في عام 2005 كان طلاب قسم اللغة الألمانية بكلية اللغات والترجمة ينتظرون بلهفة شديدة محاضرات د/ سيد فتح الله، كان من الممتع جدًا وقتها تلك اللحظات التي يحدثنا فيها عن ترجمته الجديدة ويقرأ لنا مقاطع منها، لم أعد أتذكر الآن بعد مرور أكثر من عشر سنوات سوي المشاهد التي رسمتها في مخيلتي لباحث الصحراء جيرهارد رولفس، أثارت حكاياته في نفسي ولعي القديم بالصحراء ومحاولات اكتشاف علومها وعوالمها، أحببت ثقافة د/ فتح الله الموسوعية واخترته صديقًا ومعلمًا علي النمط المتبع قديمًا لشيخ العامود عندما كان الطلاب يختارون معلمهم، وبعيدًا عن المناهج الدراسية والامتحانات كنت أجلس معه كثيرا نتكلم في أمور عديدة ونتبادل الكتب أحيانًا. قرب نهاية العام صدرت الترجمة العربية لكتاب راينر لانجنر حول اقتفاء آثار باحث الصحراء جيرهارد رولفس تحت عنوان (سر الصحراء الكبري) كنت قد حصلت سابقًا علي نسخة من الأصل الألماني، أسعدني للغاية إهداء المترجم في مقدمة الترجمة حيث أهدي عمله لكل مترجم. "يا سيدي، يا ابن الشمال المظلم البارد، أيمكن أن توجد أرض أجمل من الصحراء؟ إنها جنة الله التي أبعد عنها بعدله كل ما يقلق، ليكون لنا مكان نستطيع فيه أن نحيا بسلام ونواصل تفكرنا." في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عبر رولفس كأول أوروبي شمال أفريقيا عبورًا كاملا، ألتحق عام 1855 بفيلق الأجانب الفرنسي في الجزائر كطبيب جراحة عامة، وبعد حل الفيلق عام 1861 أدعي دخوله الإسلام وسمي نفسه مصطفي وقطع المغرب طولا وعرضًا حتي نال رضا سلطان المغرب وصار طبيبه الخاص، في عام 1862 اكتشف واحة تافيلالت، بعد ذلك قام بعدة رحلات استكشافية للصحراء الليبية حيث يعد رولفس أول أوروبي يصل إلي واحات الكفرة الليبية رغم معاناته من مخاطر شديدة كادت تودي بحياته؛ ربما كان هو السبب فيها بصلفه واحتقاره لثقافات وحضارات الأمم الأخري. "انطلقت مع خادمي ودليل من أهل طنجة، متخفيًا في ثياب مسلم. هذه في الحقيقة هي الوسيلة الوحيدة للتعرف علي هذه البلاد. قليلون أولئك الذين يمكنهم أن يعتادوا علي العادات العربية ويقبلوها! لا أحدثكم عن القمل فلا يمكن لأحد يزور فاس أو أي مدينة أخري أن يتجنبه، فجميع أهل الديار بدءًا من السلطان حتي أقل رجل مبتلون به، ثم يأتي دور الطعام فبغض النظر عن أنه مكرر ومكون غالبًا من عصيدة بلا لحم أو دسم، فإنه يعد بطريقة قذرة." كان رولفس كشافًا ماهرًا، وهب اهتمامه للصحراء، وظلت هي مقصد شغفه، أسهم في العديد من الكشوف الأثرية التي أظهرت الكثير من مراحل التاريخ المطمور في بحار الرمال. بعد ذلك دخل لعبة السياسة حيث شارك بتكليف من حكومته في الحيل السياسية التي وقعت علي الحبشة عام 1880 بتدبير بريطاني، فكان رولفس ممثلا للمصالح الألمانية في هذه المؤامرة، وختم حياته العملية عام 1885 كقنصل عام لألمانيا في زنجبار، وانتهت هذه الوظيفة بمهانة شديدة لازمته لبقية حياته، حيث عزل من هذا العمل بدعوي عدم الكفاءة. "يشترط للبقاء في الصحراء توافر أكثر استراتيجيات حفظ النوع اختلافًا، وهو أيضًا بمثابة نوع من تنظيم النسل. بعض النباتات العابرة تحتفظ حتي في موسم المطر ببعض بذورها القادرة علي الإنبات كضمان لبقائها، حتي لو فاجأت موجة من الحر جميع النباتات أو دمرتها عاصفة رملية، فإن كمية