كان الشاعر الفيلسوف محمد إقبال من كبار المنادين بضرورة تجديد الفكر الإسلامي، وقد شعر بأهمية هذا التجديد لانطلاق الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية بما يلائم التقدم العلمي المذهل، وبما يؤهل هذه الحضارة لتكون في مقدمة شعوب العالم وقيادته إلي حياة أكثر أملاً وإشراقاً وإنتاجاً. وهناك حادث حدث في طفولته ظل عالقاً في ذهنه في سنوات تكوينه النفسي والعلمي، وظلت بصماته لاتزول من نفسه طوال حياته انه يقص هذه الحادثة فيقول: وقع علي بابنا سائل وقوع القضاء، ورفع صوته كأنه نعيب غراب، وأخذ يهز الباب، ولما آلمني تصايحه وإلحاحه خرجت إليه، وأهويت علي رأسه بضربة بعثرت ما بيده مما جمعه طوال يومه. فلما رأي والدي ذلك اصفر وجهه الأحمر وانحدرت الدموع نهراً علي خديه وقال: تذكر يا بني جلال المحشر.. يوم تجتمع أمة محمد خير البشر، وارجع البصر إلي لحيتي البيضاء، ونحول جسمي المرتعش بين الخوف والرجاء. كن يا بني من البراعم في غصن المصطفي، وكن وردة من نسيم ربيعه.. واظفر من خلق محمد بنصيب. من يومها حرص محمد إقبال علي معرفة أمور دينه وما فيه من فضائل وأخلاقيات، بجانب ما فيه من عقائد وشرائع، وحرص علي أن يكون ملماً بتعاليم هذا الدين الحنيف. ومن أعمق من تناول حياة هذا الشاعر الفيلسوف الدكتور عثمان أمين في كتابه «رواد الوعي الإسلامي في الشرق الإسلامي» تناول فيه حياة هذا الفيلسوف الكبير وأفكاره وشعره، ودعوته إلي التجديد. ومحمد إقبال حفظ القرآن صغيراً، وواصل تعليمه حتي حصل علي الدكتوراه في الفلسفة من ألمانيا، كما درس القانون وحصل علي درجة فيه، وعاد إلي بلاده وانضم إلي جمعية - حماة الإسلام - وكان من المطالبين بدولة تضم المسلمين في الهند، تلك الدولة التي تحققت بالفعل علي يد محمد علي جناح المعروفة بالباكستان. وعمل اقبال بالسياسة واختير رئيساً لحزب مسلمي الهند ورئيساً لجمعية - حماة الإسلام - وكان من رأيه كما يقول الدكتور عثمان أمين أن الدين في أعلي صوره ليس أحكاماً جامدة ولا كهنوتية، ولا أذكارا ، ولا تيسير إلا بالدين تهيئة الإنسان المعاصر لحمل العبء الثقيل الذي يحمله إياه تقدم العلوم في عصرنا. وكان من رأيه أيضاً أنه لابد للإنسان من الارتقاء إلي تصور جديد لماضيه ومستقبله ليستطيع التغلب علي المجتمع المتنافر المتصادم، ويقهر هذه المدينة التي فقدت وحدتها الروحية بالتصادم الباطني بين الدين والمطامع السياسية. والحق أن مسيرة الدين والعلم مع اختلاف وسائلها ينتهي إلي غاية واحدة بل ان الدين أكثر من العلم اهتماماً ببلوغ الحقيقة الكبري. وخلاصة رسالة الإسلام عند إقبال هي: إقرار الحرية وتدعيم العدالة وتوطيد المحبة بين البشر. وكان إقبال يري أنه لا أمل للإنسانية في تحقيق السلام إلا أن تعمل علي التوفيق بين (عقل الغرب) وقلب الشرق. والنهوض لإقامة دعائم عالم جديد تسوده معاني الحب والعدالة والإخوة الإنسانية. ويري الدكتور زكي نجيب محمود في رؤي اقبال التجديدية كما أوردها في كتابه «تحديث الثقافة العربية».. أن إقبال بكتابه - تجديد الإسلام - نجم من ألمع النجوم بريقاً في سماء الفكر الإسلامي