ليس فقط لأن الاحتفال بذكرى ميلاده كان قبل عدة أيام..ولكن لخصوصية "الميلاد" عند صاحبها الذي جعل منه " فلسفة " لا ينال منها الموت.. أحب اعيش ولو أعيش فى الغابات أصحى كما ولدتنى أمى وابات طائر . . حبوان . . حشرة . . بشر . . بس اعيش محلا الحياة . . حتى فى هيئة نبات عجبى !!
زهر الشتا لم يترك لك صلاح جاهين فرصة لتنساه.. فقبل أن يشير لك باب "حدث في مثل هذا اليوم" إلى ميلاد هذا الرجل يوم 25 ديسمبر 1930 ،كانت ليالى الشتاء تئن لذكراه : دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت وحاجات كتير بتموت فى ليل الشتا لكن حاجات أكتر بترفض تموت عجبى !!
ربما لن يتسع المجال هنا لتأمل "الربيع" كتيمة وارفة استغرقت "الفيلسوف" صاحب كل الفصول صلاح جاهين ،تتأمل ..ما الذي كان عساه أن يكتب لو عاصر معنا ما أطلق عليه "الربيع العربي"؟ وهو من غاص في أوجاع السياسة وانصاراتها معا ،كان شديد الحساسية لنبض الشارع وانكسارات الأحلام، حتى أن الكثيرين أرجعوا موته لنوبات اكتئاب أصابته في أعقاب النكسة ،وهو من ملأ الأرض شعرا وغناء لثورة 1952 التى كانت مصدر إلهامه الغزير، كاتبا على إثرها عشرات الأغانى التى تصخب بمفردات العلم والعمل،حتى جاءت نكسة 1967 لتفجر بداخله بركانا من أحزان وتساؤلات لا حصر لها عن أسباب الهزيمة ،زادت بعد موت جمال عبد الناصر الذي عشق زعامته.
فى زمن التكفير قبل أيام استقبل "مركز إعداد القادة" بالعجوزة احتفالية لصلاح جاهين تزاحم فيها الحضور تقديرا لهذا العملاق، من بينهم الفنان محمود حميدة والفنانة إبنة الراحل سامية جاهين والدكتور محمد أبو الغار والكاتب أسامه غريب والدكتور عمار على حسن والإذاعية الكبيرة أمال فهمى والكاتبة الصحفية فريدة الشوباشى والمفكر السيد الغضبان. تلمس بصمات "الحياة " التى بذرها صلاح جاهين قبل رحيله وأنت تشاهد مدى تماهى الحضور مع غناء مطرب الثورة أحمد إسماعيل لأغانى جاهين الأثيرة منها "بالأحضان " و"ثوار"..وتترحم عليه وأنت تدندن مع إسماعيل: من أرضنا هل الإيمان والدين عيسى ومحمد ثورتين خالدين تترحم عليه فى زمن بات التكفير فيه سائغا على الألسن ،في زمن استقطاب دينى غريب على المجتمع المصرى الذي كتب فيه جاهين تلك القصيدة التى تقرأ كلمة "ثورة" فيها على مددها ،تستلهم كثيرا من نبضها في تلك الأيام التى تعيش فيها مصر تبعات ثورة يناير في حذر، تستمع لسيدة الشرق أم كلثوم تشدو قصيدة جاهين محل الحديث: الشعب قام يسأل على حقوقه والثورة زى النبض في عروقه التفاعل ذاته كان مع أغنية صلاح جاهين "صورة" التى باتت أيقونة ميدان التحرير 2011 رغم أن عبد الحليم حافظ كان قد غناها عام 1966 ،في مفارقة شديدة الدلالة جعلت من جاهين غائبا حاضرا بلا منازع في ثورة يناير السلمية.
ما يؤخذ بالقوة على هامش الاحتفالية التقيت ابنته الفنانة والناشطة السياسية سامية جاهين ،التى تحمل الكثير من وهج والدها الكاريزمي، سألتها: ما هى القصيدة أو الأغنية التى كتبها جاهين وتعتقدين أنها تعبر عن حال هذه الأيام؟ أجابت سامية بلا تردد :أغنية "ما يؤخذ بالقوة" التى غنتها سعاد حسنى من ألحان سيد مكاوى ويقول فيها : مفيش بلد صانت كرامتها إلا بتضحية من أمتها ولا أرض أصبح لها حرمتها إلا إلى شعبها عنده مُروّة
الإبن الأكبر بهاء جاهين كان على موعد أثناء تلك الاحتفالية مع إلقاء شعر والده واختار قصيدة " غنوة برمهات" التى كتبها جاهين عام 1961 بعدما استبد به الشوق لأصدقائه الذين زج بهم داخل المعتقلات ومنها يقرأ: يا ساكنين الصفيح، استبشروا وافرحوا أنا مانيش المسيح، علشان أقول لكم، طوبى لكم غلبكم، لكنى باحلف لكم، باحلف بكم .. وباقول ، الدنيا كدب ف كدب، وانتوا بصحيح قاطع الحضور بهاء بتصفيق حاد في أكثر من موضع في القصيدة الحزينة التى تشكل علامة في تاريخ القصيدة السياسية لصلاح جاهين.