كافية من البذور الصالحة للإنبات تتشبث بأرض الصحراء انتظارًا للمطر القادم، فيبقي نوعها علي قيد الحياة." يقدم كتاب (سر الصحراء الكبري) صورة كاملة ذات أبعاد تاريخية وسياسية وجغرافية، فبجانب عرضه لسيرة رولفس يرصد أيضًا الثقافة السائدة آنذاك، أو بالأحري يجسد رؤية الأوروبي للشرق، تلك النظرة التي تكتسب أهمية خاصة بتزامنها مع بداية عصر الاستعمار الغربي للبلدان العربية، كذلك فقد ترك أيضًا الرحالة الألماني جيرهارد رولفس عددا لا بأس به من الرحلات المدونة في كتب أهمها: رحلة عبر المغرب، أفريقيا البلد الساكنة، من طرابلس إلي الإسكندرية، ثلاثة أشهر في صحراء ليبيا. رحلة إلي شبه الجزيرة العربية عام 1760 أمر فردريك الخامس ملك الدنمارك برحلة علمية هدفها كتابة تقرير شامل عن الجزيرة العربية وسوريا ومصر، واقترح أحد أساتذة نيبور مشاركته في الرحلة، علي الفور تحمس نيبور وبدأ في تلقي دورة علمية مدتها عام ونصف تقريبًا درس بها علم الرياضيات والمساحة والخرائط وبعض الدروس في اللغة العربية بشكل مكثف ليتسلم موقعه في البعثة كمساح وراسم للخرائط. أبحرت الحملة لتصل إلي الإسكندرية ثم القاهرةوالسويس لتصل إلي جدة ثم المخا في اليمن، لقد كتب نيبور عن كل تلك المناطق التي زارها أو مر بها في طريقه، ورسم لها خرائط، وتحدث عن السكان والقبائل والمذاهب والأديان، ثم طالت فترة بقائه في اليمن فزار صنعاء وبيت الفقيه وأبو عريش وغيرها. "إن أدوات الفلاحة التي يستعملها المصريون سيئة جدًا، والمحراث فيها ليس أفضل من تلك التي يستعملها العرب والتي ذكرتها في وصفي لشبه الجزيرة العربية، بدلا من استعمال الأمشاط لتمهيد الأرض، يلجأ المصريون إلي شجرة أو خشبة سميكة يربطون علي طرفيها حبلا ويعلقونها بالثيران. يوضع النغاف عادة علي الشجرة أو الخشبة لأن فلاحي مصر لا يحبون السير خاصة عندما تسنح الفرصة لجرهم. ولا يزال المصريون حتي اليوم يستعملون الثيران لطحن القمح كما كان يفعل الإسرائيليون في أيام موسي". أصيب رفاق نيبور بالملاريا ولم تكن مرضًا معالجًا في تلك الأيام، وهو أيضًا أصيب بمرض خطير لكنه تحامل علي نفسه وتكيف مع مرضه إلي أن شفي كما يقول بإتباع العادات الغذائية السائدة هناك، بينما قضي جميع أفراد البعثة نحبهم ولم يعد سالمًا سوي نيبور، فقد انتقل إلي الهند ثم عاد إلي مسقط وتجول بها وكتب عنها، ثم زار إيران، ومنها انتقل للعراق فمكث في بغداد فترة طويلة نسبيًا، بعد ذلك زار اسطنبول ثم فلسطين، ومنها أبحر إلي قبرص ليعود إلي وطنه عام 1770 تقريبًا، وبقي حتي وفاته عام 1815 . "بالرغم من أن الموت قد غيب رفاقي، لكن لا ينبغي اعتبار أعمالهم كأنها هباء منثورًا، إذ أن السيد فورسكال قد قام بعمل جبار حتي مرض، وزودني بمعلومات مهمة حول التاريخ الطبيعي، كما ترك السيد دي هافن معلومات دقيقة حول الرحلة من كوبنهاجن إلي القاهرة، ومن السويس إلي جبل سيناء". علي مدار قرن ونصف تقريبًا ظل كتاب الرحالة الألماني كارستن نيبور (رحلة إلي شبه الجزيرة العربية) المرجع والنموذج لكل من يريد أن يعرف شيئًا عن بلاد العرب، إن ميزته العظيمة كمرجع علمي تعود بالدرجة الأولي إلي شدة نيبور في ضبط نفسه، فصارت تلك الموضوعية التي تميز كتابه تملأ القارئ بالثقة في دقة ملاحظات المؤلف وتعليقاته. كما سجل نيبور بدء ظهور الحركة