الحديث. ولعل أبرز حقيقة مما أورده في هذا الكتاب هو دور «العقل» في حياة المسلم كما أرادها له القرآن الكريم ويقول: فلقد كان الإسلام هو الديانة الوحيدة التي أحالت الإنسان إلي عقله فيما تستحدثه الحياة من مشكلات. ومن هنا كان الإسلام آخر الرسالات الدينية، لأن الرسالة بعد ذلك أصبحت منوطة بعقل الإنسان. وإذا أخذنا باحتكام الإنسان إلي عقله، فقد اعترفنا ضمناً بضرورة احتكامه إلي «العلم» بما يكشفه عن حقائق العالم بمنهجه في البحث.. وهو منهج فصلت القول فيه الكتب المختصة بهذا الجانب من الفكر العلمي.. وحسبنا هذه اللفتة «الإقبالية» لنتجه بالفكر الإسلامي نحو آفاقه الجديدة. مع السيرة العطرة كلما ازدادت شجوني، أجد الراحة في قراءة السيرة العطرة لخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. كم كان عظيماً في أخلاقه قبل البعثة وبعدها إن الأخلاق ترتفع عنده إلي مناسيب تفوق قدرة البشر. وعندما أسمع وأشاهد علي الفضائيات من قطع الرءوس، وإراقة الدماء، وما يجري من أحاديث حول السبايا والأسري وهذا التفكير الظلامي الذي لم يقره الإسلام يوماً، ولا كان في سيرة نبي الإسلام إلا العفو والتسامح واحترام آدمية الإنسان، والغريب أن كل ذلك الذي يحدث يحدث باسم الإسلام!. وفي سيرة الرسول الكريم أري من الصور المشرقة من نبي الإسلام ما يزهو به المسلم وهو يقتدي بأعظم رسل السماء في أخلاقياته وتواضعه وزهده وعدله. ما أعظمه وهو يتضرع إلي الله - تعالي - خاشعاً.. وهو يقول: اللهم إني بشر من البشر.. أغضب كما يغضب البشر.. فأيما رجل دعوت عليه، فاجعل ذلك زكاة ورحمة، وصلاة وطهورا، وقربة تقربه إليك يوم القيامة. ويقول الشيخ محمد أبوزهرة في كتابه «خاتم النبيين» وهو يستعرض السيرة العطرة، وما أتسم به الرسول الكريم من الرحمة: ان مقتضي الولاية الشفقة، ولقد دعا الرسول صلي الله تعالي عليه وسلم الولاة للرفق بالرعية، ودعا لهم ان رفقوا بها وأشفقوا ولم يروضوهم بقسوة أو ظلم أو استكراه أو اضعاف للنفوس، وقد قال عليه الصلاة والسلام في ذلك: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به.. ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه. ولقد أدرك هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله تعالي عنه - بهدي النبي صلي الله عليه وسلم، واتخاذه له قدوة فكان لا يولي إلا من يشعر بأن يكون في ولايته شفيقا رحيما.. إلا إذا وجب حد فإنه لا شفقة، والرحمة بالكافة تقتضي اقامته. ولقد دخل علي عمر رضي الله عنه رجل، وكان عمر قد اعتزم أن يوليه ولاية، فرأي عمر يقبل بعض ولده. فقال الرجل: أوتقبل ولدك يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم.. وأنت ألا تقبل ولدك؟ قال: لا. فقال الفاروق: وأنا لا أوليك.. من لم يرحم ولده لا يرحم رعيته. وما أجمل الابحار في السيرة العطرة، وما أعظم ما فيها من مواقف النبل والسمو والطهارة والشجاعة. انه كما يقول عنه خالد محمد خالد: - لقد أتاه الله من أنعمه بالقدر الذي يجعله أهلاً لحمل رايته، والتحدث باسمه ويجعله أهلاً لأن يكون خاتم رسله.. ومن ثم كان فضل الله عليه عظيماً.