إعلان صغير في إحدي الصحف الكبري، ربما لم يلفت الأنظار كثيرا، لكنه كان يحمل مأساة كبيرة، وتنطوي سطوره علي قصة رائعة لا محل لها من الإعراب إلا بين أبناء وأنصار ومشجعي الزمن الجميل! الإعلان كان في خانة "للبيع".. تقول كلماته القليلة: "بيانو كلاسيك من القرن التاسع عشر، مطعم بالأصداف الملونة، لأعلي سعر!".. لم يتوقف كثيرون أمام الإعلان في زمن تقزمت فيه القيم وتعملق الانحدار! أيام كثيرة مضت دون أن يتصل أحد بتليفون منال غير ثلاثة، أحدهم سخر منها لأنه يسأل الله حق النشوق وهي تبحث عمن يشتري بيانو كلاسيك.. واثنان داعباها بسؤال محدد وواضح.. "هل أنت مخطوبة"! أغلقت منال الخط في وجه الأول قبل أن يستطرد في سؤاله: "يعني حضرتك مرتبطة".. وانهت مكالمة الثاني حينما استكمل سؤال : "حضرتك يعني مدام أم آنسة"؟!.. قررت منال أن تنسي الإعلان والبيانو وتركز في بيع شقتها واختيار أحد المشترين الذين تسابقوا علي الشراء! لم تنم منال ليلتها حتي استقرت علي أن يكون المشتري هو عم هاشم رغم أنه لم يقدم غير أقل العروض.. مازالت أماني رغم محنتها وصدمتها في الحالة التي أصبح عليها الناس من إيمان مطلق بالمادية وابتعاد تام عن قيم الرومانسية والوجدان والمشاعر النبيلة، مازالت أماني تتصرف بقوانين الزمن الجميل قدر استطاعتها، فإن هي باعت شقتها لابد أن تمنحها لمن يستحقها ويحتاجها. وليس لصاحب السعر الأعلي.. وكثيرا ما يكون من يستحق ويحتاج الشيء عاجز عن المضاربة والمزايدة والمنافسة.. لهذا استقر رأيها علي اختيار عم هاشم.. بل شعرت أماني أن عليها التكفير عن هذا الخطأ الفادح حينما وافقت علي صيغة إعلان بيع البيانو التي انتهت بكلمتي "لأعلي سعر"! فالبيانو قيمة.. والقيم لا تدخل المزاد! صباح اليوم التالي اتصلت أماني بعم هاشم.. حررت له عقد البيع.. ووافق الرجل بعد سداد الثمن علي أن تظل أماني بالشقة حتي بداية الشهر القادم موعد انتقالها إلي شقتها الجديدة! كادت عقارب الساعة تتوقف.. اللحظات تمضي في بطء.. وشريط الذكريات يثير في أعماق أماني مشاعر متباينة.. عاشت في هذه الشقة أجمل سنوات عمرها مع زوجها حامد أحد سفراء الزمن الجميل.. ورغم أن كلاهما كان شغوفا بالإنجاب مع بدء حياتهما الزوجية إلا أنهما سرعان ما نسي كل منهما هذه الأمنية فوق أنغام البيانو الذي يعشقانه وتحرص عليه أماني باعتباره ورثها الوحيد عن أبيها وجدها.. جمع "البيانو" بين مشاعر أماني وحامد سنوات طويلة عاشاها في هذا الحي الشعبي المشغول دائما بأخبار الفكة وأحلام الجنيه والبحث عن لقمة العيش.. لكن حامد خذلها ومات.. وتركها وحيدة.. معاشه الوحيد كمدرس للموسيقي لم يكن يكفيها الأيام الأولي من كل شهر.. أما هي فلم يكن لها مرتب أو معاش لأن حامد رفض أن تعمل زوجته بكل ما تحمله عقلية الشرق وطبائع الصعيد الذي ينتمي إليه من تحفظات علي عمل المرأة! ويمضي شريط الذكريات حافلا بالمشاهد.. حاولت أماني الخروج إلي المجتمع فإذا بها تصطدم بكل أعداء الرومانسية والقيم وأخلاقيات الزمن الجميل حتي ادركت أنه لا مكان لها وسط هؤلاء إلا إذا صارت مثلهم، وارتدت الأقنعة المطلوبة.. كل يوم له قناع.. بل كل مناسبة.. وكل إنسان.. وكل موقف.. ادركت أنها تعيش وسط غابة كبيرة من البشر.. وأن عليها الحرص من الإنسان الذئب، والمرأة الثعبان، والانتهازي البلياتشو! .. هذا إنسان كالأسد يشفي جوعه بلحم فريسته غير عابئ بصراخها.. وذلك إنسان في شكل السلحفاة ومكر الثعلب