الداخلية تحتفل باليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة وتطلق مبادرات دعم شاملة    الأبرز| مذكرة تفاهم للتعاون العلمي والبحثي.. أنشطة وزارة الزراعة خلال أسبوع    قفزة بأسعار الذهب ومكاسب الأوقية 50 دولار.. والمحلي يلحق بها    انطلاق أعمال ملتقى أريج في نسخته الثامنة عشرة    عمان ضد المغرب .. التعادل السلبي يحسم الشوط الأول    الأمم المتحدة تدعو لتحقيق شامل ومحاسبة المسئولين عن جرائم الأسد والهجمات الإسرائيلية في سوريا    هانز فليك يتفوق على أساطير تدريب برشلونة فى الدوري الإسباني    قرعة المونديال.. ترامب يشارك.. مصر تترقب.. الزمالك يهزم الأهلي.. وصلاح استثنائي| نشرة الرياضة ½ اليوم    لهم معلومات جنائية.. «بلطجية السوشيال ميديا» في قبضة الأمن| فيديو    ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي بالسوق السوداء بقيمة 4 ملايين جنيه    أول ظهور ل تامر حسني بعد وعكته الصحية الأخيرة (فيديو)    وزير الثقافة السعودى بمهرجان البحر الأحمر: القطاع يشهد نهضة غير مسبوقة    نسمة محجوب تقدم أغانى أم كلثوم بأداء منى زكى فى فيلم الست    موعد عرض الحلقة النهائية من برنامج دولة التلاوة وإعلان الفائز    الصحة: فحص أكثر من 7 ملايين طالب ضمن مبادرة رئيس الجمهورية للكشف المبكر عن «الأنيميا والسمنة والتقزم» بالمدارس الابتدائية    بيان ناري من الداخلية في غزة بشأن مقتل أبو الشباب    رئيس مصلحة الجمارك: نتطلع إلى نقلة نوعية في كفاءة وسرعة التخليص الجمركي للشحنات الجوية    فرنسا ترحب بتوقيع اتفاق السلام بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا بواشنطن    جامعة المنصورة الأهلية تشارك بمؤتمر شباب الباحثين لدول البريكس بروسيا    حلمي طولان: تصريحي عن الكويت فُهم خطأ وجاهزون لمواجهة الإمارات    جامعة حلوان تنظّم ندوة تعريفية حول برنامجي Euraxess وHorizon Europe    مخالفات جسيمة.. إحالة مسؤولين بمراكز القصاصين وأبو صوير للنيابة    ميادة الحناوي ترد على استخدام AI لتحسين صوتها: مش محتاجة    رمضان 2026| جهاد حسام الدين تنضم لمسلسل عمرو سعد "عباس الريس"    تموين المنوفية تضبط 4 أطنان أعلاف مجهولة وتحرر 231 محضرًا خلال يومين    شركة "GSK" تطرح "چمبرلي" علاج مناعي حديث لأورام بطانة الرحم في مصر    الصين وفرنسا تؤكدان على «حل الدولتين» وتدينان الانتهاكات في فلسطين    اختيار مشروع جامعة عين شمس ضمن مبادرة "تحالف وتنمية" لتعزيز الأمن الغذائي وتوطين الصناعة    «الطفولة والأمومة» يضيء مبناه باللون البرتقالي ضمن حملة «16يوما» لمناهضة العنف ضد المرأة والفتاة    سام ألاردايس: انتقاد كاراجر ل صلاح «مثير للشفقة»    لمدة 12 ساعة.. انقطاع المياه غرب الإسكندرية بسبب تجديد خط رئيسى    طريقة استخراج شهادة المخالفات المرورية إلكترونيًا    سورة الكهف نور الجمعة ودرع الإيمان وحصن القلوب من الفتن    لتعزيز التعاون الكنسي.. البابا تواضروس يجتمع بأساقفة الإيبارشيات ورؤساء الأديرة    اتهامات جديدة لوالد المتهم في جريمة تلميذ الإسماعيلية    «البريد» يكشف تفاصيل إصدار شهادة بسعر المشغولات الذهبية    وزارة العمل تقدم وظائف جديدة فى الضبعة بمرتبات تصل ل40 ألف جنيه مع إقامة كاملة بالوجبات    منافس مصر.. الإمارات أغلى منتخبات بطولة كأس العرب 2025    خشوع وسكينه....