الوهابية بعد أن أدرك ببعد نظره خطورتها وطاقتها المتنامية في الجزيرة العربية. وملاحظات نيبور عن الإسلام عمومًا تميل إلي الإيجابية، فقد عرف أن النبي دعا إلي الإيمان بدين أكثر بساطة في الأصل مما أضاف إليه المفسرون والمؤولون فيما بعد من تعقيدات، وفي الكلام عن الحركة الوهابية يقول: "منذ حين من الزمن نشأت حركة دينية جديدة، أشعلت ثورة في أرجاء شبه الجزيرة العربية، ومن المحتمل فيما بعد أن يزداد نفوذها في البلاد..." منذ صدور كتاب نيبور عام 1772 حدثت أمور كثيرة في منطقة الشرق الأدني مما زاد من فضول الأوربيين لزيارة هذه البقاع ومعرفة المزيد عن قلب الجزيرة العربية. فقد تحققت نبوءته بشأن حركة الوهابيين التي أخذت تجتاح أرجاء الجزيرة العربية، وحملة نابليون علي مصر والشام، وانتصار محمد علي علي المماليك، كل ذلك ساعد علي مضاعفة اهتمام أوروبا بالشرق الأدني. "إن الذين يقرؤون العمل للتسلية وإزجاء الوقت، يستمتعون حين يروي المسافر قصصًا هزلية عن طريقة حياة الغرباء، وعن المصاعب التي واجهها، ويعد هذا بالفعل أكثر إمتاعًا من مجرد وصف جاف للمدن والطرقات التي مرت بها البعثة، لكن محاولة تسلية القارئ ستدفعني إلي إهمال الأبحاث المفيدة هدف الرحلة. لكني أيضًا لم أتمكن من كبت شعوري حين وجدت أن العرب لا يقلون إنسانية عن الأمم الأخري التي تدعي الأدب والتهذيب، ولقد أمضيت في البلاد التي زرتها أيامًا ممتعة وأخري مزعجة." رحلات بوركهارت في بلاد النوبة والسودان الحاج إبراهيم عبد الله اللوزاني، هكذا اشتهر الشاب السويسري يوهان لودفيج بوركهارت بعد تنكره كتاجر مسلم هندي لكي يبرر أي لكنة أجنبية تبدو في نطقه العربي، أقام في حلب منذ 1809 تمكن في تلك الفترة من إتقان العربية، ثم سافر إلي لبنان وحوران وشرقي الأردن، واهتم كثيرًا بما شاهده من آثار وكتابات قديمة، وأثناء طريقه إلي القاهرة في منتصف 1812 أعاد اكتشاف آثار البتراء القديمة مما أذاع شهرته بين علماء الآثار في كل مكان في العالم. "كنت قد اتخذت إسنا مستقرًا، وهي تبعد ثلاثة أيام عن دراو محطة قيام القافلة. ولما كنت أوثر ألا يعرف الناس عن أمري كثيرًا، لذلك لم أكن أخالطهم إلا في الضرورة القصوي، وارتديت أحقر ما يرتدي أهل مصر من ثياب، ولم أنفق من المال إلا أقله؛ فنفقتي اليومية علي نفسي وعلي خادمي وبعيري لم تزد علي شلن وستة بنسات". كانت خطة بوركهارت أن يبدأ رحلته الاستكشافية الأفريقية من مصر فيلتحق بقافلة إلي فزان ، وبعدها يواصل رحلته لاكتشاف منابع النيجر. وبينما كان ينتظر القافلة في القاهرة تمكن من مقابلة محمد علي باشا، الذي أعجب بشخصيته وعلمه، وأمده بتوصيات للقيام برحلته إلي النوبة، لكن جاءت هذه التوصية نكبة عليه فقد أعتبروه هناك جاسوسًا لباشا مصر فمنع من مواصلة رحلته، فألتحق بقافلة من الصعيد إلي سجندي عبر الصحراء النوبية، وفي سجندي تحول مع قافلة أخري إلي البحر الأحمر حيث أبحر إلي جدة. "مررنا في الصباح بضريح شيخ يدعي الشيخ برغوت، وللضريح قبة بناها علي البر الملاحون الذين يقدسون الشيخ ويعتبرونه وليًا لهم وحاميًا. ورأينا الكثير من الدلافين، وهي في حجمها وشكلها شبيهة بما تراه منها علي ساحل مصر قرب مصاب النيل. ولم يسمح لي البحارة أن أرمي واحدًا منها برمح لأن جرح دلفين منها في اعتقادهم شؤم علي الرحلة". حقق