الشاعر الفيلسوف محمد إقبال من الشخصيات المهمة التي قرأت لهم وعنهم كثيرا. ولا أدري لماذا جمعت من رفوف مكتبتي بعض الكتب التي تتحدث عنه كشاعر وفيلسوف، ووضعتها علي مكتبي وقررت أن أستضيف نفسي علي مائدته الشعرية والفلسفية إن صح هذا التعبير. ومن أهم هذه الكتب كتاب »رواد الوعي الإنساني في الشرق الإسلامي» للدكتور عثمان أمين، وكتاب »في تحديث الثقافة العربية» للدكتور زكي نجيب محمود. وقد حدثت لفيلسوفنا الشاعر حادثة صغيرة في صباه أثرت في حياته تأثيرا بالغا، حتي بعد أن نال درجة الدكتوراه في الفلسفة من ألمانيا ونال إجازة علمية أخري في القانون. والحادثة تلك وقعت عندما طرق سائل باب بيت إقبال بعنف، فنهره إقبال، ووجد والده خلفه والدموع في عينيه وقال له: تذكر يا بني جلال المحشر يوم تجتمع أمة خير البشر وارجع البصر كرة إلي لحيتي البيضاء وتحول جسمي المرتعش بين الخوف والرجاء كن يا بني من البراعم في غصن المصطفي وكن وردة من نسيم ربيعه واظفر من خلق محمد بنصيب وظل الرجل بعد ذلك حريصا علي أن يكون برعما في غصن المصطفي، وأن يكون واحدا من الداعين إلي فهم الإسلام بإنسانيته الرحبة. وعندما عاد الرجل من دراسته إلي وطنه اشتغل بالشعر والفلسفة والسياسة وانتخب الشاعر الفيلسوف عضوا بالمجلس الشريعي بالبنجاب، ثم ذهب إلي لندن سنتي 1931، 1932 للاشتراك في مؤتمر »المائدة المستديرة» واختير رئيسا لحزب مسلمي الهند، ورئيسا لجمعية »حماة الإسلام». وكان منتهي أمله أن يكون لمسلمي الهند دولة تضمهم، وقد تحققت هذه الأمنية فيما بعد علي يد محمد علي جناح وتأسست دولة باكستان. وواضح أن فلسفة إقبال في جوهرها كما يقول الدكتور عثمان أمين، ذات طابع ديني عميق، وهي في جوهرها تمجيد الإسلام، وبعث الحياة والقوة في المسلمين، وتبشير لهم بمستقبل مجد وفخار إذا ساروا في حياتهم علي هدي دينهم الحنيف. ويري أن خلاصة رسالة الإسلام عند إقبال هي إقرار الحرية، وتدعيم العدالة، وتوطيد المحبة بين البشر.. ويورد قول إقبال: »ليست غاية الإسلام محصورة في الواردات الذاتية التي تجعل المرء بمعزل عما حوله من الناس، بل بناء للتربية التي تجعل الفرد صالحاً لأن يكون منه ومن غيره مجتمع صالح له أنظمته القديمة، فإن العصبيات التي تدعو إلي البغضاء والتنفير، وضيعة ليس لها في الإسلام وجود». وقد أشار إقبال إلي ما في الحضارة الغربية من مزايا ومن عيوب، فمن عيوبها الإسراف الأوروبي في استعمال العقل إسرافاً جعل القلوب من الحكمة خواء، فتنكرت النفوس لقيم الحياة الروحية، وكان إقبال شديد السخرية من النفاق السياسي والنفاق الاجتماعي والنفاق الديني، وكان يقول: »وكل ذي لحية طويلة يتصدي للدعوة والإرشاد.. حمانا الله من قوم يتخذون الدين تجارة». ولإقبال كتاب عنوانه »تجديد الإسلام» يبرز أجمل ما فيه فيلسوفنا الدكتور زكي نجيب محمود بقوله: - لقد كان محمد إقبال بكتابه »تجديد الإسلام» نجما من ألمع النجوم بريقا في سماء الفكر الإسلامي الحديث، ولعل أبرز حقيقة مما أورده في ذلك الكتاب هي دور العقل في حياة المسلم كما أرادها له القرآن الكريم، فلقد كان الإسلام هو الديانة الوحيدة التي أحالت الإنسان إلي (عقله) فيما تستحدثه له الحياة من مشكلات. ومن هنا كان الإسلام آخر الرسالات الدينية، لأن الرسالة بعد ذلك أصبحت منوطة بعقل الإنسان، وإذا أخذنا باحتكام الإنسان إلي عقله، فقد اعترفنا ضمنا بضرورة احتكامه إلي »العلم» بما يكشفه عن حقائق العالم بمنهجه في البحث، وهو منهج فصلت القول فيه الكتب المختصة بهذا الجانب من الفكر العلمي، وحسبنا هذه اللفتة »الإقبالية» لنتجه بالفكر الإسلامي نحو آفاقه الجديدة. الوطن ليس هناك أغلي من الوطن، وقد جربت ذلك عندما سافرت خارج حدوده، كان يشدني الحنين إلي العودة إليه. وقد دارت علامات استفهام كثيرة في ذهني وأنا أقرأ عن وصية العالم المصري الكبير الحائز علي جائزة نوبل في الكيمياء الدكتور أحمد زويل بأنم يدفن في بلاده. وسرحت بخاطري إلي الوراء.. إلي التاريخ، ورأيت رجلا من أهم الشخصيات التاريخية وهو عبدالرحمن الداخل (ًصقر قريش).. هذا الرجل استطاع أن يهرب من المجازر التي اقترفها العباسيون عند قيام دولتهم ضد الأمويين.. وهرب الرجل وصادف صعوبات كثيرة حتي وصل إلي الأندلس، وهناك استطاع أن يقيم خلافة لا تقل عن عظمة الخلافة العباسية في بغداد، حتي أن ملوك أوروبا خاطبوا وده وتقربوا إليه. ومع كل ما وصل إليه من مجد لم ينس أيامه في الشام، وكان الحنين يشده بعنف إلي وطنه، وأرسل إلي أخته في الشام رسالة يبثها مشاعره وحنينه إلي موطن الآباء والأجداد. وقال في هذه الرسالة فيما قال: أيها الراكب الميمم أرضيِ أقر مني بعض السلام لبعضيِ إن جسمي كما تراه بأرضِ وفؤادي ومالكيه بأرضِ قدر البين بيننا فافترقنا وطوي البين عن جفوني غمضيِ قد قضي الدهر بالفراق علينا فعسي باجتماعنا سوف يقضي حقا.. إن الوطن هو أغلي ما يمتلك الإنسان.. يعشقه الإنسان حياً، ويتمني أن يكون الموت في أحضانه. وكم كان أمير الشعراء أحمد شوقي موفقا في تصوير مشاعره وحنينه إلي وطنه في منفاه بإسبانيا، وقد لخص هذه المشاعر وجسدها في قوله: وطني لو شغلت بالخلد عنهُ نازعتني إليه في الخُلد نفسي كلمات مضيئة والنفس كالطفل إن تهمله شب علي حب الرضاعِ وإن تفطمهُ يَنفَطِمِ »البوصيري»