أبرز اذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    بعد انقطاع خدمات Cloudflare.. تعطل فى موقع Downdetector لتتبع الأعطال التقنية    حريق مصعد عقار بطنطا وإصابة 6 أشخاص    وسام أبو علي: نسعى للفوز على سوريا وسأبقى مع فلسطين حتى النهاية    صلاح مصدق يعود للمغرب بعد فسخ عقده مع الزمالك    وزير الكهرباء: تعظيم مشاركة القطاع الخاص بمجالات الإنتاج والتوزيع واستخدام التكنولوجيا لدعم استقرار الشبكة    العثور على جثة طفلة مجهولة الهوية بالترعة الإبراهيمية فى سمالوط بالمنيا    لقاءات ثنائية مكثفة لكبار قادة القوات المسلحة على هامش معرض إيديكس    الأهلي يلتقي «جمعية الأصدقاء الإيفواري» في افتتاح بطولة إفريقيا لكرة السلة سيدات    محافظ الجيزة: توريد 20 ماكينة غسيل كلوي ل5 مستشفيات بالمحافظة    طريقة عمل السردين بأكثر من طريقة بمذاق لا يقاوم    بعد إطلاق فيلم "أصلك مستقبلك".. مكتبة الإسكندرية: كل أثر هو جذر من شجرتنا الطيبة    مصر ترحب باتفاقات السلام بين الكونجو الديمقراطية ورواندا الموقعة بواشنطن    رئيس جامعة القاهرة: نولي اهتمامًا بالغًا بتمكين أبنائنا من ذوي الإعاقة    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 5 ديسمبر 2025    استشاري حساسية: المضادات الحيوية لا تعالج الفيروسات وتضر المناعة    كيف تُحسب الزكاة على الشهادات المُودَعة بالبنك؟    ننشر آداب وسنن يفضل الالتزام بها يوم الجمعة    الأزهر للفتوي: اللجوء إلى «البَشِعَة» لإثبات الاتهام أو نفيه.. جريمة دينية    الحصر العددي لانتخابات النواب في إطسا.. مصطفى البنا يتصدر يليه حسام خليل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



واقتراح عبدالحليم آن تغني أم كلثوم لحناً لعبدالوهاب
نشر في صباح الخير يوم 04 - 06 - 2013

بين أشجار الشوارع نصف الملونة فى الحى السادس عشر بباريس فى أحد أيام شتاء 4691 أضاءت بعض من زهور صغيرة رغم قسوة الشتاء. وكان اليوم يوم أحد.
وأخذ عبد الحليم يدندن «جفنه علم الغزل .. ومن العشق ما قتل». وكنت أسمع صوته وأنا بجانبه كأنه يهمس فى قلبى مباشرة. وكانت دقات قلبى تكاد أن تخرج من بين ضلوعى لتقول للشاريع «هس .. عبد الحليم يغنى».

ولاحظ عبد الحليم أنى غارق فى الانتباه لصوته بشكل أخاذ، فقال: دى صنعة يا أستاذ. وضحك.
فقلت: كل فنان فى مجال ما يظن أن الآخرين قادرون على إتقان نفس ما يتقنه الفنان نفسه.
قال: إلا عبدالوهاب وأم كلثوم، فكلاهما يعرفان تماما قدرات أى مطرب أو موسيقى.
قلت: هيا بنا إلى موعدنا لنلتقى مع كلود إستييه رئيس تحرير صحيفة «ليبراسيون»، فأنت تعرف أنك تدينه بدعوة الغداء التى أقمتها له فى بيتك بالقاهرة.
استغرب قائلا: أعوذ بالله، هل المسألة تصل إلى حد الدين؟ لقد جاء إلى مصر وطلب مقابلتى كواحد ممن أحبهم المقاتلون الجزائريون، فدعوته على الغداء، وتحدثنا أمامك عن كل شىء، بداية من فكرة عشق المقاتل الجزائرى للحرية، ونهاية إلى تأثير الأغنية على المشاعر. فهل هم يقيسون المسألة هنا بدعوة على الغداء يجب ردها؟
أقول: فى جميع أنحاء العالم لابد من أن تكون هناك فكرة وراء قضاء بعض من الوقت معك على طعام، ولعل الرجل يطلب التعرف على مزيد من الوقائع عن الجزائر وتأثير الأغنيات على الإنسان هناك، ولو كانت هناك أفكار أخرى سنجدها أمامنا.
