنوبى لندن) اخبرني عن كتاب جديد أطلعه الأستاذ هيكل عليه قبل الصدور عن علاقته بمصطفى أمين (وهو كتاب: بين الصحافة والسياسة) ووسط دردشاتنا وفى أعقابها لاحظت أن الأستاذ بهاء فى أوقات الصمت كان «يدندن» فلم اقطع عليه استرساله، ولكننى سألته – فيما بعد – وفى احد حوارتنا عن الفنون عن سر الدندنة، والأغنية التى يضبط نفسه مدندنا بها فقال: «أنا رجل كثير الدندنة، ومن ثم لا استطيع أن احدد لك أغنية بالتحديد، فهذه إحدى عاداتى وهى تمثل صوت داخلى لا يسمعه غيرى، وغالبا تكون تلك الاغانى قديمة، ولكنها تنتمى إلى عصر الستينيات أو السبعينيات، لا اعرف لماذا، ربما لو سمع هذا الكلام عالم نفسى لقال إن ذلك نوع من الاسترجاع النفسى.. وهذا صحيح إلى حد كبير فعندما يدندن الإنسان بلحن ما فإن ذلك سوف يكون له صلة نفسية سواء كانت شجنا أو ابتهاجا أو اكتئابا، وهو أمر مدفون فى اللاشعور.. ولو كنت شخصا قليل الدندنة لاستطعت الاختيار، إلا اننى – فى معظم الحالات – احمل ذلك الصوت الداخلى، وغالبية ما أترنم به هو من اغانى نجاة الصغيرة وعبد الوهاب القديمة، وهذا اللون الرقيق الناعم الذى ليس فيه أى قدر من الصراخ هو الأقرب إلى مزاجى».. وفى موضع آخر تحاورنا فيه عن الغناء قال لى الأستاذ بهاء: «أنا وعبد الحليم حافظ أبناء جيل واحد، ففى الوقت الذى كنت فيه كاتبا جديدا بروز اليوسف كان عبد الحليم حافظ وكمال الطويل صديقين لا ينفصلا، ويبحثان عن دور لهما، وكنا نذهب إلى فيللا والد كمال الطويل فى الروضة لنجلس معا ونسمع عبد الحليم، وكان واضحا أن عبد الحليم حافظ – حتى قبل شهرته هذه – كان صوتا جديدا بمجرد سماعه تشعر انه مختلف، ولذلك فإن صوت عبد الحليم انفجر فجأة لأنه كان متكونا بالفعل، وهذه ظاهرة غريبة، فقد وصل عبد الحليم إلى الناس عبر الإذاعة ناضجا، وطوى صفحة ما لا يقل عن عشرين مطربا، نسى الكثيرون أسماء عبد الغنى السيد وعبده السروجى وعباس البليدى وعبد العزيز محمود، وغيرهم من المطربين الناجحين، فقد انطفأت تلك الشموع بنفخة واحدة عندما غنى عبد الحليم حافظ، وكان عبد الحليم – أيضا – هو المطرب الوحيد الذى توفر له علم بالموسيقى باستثناء محمد عبد الوهاب، ومن ثم فقد كان صوتا يمثل طرفا فى حوار مع من يلحن له، ولم يك الملحن يقوم – فقط – «بتزغيط» اللحن لحنجرته الجميلة، ولهذا فقد افتقد كثير من الملحنين صوت عبد الحليم الدارس الفاهم، وقالوا بعد وفاته نحن لا نجد منبرا نقدم من فوقه ألحاننا – بالضبط – كما لا يجد الصحفى – أحيانا – جريدة أو منبرا يصلح لتقديم آرائه.. أما صوت أم كلثوم فكان صوتا ديكتاتوريا، من فرط حلاوته وقوته واتساعه يبتلع عمالقة التلحين الذين لحنوا لها، حتى إن عبد الوهاب لم يلحن لأم كلثوم إلا عندما نضج – تماما – كملحن، ولا أذيع سرا إذا قلت إن مشكلة عبد الوهاب فى أثناء إعداده أول لحن لأم كلثوم (إنت عمرى) كانت فى كيفية إخضاع ذلك الصوت الجبار لنظام موسيقى جديد.. ويبقى أن أتحدث عن نجاة الصغيرة، وقد كنت أرى دائما أنها تقف – مباشرة – بعد الخوارق الفنية الثلاث (أم كلثوم – عبد الوهاب – عبد الحليم) والعبرة فى تفوق نجاة ليست قوة الصوت، ولكن حساسية ذلك الصوت فإذا استعرت تعبير محمد عبد الوهاب بأن هناك صوتا ذكيا غير قوى، وصوتا آخر قوى وغبى، فإن صوت نجاة يمثل الفئة الأولى من غير شك.. فئة المطرب الذى يمتلك العقل الذى يدير به صوته».