وسرعة الأرنب الخائف.. وذاك كالغراب لا يوجد إلا من الخراب.. هذه المرأة كالحية الرقطاء ليس لديها مانع من أن تتغذي علي صغار البلابل وهي تغرد.. وتلك امرأة في رقة الغزلان ورشاقتها، البعض يستمتع بالنظر إليها دون أن يتقرب منها.. والبعض لا يجد متعته إلا في نهش لحمها!.. امرأة سلحتها الطبيعة بأنوثة صاعقة.. وامرأة جردتها الطبيعة من كل سلاح.. الجميع في الغابة.. ولا قانون في الغابة غير قانون القوة.. لا مكان للضعفاء حتي لو كانوا شرفاء.. أو ممن يحملون عضوية الزمن الجميل أو من المشتركين في نادي القيم والرومانسية والوجدان.. الغابة هي الغابة.. أحيانا تصبح مثل السيرك وتثير الضحك.. لكنه ضحك كالبكاء! ظلت منال تسترجع الذكريات.. أدهشتها أنها نجت من كل الأنياب الجائعة في الغابة كل هذا الوقت.. عذرت نفسها حينما اتخذت أخطر قرار في حياتها ببيع البيانو حتي يقوي قلبها ويتناسب وجدانها مع نشاز الأيام التي صارت تحياها.. تترك الحي وتبتعد عن هذاالمسجل خطر الذي يطاردها في كل مكان معتقدا أن كل امرأة بلا رجل تكون حقا لأي رجل!.. منطق غريب.. نص من نصوص الغابة التي يرتع فيها الأشقياء والمسجلون خطر ومنعدمو الضمير والأخلاق! قبل أن تترك شقتها بيومين طرق بابها زائر لا تعرفه.. قدم لها نفسه بكل رقة جذبت انتباهها. - ".. أنا المهندس فريد.. اعذريني لأني تأخرت لظروف مرضي عن الحضور لشراء البيانو.. أنا من عشاق الموسقي والتراث.. مستعد أن أدفع شيكا مفتوحا مقابل هذا البيانو!". تجاذب الاثنان أطراف الحديث حتي وافقت منال علي بيع البيانو لفريد.. لكنها استجابت لنداء قلبها وقبلت دعوة فريد لزيارته في شركته.. هناك بهرها ثراؤه وقوة شخصيته.. دق قلبها لغرامه، وحينما تحب المرأة يبدو القمر أكبر.. والشجر قبل الربيع تراه أخضر.. مع الاعتذار لكوكب الشرق. تزوجت منال وفريد.. لكن سرعان ما تكشف منال أنها لم تدخل العش الهادئ للزوجية وإنما دخلت وكرا من أوكار الغابة.. كل يوم يمضي وكل ساعة تكتشف أن زوجها الحقيقي مزيف.. وأنه رجل آخر غير الذي أحبته.. فلا هو يحمل بكالوريوس التجارة ولا أي مؤهل عال أو متوسط.. نصاب تحاصره قضايا شيكات بلا رصيد.. زير نساء لا يقنع من النساء بواحدة.. ولا حتي عشر نساء.. يتاجر في الممنوعات والمهربات.. لكن أحدا لا يمسك بدليل إدانة ضده! فكرت أماني في الإبلاغ عنه، لكنها كانت واثقة من أنه ربما خرج من الاتهامات مثل خروج الشعرة من العجين.. بكت طويلا حينما تذكرت المرحوم وأخلاقه وما شاهدته في الغابة بعد رحيله.. حطمت البيانو في لحظة غضب.. هربت من وكر الزوجية.. اختارت حلا وسطا.. أقامت دعوي تطليق أمام المحكمة.. وقالت في أسباب تطليقها أن زوجها متهم بالتزوير لأنه أثبت في عقد الزواج انه مهندس معماري بينما لا يحمل مؤهلا.. وقالت أيضا أنها تحمل بكالوريوس التربية الموسيقية ولا يعقل أن يكون زوجها جاهلا دلس عليها وأوهمها بمكانته الاجتماعية كخريج للجامعات.. ورد الزوج بأنه ينفق علي زوجته ويجعلها تعيش في رغد تحسدها عليه أي امرأة ولم يقصر في حقوقها من جميع النواحي.. وأن السعادة الزوجية لا يخلقها المؤهل الجامعي.. ورفضت الزوجة دفاعه وقدمت ما يثبت أن زوجها صدرت ضده أحكام قضائية بالحبس مما يصيبها بالضرر! عزيزي القارئ بماذا تحكم لو كنت القاضي في هذه الدعوي رفض دعوي أماني تطليق أماني لعدم التكافؤ تطليق أماني لأن زوجها خدعها بتزوير عقد الزواج تطليق أماني للضرر المتمثل في حب الزوج.