يقول لى عبدالحليم: وما الفكرة التى يمكن أن تكون وراء دعوة كلود إستييه لى ولك على الغداء؟
قلت : ستظهر كل الأفكار حين نجلس معه.
∎∎
منزل كلود إستييه ليس إلا غرفة صغيرة فى حديقة منزل قديم كان يسكنه فان جوخ وصديقه جوجان. هنا عاش اثنان من عباقرة فن التصوير بالألوان.
قال عبدالحليم: لو أننى من الفنانين الذين يبحثون عن مكان فى باريس لما جئت إلى هضبة المونمارتر، وكنت سأختار أسلوبا ومكانا آخر لتقديم نفسى وفنى للعالم، فتكرار أسلوب التقديم، يخصم من قيمة الفنان ويراه الجمهور بعيون المقارنة بينه وبين غيره. ويفقد الفنان فرصة أن يشعر الجمهور بقيمة فنه الجديد.
قلت ضاحكا: لو أن الرسامين فكروا كما تفكر أنت كمطرب، لكان لهم شأن آخر. ولدخلت اللوحات الفنية لكل البيوت.
قال عبدالحليم: لا يمكن أن تدخل اللوحات الفنية كل البيوت، لأن الناس لا تفهم ماذا يريد الرسامون من لوحاتهم.
أقول: وهل يفهمون ما يريده المطرب من أغانيه؟
قال: لو لم يفهم الناس أغنيات أى مطرب، لألقوه بالطماطم.
قلت: هل مررت بتجربة الضرب بالبيض والطماطم؟
قال عبدالحليم: كان المعلم «صديق» متعهد الحفلات يقول لى «غنى أغانى عبد الوهاب» وأنا رأسى وألف سيف أن أغنى أغنياتى الخاصة، ولابد أن أقول إن تحية كاريوكا كان لها الفضل فى أن يصبر عم صديق المتعهد لمدة عشرة أيام، وفى اليوم العاشر حدثت حكاية الضرب بالبيض، بيضة واحدة فقط، أنت تعرف أن جمهور الصيف يتناول العشاء فى أغلب الأحيان «بيض وسميط وجبنة»، ويبدو أن واحدا قد ناله بعض من سباب المونولوجست حمامة العطار فأراد أن يرد عليه، ولما لم يستطع وخرجت أنا لأغنى ضربنى بالبيضة التى فى يده ولم تلمسنى. وعندما كان المعلم صديق يطالبنى أن أغنى أغانى عبدالوهاب كنت أقول «حا أفكر». وحين قال المعلم صديق إنه يخيرنى بين أن أغنى أغانى عبد الوهاب أو ألا أغنى، دفعت تحية كاريوكا لى الخمسة جنيهات التى كانت دينا للمعلم صديق، ورفضت أن ترقص على المسرح.
وبإحساسى رفضت قبول فكرة الغناء كدوبلير لعبد الوهاب، فأن تغنى لواحد غير أغانيك سيتم سجنك فى هذا الإطار.
∎∎
ويستقبلنا كلود إستييه رئيس تحرير جريدة الليبراسيون، ومعه سكرتيرة تحرير مجلة الإكسبريس. وكانت مجلة الإكسبريس قد بدأت فى التحول من اتجاه اليسار إلى اتجاه اليمين.
قال كلود إستييه: جمال كريستين سيغفر لها تحول المجلة التى تعمل بها من الدفاع عن الفقراء إلى مغازلة الأغنياء.
قال عبدالحليم: جمال المرأة فى أى موقع هو شهادة لجمال الموقع، اليسار جميل إذا كانت المرأة التى تعبر عنه جميلة. واليمين جميل إذا كانت المرأة التى تعبر عنه جميلة.
وترجمت صديقتى كلمات المجاملة، فوضح أثرها على ملامح كريستين، فقلت: هل تريد أن تقيم علاقة غرام فى باريس؟
قال: وليه لأ؟ وضحكنا.
قال كلود إستييه لعبد الحليم: كيف وأنت بهذا الجسد الرقيق النحيف تهدد فرنسا الكبيرة، وكيف ألهبت مشاعر المقاتلين فى جبال الجزائر، وهم يحاربون جنود الاحتلال؟
وكعادة عبد الحليم كان قد درس شخصية كلود إستييه قبل أن نذهب إليه وعرف أنه صحفى يناصر العرب، وأنه كان يناصر الثورة الجزائرية، ويتمتع بالصداقة مع «بن بيلا» قائد الثورة و«بومدين» قائد جيش التحرير الجزائرى فى ذلك الوقت. وأن كلود إستييه زار مصر وقابل جمال عبدالناصر.