والحقيقة فإن آراء الأستاذ بهاء عن الغناء لم تك فى باب القراءة النقدية الفنية وحدها، ولكن معارفه ورؤاه الإنسانية السياسية والاجتماعية تضفرت فيها على نحو غريب ومن ذلك ما ذكره لى مرة عما اسماه (لامركزية الغناء) قائلا:
«أول فن مارسه الإنسان هو الغناء لأنه لا يحتاج إلى استعدادات كبيرة مثل الفنون الأخرى، كما أن الغناء لا يحتاج إلى ثقافة مميزة مثل الشعر أو القصة أو المسرح، والإنسان يستطيع ممارسة الغناء فى أى مكان.. فى البيت، أو المسرح، أو الحمام.. والشعب المصرى شغوف بالغناء، والآن صارت هناك أنماط متعددة للغناء بسبب هجرة المصريين إلى أماكن مختلفة، والهجرة من الريف إلى المدينة وتعدد الثقافات.. وقبل أن تصبح الإذاعة وبعدها التليفزيون بالقوة والانتشار الحاليين لم يوجد سوى عدد قليل من المطربين والملحنين المتفوقين بشكل كاسح مثل أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ونجاة وشادية وفايزة، وأينما ذهبت إلى أى قطر عربى وجدت الناس يغنون أغانيهم ويعرفونها جيدا، ثم جاءت مرحلة انتشرت فيها أجهزة الراديو «الترانسيستور» ، ووصلت الكهرباء إلى كل الأنحاء فتراجع الغناء المحلى الريفى والصعيدى والنوبى إلى حد كبير، وأصبح اعتقاد الناس أن الغناء الحقيقى هو ما يصدر عن مبنى الإذاعة، على الرغم من أن الدولة – وعلى غير العادة – بذلت جهودا كبيرة للإبقاء على الغناء المحلى أو الشعبى فاهتمت فى الخمسينيات والستينيات بالفنون الشعبية عموما، ولكن كل تلك المحاولات كانت اضعف من تيار الأغنية الإذاعية السائد، وأخيرا ظهر شريط الكاسيت الذى جعل أى شخص لديه شعور بأن لديه استعدادا لأن يلحن ويغنى، وساعد على ذلك انتشار أجهزة التسجيل فى العالم العربى كله ومصر خصوصا، وصار المطربون يحققون أرباحا كبيرة من دون حاجة للإذاعة والتليفزيون، وظهرت صناعة تبنى الأصوات الجديدة، و»فاترينة» الشرائط لدى الباعة، ووصل الكاسيت إلى مستويات اجتماعية واقتصادية شديدة الخلاف، وصرنا نسمع عن شريط المليون نسخة، على الرغم من أن الجمهور التقليدى الذى يقع داخل دائرة التركيز فى التذوق الفنى لم يسمع بذلك الشريط أو صاحبه.. بالعربى لقد وصلنا عصر لامركزية الغناء وصارت ظاهرته خارج إطار السيطرة».
...............
لا أحب أن افرغ من سيرة الأستاذ أحمد بهاء الدين ولكنها المساحة، قتل الله المساحة، تدهمنى، وتقيلنى عن السطور والصفحات!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.