جينات جاهينية الحق أن جانب من إبداع صلاح جاهين وجد طريقه لدى نسله الذي تشبع بجيناته الفنية فأنبت وأورقت فنا على فنه ، تتوقف عند الشاعر الكبير بهاء جاهين وشقيقته سامية جاهين ثم تنظر إلى جيل الأحفاد فتجد عمر بهاء جاهين الذي شارك هو الآخر في الأمسية من خلال فرقته " لمبة جاز" التى قدمت مزجا بين الغناء والإلقاء الشعري لبهاء جاهين ،من بين فقراتها كانت عرضا متميزا لملحمة جاهين الآسرة " على اسم مصر" قطعوا الأغانى وطارت نشرة الأخبار دارت على كل دار فى الكوكب الدوار ياسامعين اعلموا الغايبين بإنه ف مصر اتغير الاسم منذ الآن فأصبح.. مصر تندهش في كل مرة تقرأ أو تستمع فيها ل" على اسم مصر" التى لو لم يكن جاهين قد كتب غيرها في حياته لكانت قد كفته وغزلت له اسما من حرير،ولكن غزارة انتاج هذا العملاق من جهة وتنوع مجلات عطائه من جهة أخرى هى ما تجعلنا أمام حالة فريدة تحير في الكتابة وأنت في حضرة إرثه الخالد.
القوة الناعمة الاحتفال بجاهين فى تلك الأيام "المربكة" سياسيا واجتماعيا دفعت يحي حسين،مدير مركز إعداد القادة الذى استضاف الفعالية، أن يؤكد قبل بداية الحفل " البعض قد يرى أن الظروف التى تمر بها مصر لا تناسب الاحتفالية ونحن نرى ان استدعاء الاحتفال بذكرى جاهين هو استدعاء لقوانا الناعمة خاصة في هذا الوقت ،لنتذكر أن الأصل هو النور لا الظلام ..البهجة لا الحزن".
وهو ما أكده بهاء جاهين مستعيرا كلمات الشاعر أمين حداد ،الذي كان حاضرا، حين قال "عندما نقول الشعر أو نغنى أغنية حتى لو كانت قصيدة حب فهذا نوع من المقاومة" وأضاف " الغناء دائما يكون صالحا خاصة عندما يكون من كلمات صلاح جاهين".
كاريكاتير سينمائي كاريكاتير صلاح جاهين مدرسة يترحم عليها كبار رسامى اليوم ومنهم الفنان عمرو سليم الذى تحدث في الاحتفالية واصفا جاهين ب "الساحر الذى علمنا السحر" مؤكدا على اهمية الاحتفاء به خاصة في مثل هذه الظروف التي تمر بها البلاد " مش عارفين داخلين فيها على إيران ولا باكستان ولا إيه؟ " يتعجب سليم في هذه الأثناء وهو يستعرض عددا من رسوم جاهين التى انتقاها للتعليق عليها "كلما كنت أشاهد كاريكاتيرا لجاهين كنت أقرأ له الفاتحة بعدها، تعملت منه اتقان الرسم كل يوم وإتقان الإمضاء عليه".
استعرض الفنان عمرو سليم عددا من الرسوم التى أرخّت لثلاثة عصور مرت بها مصر تحت قيادة عبد الناصر والسادات ومبارك ،وتكتشف من تلك الرسوم "وهم ما يقال عن البنية التحتية" على حد تعبيره ،وتكتشف كذلك من رسومه أن مشاكل مصر لم تتغير منذ أكثر من 50 عاما من انقطاع المياه والزحام والنظافة وحتى التكاليف الباهظة للحملات الانتخابية ،" دائما كان يدهشنى الجانب الطفولى عنده وألمعيته وجمال خطوطه" وأضاف سليم "كتابه جاهين للسيناريو جعلت كاريكاتيراته تبدو وكأنها لقطات سينمائية".
استعراض سليم لرسوم جاهين "الطفولية" كان يسمع صداها في ضحكات جمهور الحضور الذي لمس مدى معاصرة جاهين لمشكلات لا زال يلمسها اليوم ،فترحم عليه.
صاحب تل الحمص ! سجل الشاعر محمد البغدادى حديث أجراه مع الشاعر الكبير محمود درويش عن صلاح جاهين في كتابه " صلاح جاهين..أمير شعراء العامية" ،ومن ذلك قول درويش "صلاح جاهين قال بالنيابة عنا ما عجزنا عن قوله بالفصحى".
"العجز" الذي تحدث عنه درويش يشى بالكثير من نبوغ صلاح جاهين الفنى وتفرد تقنياته الكتابية، وروعة حدسه ،وخفة ظله منقطعة النظير التى قادته إلى مسرح العرائس والفوازير ،تندهش كثيرا وأنت في رحاب "الليلة الكبيرة" من أن صاحب " حمص حمص، تل ما ينقص، عالنار يرقص. يرقص يرقص" هو نفسه صاحب رباعية: مرغم عليك يا صبح مغصوب يا ليل لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل شايلنى شيل دخلت أنا الحياة وبكره ح أخرج منها شايلنى شيل عجبى !!