وقال عبدالحليم: أنت لا تعلم أنى أناصر أيضا امرأة فرنسية تريد أن تخرج حبيبها من الجزائر ليأتى لها، وصاحبة الفندق الذى ينزل فيه منير لها ابن فرنسى محبوس على ذمة قضية سياسية فى الجزائر وتريد أن تخرجه من السجن ليأتى إلى فرنسا. وهكذا ترى أنى أساعد الفرنسيات أيضا.
∎∎
غرق كلود إستييه وعبد الحليم فى مناقشة الحالة العاطفية لأهل الشرق. فكلود إستييه كفرنسى يتعجب من أفكار السهر والسهد فى الحب، مع أن الحب أبسط وأسهل مما يتخيل مؤلفو الأغانى الشرقيين، وعبد الحليم يرى أن العاطفية الشديدة التى ينكرها إستييه على أهل الشرق هى عامل أساسى ومهم فى الشخصية الشرقية.
وضحك إستييه وهو يقول لعبد الحليم: هل تظن أن تلتقى بامرأة فرنسية وتقول لها كلاماً مثل هذا الذى تمتلئ به أغانى الشرق، فتصدق المرأة أنك تحبها؟
وامتلأ وجه عبد الحليم بالقلق والألم للحظات، وقال لى: أنت تعرف أنى تعلمت الموسيقى فى ملجأ، وكان بالملجأ واحد أو اثنان من اللقطاء، مجهولى الأب، وطبعا فى الشرق لابد أن يكونوا مجهولى الأم. وكان الواحد من هؤلاء أشد قسوة على كل من حوله، شراسة تفوق التصور، وكنا نتجنبهم، لأن الواحد منهم مستعد أن يضرب زميلا له إلى آخر مدى، الحياة والموت لا يفرقان عنده، وعندما كبرت، كثيرا ما سألت نفسى: هل يمكن أن تكون لحظة اقتراب رجل من امرأة مليئة بالغش الذى ينتج طفلا على هذه الدرجة من القسوة ؟ سؤال كنت وما زلت أريد أن أعرف إجابة له.
قالت كريستين: القسوة هى وليدة استقبال المجتمع للطفل المولود، وأظن أنى قرأت كتابا عن القيم الإسلامية، ووجدت رسول الإسلام يوصى الناس بالأطفال، خصوصا اليتيم منهم، وأعتقد أن اللقيط يتيم بشكل أو بآخر.
يقول عبدالحليم: وأظن أن القسوة نفسها يمكن أن توجد فى ابن المرأة التى تتزوج دون حب، أو فى الإنسان الذى ينشأ فى أسرة محرومة من العلاقة الحلوة، ولعل منير يعرف أنى لم أتزوج من الإنسانة التى أحببتها، لأن لها أبناء، وكانت قد حصلت على الطلاق لنتزوج، ولكنى كنت أفكر ليلا ونهار فى أولادها.
ونظر إلى كريستين وقال لها: أنا أوافقك على أن القسوة تنشأ من أسلوب نظرة المجتمع للطفل، وأنا على سبيل المثال عانيت من القسوة بشكل غير عادى، ولست أقصد بالقسوة تلقى الضرب وأنا طفل، فهذا لم يحدث، ولكنها قسوة الظروف، والقسوة فى المجتمع الأوروبى تختلف عن القسوة فى المجتمع الريفى المصرى، فمن القسوة مثلا التى أذكرها الآن هو موت حمار خالتى زينب، وهو حمار لم أره فى حياتى، ولكنى سمعت حكايته عشرات المرات، والحمار - إن كنتم لا تعرفون - هو مصدر رزق لمن يملكه، وعادة ما يعمل الحمار بما يأتى بدخل يكفى لصاحبه، وكانت لى قريبة هى خالتى زينب، وكنت أزحف وأنا طفل وأدخل بيوت الحارة التى يوجد فيها بيتنا فى الحلوات، وحدث أن غبت يوما فلم أزحف إلى بيت الخالة زينب، فجاءت لتسأل عنى ولم تجدنى وأنا طفل، وغضبت خالتى زينب من أختى «علية» وظنت أنها تخفينى منها، خوفا من الحسد، وخرجت وهى غاية فى