جاء فى (عيون الأخبار) لابن قتيبة ت 276ه : «بينما المنصور يطوف ليلا إذ سمع قائلا يقول: اللهمّ إنى أشكو إليك ظهورَ البغْى والفساد فى الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطَّمع. فخرج المنصور، وأرسل إلى الرجل يدعوه، وقال له: ما الذى سمعتُك تذكر من ظهورالبغى والفساد فى الأرض وما يحول بين الحقّ وأهله من الطمع؟ قال الزاهد:إن أمّنْتَنى على نفسى أنبأتُك بالأمور من أصولها. فقال المنصور: انت آمن على نفسك فقلْ. فقال الزاهد: إنّ الذى دخله الطّمع حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغى والفساد (أى أخفاه عنه) هو أنت! قال المنصور:وَيْحكَ! وكيف يدخلنى الطّمعُ والصفراء والبيضاء فى قبضتى (أى أملك الذهب والفضّة) قال الزاهد: وهل دخل أحد من الطمع ما دخَلَك؟ إن الله تبارك وتعالى استرعَاكَ المسلمين وأموالهم فأغفلْت أمورَهم واهتَمَمْتَ بجمْع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حِجابًا، وأمرتَ بألاّ يدخل عليك من الناس إلاّ فلانٌ وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوفِ ولا الجائع العارى ولا الضعيف الفقير، فلما رآك هؤلاء النفرُ الذين استخلصتَهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرتَ ألاّ يُحجبوا عنك - رأوك تجبى الأموال وتجمعها ولا تقسمها قالوا: هذا قد خانَ الله فما بالنا لا نخونُه وقد سجَنَ لنا نفسه؟!فاتفقوا بألا يصلَ إليك من علم أخبار الناس شىءٌ إلاّ ما أرادوا، ولا يخرجَ لك عاملٌ فيخالفَ أمَرهم إلاّ (عابوه) عندك، حتى تسقط منزلته ويصغرَ قدرُه.فلما انتشر ذلك عنكَ وعنهم،أعْظمَهم الناسُ وهابوهم؛ فكان أوّلَ مَنْ جامَلهم عمالك بالهدايا والأموال ليقْوَوْا بها على ظلم رعيتك، ثم فعَل ذلك ذوُو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلمَ مَنْ دونهم (أى من تحت نفوذهم) فامتلأتْ بلادُ الله بالطمع بغيا وفسادًا وصار هؤلاء القوم شركاءَك فى سلطانكَ وأنتَ غافلٌ، تنظر ولا تنكر، ولا تَغلب رأفتُك بالمسلمين على شحّ نفسك؟!