بوركهارت بعض الأهداف من رحلته إلي بلاد النوبة؛ فعرف طبيعة المنطقة، جبالها ووديانها ومناخها ونباتاتها وطرق ريها ومواسم حصادها وحيواناتها وطيورها، وأيضًا مناطق التعدين بها، كما عرف عادات أهلها وتقاليدهم وأصولهم وأسلافهم، وكذا المعابد الكثيرة المنتشرة هناك مثل أبو سمبل قبل اكتشاف بلزوني بحوالي ثلاثين عاما وكلابشة والدكة وقورته وقرشه ومرواو وبلانه. سجل بوركهارت مذكراته سرًا وعلي عجل أحيانًا تحت عباءته أو خلف جمله خوفًا من اكتشاف أمره وإثارة شكوك مرافقيه في حله وترحاله. وترك في وصيته كل ما جمعه من مخطوطات عربية تبلغ الثمانمائة مجلد لجامعة كامبردج، التي بدأ فيها دروسه العربية الأولي. الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان يمثل د/ أبو العيد دودو خير نموذج لما يعرف بمسئولية المثقف نحو وطنه ومجتمعه وهويته، فبجانب كونه قاصًا وناقدًا أدبيًا وأستاذًا جامعيًا عمل علي مشروع ضخم لترجمة ما كتب عن الجزائر عبر الرحالة الألمان، وكان للرحالة هاينريش فونتمالتسان النصيب الأكبر من أعماله فترجم له مجموعته الضخمة المعروفة باسم (ثلاث سنوات في شمال غربي أفريقيا)، وقصة أدبية من ثلاثية كتبها مالتسان عن الجزائر في القرن التاسع عشر، بالإضافة إلي رواية طريفة بعنوان (مدخنو الحشيش في الجزائر). من الجدير بالذكر كذلك أن مالتسان أيضًا تنكر في زي حاج مسلم عام 1860 وذهب لأداء فريضة الحج رغبة منه في التقصي بعمق وعناية في حياة الشعوب الشرقية وبالأخص العربية، وزار مكة تلك المدينة بحسب تعبيره التي لم يرها إلا اثنا عشر أوروبي، ودون تفاصيل رحلته تلك في تقرير ضخم نشره تحت عنوان (رحلة حجي إلي مكة) تعمل حاليًا د/ ريهام سالم علي ترجمته. جمع د/ دودو من مكتبة جامعة فيينا مذكرات بعض الرحالة الألمان الذين أقاموا مدة في الجزائر، رغبة منه في مساهمة كتابه (الجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان) في تحديد ملامح الشخصية الوطنية من خلال ما كتبه هؤلاء الألمان، مع إلقاء الضوء علي الظروف التي كانت تعيشها الجزائر آنذاك، للإطلاع علي حقيقة الصراع الذي عاصره الأجداد، وطرح أفكار وآراء تختلف عن تلك الدراسات والنصوص التي كانت تستهدف تجريد الشعب الجزائري من كل ما له من مميزات وسمات عريقة. »إن هذه الحرب إنما هي حرب ضد الأحياء والأموات، وسخرية من تراب الأجداد بقدر ما هي سخرية من المجد والتاريخ والعلم، فقد حطم الجنود أعمدة المعبد المرمرية لمجرد أنها كانت تقوم وسط الطريق المؤدي إلي الخمارة، ونزعوا عنها ما كان فوقها من نقوش، لأن الحجارة الملساء أنسب للبلاط!». كان ضمن هؤلاء الرحالة الذين جمع المترجم بعض مذكراتهم: فيلهلم شيمبر، فرديناند فنكلمان، هرمان هاوف، موريتس فاجنر، كليمانس لافينج، لودفيج بوفري. من كل ما سبق ندرك أهمية الدور الذي لعبه الرحالة الألمان، أو الناطقون بالألمانية، في تطوير النظرة الأوروبية للشرق، وجعله موضوعًا دراسيًا خاضعًا للبحث العلمي بدلا من التعصب والخرافة. وقد رسم الرحالة الأوائل صورة غامضة غريبة للشرق الأدني، فحاول من جاء بعدهم تصحيحها حتي أصبحت أقرب إلي الحقيقة. ويكفي هؤلاء الرحالة فخر المساهمة في إزالة كثير من سوء الفهم والتعصب، فالمعرفة الصحيحة تزيل الخوف والعداء، وتقيم أسسا جديدة للتفاهم والصداقة.