الضيق، وعندما عادت لبيتها وجدت حمارتها ميتة، وجلست السيدة العجوز تبكى على الحمارة التى تمثل بالنسبة لها رأسمال حقيقى، وحين دخلت زاحفا إلى منزلها بعد ذلك، حملتنى من الأرض وقبلتنى وقالت: «السعد قدامك وحواليك». وكان لها عند بعض من أقاربها بعض من النقود التى كانت تمثل ثروة فى تلك الأيام وسدد لها الأقارب النقود، واشترت حمارة غير التى ماتت، وهذه السيدة عندما تأتى لزيارتى فى القاهرة وتحكى لى تلك الحكاية فأنا أشعر بقسوة الأيام عليها، وأسرع لأختى «علية» لتعرف احتياجات هذه الخالة، لأن الحكاية التى تحكيها هى مقدمة لشرح وطأة الظروف اليومية، وأنا أعرف وطأة الظروف اليومية جيدا، ومن تربوا مثلى وهم يتامى يعرفون كيف تكون اللقمة مغموسة فى الهموم، كنت أتناول طعامى فى بيت خالى، وتقف اللقمة فى زورى، لو نظر لى أحد الأقارب وأنا آكل. لم يكن أحد فى بيت الخال بخيلا، ولكنها حساسية الظروف الصعبة، وحين استطاع أخى إسماعيل أن يجد عملا ويستأجر غرفة فى حى السيدة زينب كان ذلك بالنسبة لنا فرحة هائلة، وحين نجحت فى الابتدائية، وانتقلت من الزقازيق إلى القاهرة، كنت أحب أن أنظف حجرة أخى إسماعيل حتى يعلم أنى أشاركه مسئولية الحياة بما أملك، وحين جاء أخى محمد ووجد عملا فى الخدمات الطبية بالجيش المصرى، كان ذلك فرحا كبيرا، لأننا سنجتمع معا، وستأتى أختنا علية لتقيم معنا، بعد حياة مشتتة بالمعنى الكامل للتشتت، وكل خطوة تقدمت فيها فى حياتى كانت هى محاولة للابتعاد عن قسوة الظروف الصعبة.
قالت كريستين: ولكن الظروف الصعبة تتغير من عصر إلى عصر ومن زمن إلى زمن، وما كنت تعتبره سابقا هو «ظروف صعبة» صارت الوقائع التالية ظروفا أصعب منه.. ضحك كلود إستييه وقال لعبد الحليم: وهكذا هربت من موضوعنا الأساسى وهو العاطفية الشديدة التى تصبغ الغناء العربى، واقتحمت قلب صديقتى كريستين.
ضحك عبد الحليم: لم أقصد أن أقتحم قلبها، ولم أعلم أنك تسكن فى قلبها.
قال كلود إستييه: ومع ذلك لم تقل لى كيف حققت تلك الشعبية المنقطعة النظير فى الجزائر. لقد رأيتك تدخل فى الحفل الأول لعيد الثورة الجزائرية واستقبلتك الجماهير بعاصفة من التصفيق تفوق الخيال، وتجاهلت نفس الجماهير وجود المشير عبدالحكيم عامر نائب جمال عبد الناصر، ولقد رأيت ذلك بنفسى.
وبالحساسية الفائقة للهرب من السياسة قال عبدالحليم: هم لم يعرفوا عبد الحكيم عامر، نظرا لأنه دخل ضمن الوفد الذى يضم قيادات الثورة الجزائرية، وهم قد عرفونى لأنى دخلت بعد أن دخل الوفود، وأنت تعلم مكانة كل قيادة مصرية فى الجزائر.. واستطاع كلود إستييه أن يفهم سرعة الرغبة فى الهرب من هذا الموضوع عند عبد الحليم، فقال له: ماذا ستفعل فى الخميس القادم حين تغنى أم كلثوم من ألحان شريكك الملحن محمد عبد الوهاب.
قال عبد الحليم: أنت تسألنى وكأنك لا تعرف أنى واحد ممن شاركوا فى صناعة هذه المعجزة، والتى سأسمعها فى منزل السكرتير الثانى للسفارة المصرية عماد البط هنا فى باريس.
