يسعدني أن اسوق هذه الحكاية ليطلع عليها كل الذين يتوقون للجلوس علي الكرسي، سواء كان كرسي الحكم أو كرسي الناظر في أصغر مدرسة في أبعد نجع من نجوع مصر المحروسة. يحكي أن أبا جعفر المنصور حج ذات عام، فبينما هو يطوف بالبيت ليلا إذ سمع قائلا يقول: »اللهم إنا نشكو إليك ظهور البغي والفساد في الارض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع» فأرسل إلي الرجل، الذي أقبل مع الرسول، فقال له المنصور: ما الذي سمعتك تذكر؟ قال: إن أمنتي أعلمتك بالامور من أصولها، قال : فأنت آمن علي نفسك، فقال: أيها الامير، إن الله استرعاك أمر عباده، فجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص، وأبوابا من الحديد، وحراسا معهم سلاح، ثم سجنت نفسك منهم، وبعثت عمالك في جباية الاموال، وأمرت ألا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال الملهوف والمظلوم إليك، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك النفر - الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم علي رعيتك، وأمرت أن لا يحجبوا دونك - تجبي الاموال وتجمعها قالوا : هذا خان الله، فما لنا لا نخونه، فتأمروا ألا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أحبوه ولا يخرج لك عامل إلا خونوه عندك وعابوه حتي تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم، أعظمهم الناس وهابوهم، وصانعوهم ليصلوا إلي ظلم من دونهم، وصار هؤلاء القوم شركاءك وأنت غافل، فإن جاء متظلم حيل بينك وبينه، وإن أراد رفع قضية إليك وجدك قد نهيت عن ذلك، وأنت تنظر فلا تنكر! فبكي المنصور بكاء شديدا وقال: ويحك، وكيف أحتال لنفسي؟؟، قال الرجل: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلام يفزعون إليهم في دينهم، ويرضون بهم في دنياهم وهم العلماء وأهل الحكمة، فأجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم ، فقال: قد بعثت إليهم فهربوا مني، فقال : خافوا أن تحملهم علي طريقتك، ولكن افتح بابك ، وسهل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفئ والصدقات علي وجوهها، وأنا ضامن عنهم أنهم يأتونك ويساعدونك علي صلاح الأمة.