تساءل كلود إستييه وهو الذى يعلم أجواء المنافسة الضارية بين الفنانين، خصوصا فى مجال الغناء سواء فى مصر أو فى باريس أو فى أى بلد من بلاد الأرض، قال كلود إستييه: هل شاركت فى صناعة هذا الحدث نكاية فى عبد الوهاب أم نكاية فى أم كلثوم؟
وضحكنا جميعا، لكن عبد الحليم قال: فى احتفال الثورة الذى أقيم فى يوليو الماضى «3691» كنا نحن ثلاثة فنانين ضيوف جمال عبدالناصر ونائبه عبدالحكيم عامر على مائدة واحدة، وهو أصعب عشاء فى حياة عبد الوهاب لأنه يخاف دائما من مائدة أى حاكم، أما أنا فكما قال لى ضابط الجوازات الفرنسى وأنا أدخل باريس هذه المرة «أهلا بمطرب جمال عبد الناصر» وحكى لى ضابط الجوازات أن صورتى كانت موزعة على الجنود الفرنسيين المقاتلين فى الجزائر ضمن المطلوب القبض عليهم، ولذلك كنت أتصرف مع رجال قيادة مصر كأنهم بقية أقاربى الكبار، لهم احترامهم العميق، ولى حق المحبة العالية منهم، أما أم كلثوم فهى تتمتع بمكانة خاصة عند الرئيس جمال عبد الناصر وعند المشير عبدالحكيم عامر فى نفس الوقت، وهى تعلم أنها المطربة الوحيدة التى يسمعها جمال عبد الناصر من جهاز التسجيل، حين يكون بمفرده فى مكتبه، أما بقية المطربين فهو يسمع أغنياتهم أثناء تغييره لمؤشر الراديو وهو يتنقل بين الإذاعات ليتابع الأخبار، وجاء مكانى أثناء العشاء بجانب جمال عبد الناصر مباشرة. وقال لى جمال عبدالناصر: «أنا خايف عليك من الإرهاق والشقاوة، وأنا مبسوط إن عبد الحكيم عامر خصص لك شقة فى عمارة خاصة بالقوات المسلحة بالزمالك علشان تبعد عن شارع النيل اللى أنت ساكن فيه دلوقت، على الأقل علشان تبقى لوحدك وبعيد عن أى أجواء مزعجة لك، كمان لأن عمارة العجوزة اللى فى شارع النيل فيها أصدقاء كثير لك وأنت بتسهر معاهم وأنا خايف على صحتك». وقررت أن أهرب من هذا الحديث الذى يقول لى به عبد الناصر أنه يعرف كيف أقضى وقتى، وكان حديثا مليئا بالصدق، ولكن من قال إن صدق الوالد ومعرفته لتفاصيل حياة ابنه ليس مزعجا للابن، وما بالنا إن كان الذى يتابع هو جمال عبد الناصر، فقلت للرئيس جمال عبد الناصر: فيه مشكلة فنية نفسى أعرضها على سيادتك.
ضحك جمال عبد الناصر وقال: «أنا ممكن أحل مشكلة سياسية، لكن المشاكل الفنية طبعا ما أقدرش عليها» قلت: «مش معقول نبقى عايشين فى عصر معجزتين فنيتين هما السيدة أم كلثوم والفنان محمد عبد الوهاب وما نقدرش نسمع صوت أم كلثوم فى لحن لعبد الوهاب». قال جمال عبدالناصر: «لو كان الفن بيصنع بالأوامر كنت أصدرت للاثنين قرارا جمهوريا لينفذوا ما تقول عليه يا عبد الحليم». وقال عبد الوهاب: «اعتبر الأمر صدر يا أفندم». وقالت أم كلثوم: «حا أكون سعيدة لما ينفذ الأستاذ محمد عبدالوهاب وعده».



وفى طريق عودتنا من منزل كلود إستييه المعلق على هضبة المونمارتر. قال لى عبد الحليم: هل تظن أن أغنية «أنت عمرى» ستنجح نجاحا فوق العادة؟ قلت: هذا السؤال أسأله أنا لك، فأنت تعرف الاثنين أكثر منى.
قال ضاحكا: لقد رأيت ذكاء عبدالوهاب وهو يقترب من حساسية أم كلثوم، وسنرى ماذا أنتج الاثنان.
سألت عبد الحليم: هل أنت خائف من هذا الاقتراب؟ ضحك من قلبه وقال: أنت تعلم رأى الأستاذ أحمد بهاء الدين الذى يقول إن كل عمل ناجح يدفع بقية الأعمال الناجحة إلى مزيد من التألق.
∎∎
ولم أكن أعلم أن صيف عام 5691 وهو العام التالى سيشهد صدام الكوكبين، عبد الحليم وأم كلثوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.